د. قاسم المحبشى يكتب: الفلسفة سوء فهم أم تكرس جهل

د. قاسم المحبشى يكتب: الفلسفة سوء فهم أم تكرس جهلد. قاسم المحبشى يكتب: الفلسفة سوء فهم أم تكرس جهل

* عاجل30-6-2020 | 13:27

«عندما يتنكر الناس للعقل فإن مختلقات خيالهم تتضخم وينغمسون في مهاوي الأوهام والأخطاء» الفلسفة واحدة من الكلمات القليلة التي تعرضت لسوء فهم لاحدود له ،وارتكبت بحقها شناعات لاسبيل لحصرها ،وألصقت بها معان وتصورات ليست من طبيعتها في شيء ،كالسفسطة والهراء والتعقيد والغموض والزندقة ..وغير ذلك من الأحكام والنعوت السلبية التي نالت من سمعة«أم العلوم» وملكة الحكمة وأميرة المعارف وشوهت صورتها في تاريخ الفكر العربي الإسلامي القديم وفي الوسط الثقافي والتعليمي والرأي العام العربي الراهن. فإذا ماتحدث شخص ما باسهاب ،سرعان مايرد عليه بالقول المكرور«بلاش فلسفة" وإذا ما أراد المرء أن يحلل ظاهرة أومشكلة اجتماعية أوثقافية باسلوب التفكير النظري يتهم بالتعقيد والتفلسف. ألا يكفي الفلسفة فخراً وسمواً أن معناها الحرفي هو«محبة الحكمة» «فيلو» حب «وسوفيا» الحكمة وهي إذ جمعت في بنيتها العميقة بين الحب والحكمة فإنها حميمية الصلة بالإنسان أنها وليدة اقتران القلب والعقل ثمرة الزواج المقدس بين أقوى وأنبل عاطفة انسانية «الحب» وأسمى وأجل مزية تميز بها الانسان عن الحيوان العقل «الحكمة» وفعل «أحب» اليوناني يعني وافق وانسجم أو تكلم بلغة العقل إلى الحكمة فمن ذا الذي يكره الحكمة قال تعالى«وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم» البقرة الاية«216» وقال عزوجل«ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً» البقرة الآية«269».ما أن الفلسفة مشروع انساني فهي شديدة الاتصال بالعقل الذي يعد السمة الجوهرية التي ميز الله سبحانه وتعالى بها الإنسان عن سائر مخلوقاته والعقل هو القدرة على التمييز والفهم والحكم ،ومن الاخطاء الشائعة الاعتقاد بأن العقل هو عضو من اعضاء الجسم إذ يتم المطابقة عند البعض بين العقل والمخ أوالدماغ بمعنى واحد وهذا غير صحيح. ليس هناك شيئا ملموسا محسوسا اسمه العقل ،بل العقل مفهوم مجرد يطلق على ممارسة أونشاط يباشره الانسان في أثناء ممارسته لحياته اليومية ،ومع ذلك يظل مفهوم العقل أهم وأخطر المفاهيم التي مارست تأثير ساحق على حياة المجتمع الانسان ،ويتجدد نظام كل ثقافة أوحضارة من المعنى التي تمنحه للعقل والموقف التي تتخذه منه.لاريب أن أحد المصادر الكبرى لقدرات الانسان العقلية والطبيعية ذاتها هي المذاهب الدينية والقانونية في حضارة من الحضارات وأهم هذه المصادر الصورة الميتافيزيقية الأوسع التي تجرى ضمنها أنماط الخطاب وتشكيل في فضائها أهم المفاهيم التي تشكل تصورات الانسان عن نفسه تشكيلاً عميقاً ،فأما أنها تدعم قواه العقلية أوتضيق عليها وقد ضيق مهندسو الفكر العربي الاسلامي الاطر العقلية للانسان ومن ثم رفضوا قدرة الانسان على معرفة أسرار الطبيعة وفك مغاليقها ،واثارة الشكوك حول قدرات الانسان العقلية ووضعوا العراقيل حول امكانية التفكير العقلاني بآيات الله الذي دمر البشر بالتفكير فيها في قول تعالى: «أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وماخلق الله من شيء»الاعراف الاية 185 وقوله تعالى:«ويتفكرون في خلق السموات والأرض«آل عمران الآية «191» وقوله تعالى «فاعتبروا ياأولي الابصار». لكن مالم نعرفه أن هذا العلم الذي ازدهر في ديار غيرنا لم يكن له أن يزدهر أويصل إلى ماوصل إليه ألا يفسح المجال للتفكير الفلسفي الحر واعلاء شأن العقل ومنح الثقة للانسان الذي أمره الله بتعمير الأرض وسبر اغوارها. إن غياب مفاهيم الطبيعة والقانون الطبيعي ،والانسان والضمير والعقل وحرية التفكير من آفق الثقافة الإسلامية أفضى بالمحصلة الأخيرة إلى العجز الكلي عن انجاز الطفرة العلمية الحديثة التي انحصرت في أوروبا الغربية واخفقت في حضارتنا العربية الإسلامية. كان العرب في كل حقول العلم .. في طليعة التقدم العلمي ...إذ أن ما حققه العرب يثير الإعجاب إلى حد يدعو للتساؤل عن السبب الذي منعهم من اتخاذ الخطوة الأخيرة باتجاه الثورة العلمية الحديثة ؟ ويضيف " كان العرب قد وصلوا إلى حافة أعظم ثورة فكرية حدثت في التاريخ، ولكنهم رفضوا الانتقال من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي) حسب تعبير(Koyre  كويري). وبما أنهم عجزوا عن اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة في بداية العصر الحديث، فإن البلاد الإسلامية لا تزال تتمسك بالتقاويم القمرية" وفي سياق تناوله للبُنى الثقافية والمؤسسية التي حالت دون مقدرة العلم العربي على اتخاذ تلك الوثبة الحاسمة من الباراديم التقليدي المغلق إلى الباراديم الحديث الجديد توصل هب إلى نتائج بالغة الخطورة والأهمية اليكم بعضها: 1- لم يكن لعلماء الطبيعة العرب دور معترف به اجتماعياً وثقافياً وسياسياً يوازي دور الفقهاء من حيث السلطة والنفوذ، بل كانت بنية الفكر والعواطف في الإسلام في القرون الوسطى بشكل عام ذات طبيعة جعلت طلب العلوم الوضعية والعقلية وعلوم الأولين أمراً يثير الشكوك ويجلب لأصحابها كثيراً من المتاعب والتهم الخطيرة على حياتهم. 2- كانت سلطة الفقهاء وسطوتهم شاملة بحيث لم يتركوا شيئاً للعلماء والفلاسفة ليقولوه، بل إن الفلاسفة وعلماء الإنسانيات لم يكن لهم وظيفة ودور معترف بهما في المجتمع، ومن ثم لم تكن لهم حماية، إذا ما أردوا التعبير عن آرائهم بشأن القضايا الفكرية بحرية، كمسألة خلق العالم، والعلية الطبيعية، والحرية الإنسانية، وما إذا كان بإمكان الإنسان الوصول  إلى المبادئ الأخلاقية عن طريق الرؤية العقلية بعبارة توماس كون. -3 غياب البنية المؤسسية القانونية؛ أي عدم وجود الجماعات ذات الشخصية القانونية الاعتبارية المستقلة في الحضارات العربية الإسلامية؛ إذ لم تكن مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي مؤسسات قانونية مستقلة، بل كانت المدارس ملحقه بالمساجد، وكانت المدارس مكرسة لتعليم علوم الدين والحساب، وتستبعد العلوم الطبيعية، فضلاً عن أن المدارس كانت مؤسسات خيرية وقفاً دينياً تنفذ رغبات وأهداف أصحابها الدينية وغير الدينية، كما أن نظام التعليم كان يعتمد على الصفة الشخصية، وكان الشيخ أو الفقيه هو الذي يمنح الإجازة لتلاميذه، ولم تكن الشهادة أو الإجازة تمنح من قبل جماعة أو مؤسسة مستقلة لا شأن لها بالأمور الشخصية كما كان عليه النظام في الجامعات الأوربية القروسطية. ولما كان التعليم في حقل العلوم الطبيعية يجري خارج المدارس الرسمية، فقد كان التخصص في علم من العلوم الأجنبية يقتضي السفر مسافات شاسعة بحثاً عن علماء متخصصين في علوم الأولين غير المرغوب فيها طبعاً . إن البنية الشخصية المهيمنة في مختلف مجالات حياة المجتمع العربي الإسلامي قد عاقت نمو فكرة المؤسسة المستقلة وعرقلت نشوء معايير العلم الموضوعية والشمولية والعالمية والتراكمية، بل عرقلت نشوء الجامعة بوصفها مؤسسة حرة ومستقلة، يقول (هف): "إن الولايات القانونية في العالم الإسلامي لم تنشأ مطلقاً لأن المسلمين كلهم أعضاء في الأمة الواحدة ولا يجوز فصل المسلمين إلى جماعات يتميز بعضها عن بعض شرعاً" 4- غياب فكرة العقل والعقلانية؛ إذ إن مصادر الشرع هي القرآن الكريم، والسنة، والإجماع، والقياس، وهذا ما أفضى إلى التخلص من العقل بوصفه مصدراً من مصادر التشريع، وقد أدى التضييق على العقل إلى إنكار النظرة العقلانية إلى الطبيعية؛ أي دراستها بوصفها موضوعًا قابلاً للفهم والسيطرة ،كما أن مفهوم العقل الذي شاع عند المسلمين ليس العقل الفعال عند أرسطو، ولا (النور الداخلي) عند فلاسفة النهضة، بل يطلقون كلمة العقل على الأفكار التي يؤمن بها عامة الناس. ويرى فضل الرحمن أن "اللاهوت احتكر في نهاية المطاف حقل الميتافيزيقيا كله وأنكر على الفكر الخالص حق النظر نظرة عقلانية في طبيعة الكون وطبيعة الإنسان ،لكن العلم الحديث لم يكن له أن يظهر ويزدهر دون توافر أطر ميتافيزيقية عامة ومعترف بها تقوم على فرضيات عن انتظام العالم الطبيعي وخضوعه لقوانين معينة وعلى الإيمان بقدرة الإنسان على فهم البنية الكامنة في الطبيعة وفهم القوانين التي تتحكم في الكون والحياة والإنسان واستيعابها والتنبؤ بنتائجها والسيطرة عليها، وربما هذا هو ماقصده ماكس بيرونتز بقوله: "أنه لا يزال هناك ما يقال بشأن اكتشاف السبب في أن هناك آخرين عميت بصيرتهم عن التقاط ما حاولت الطبيعة أن تقوله لهم، على الرغم من أنهم في الظاهر كانوا قادرين على ذلك"ويخلص (هف) إلى القول: "لقد ضيق مهندسو الشريعة واللاهوت في الحضارة العربية الإسلامية القدرات العقلية عند ألإنسان ورفضوا فكرة الفاعلية العقلية التي يتميز بها جميع بني البشر لصالح الرأي القائل إن على الإنسان أن يسير على نهج السلف وأن يتبع التقليد، وإن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للآخلاف. أما الأوربيون القروسطيون فقد وضعوا تصوراً للإنسان والطبيعة كان فيه من العقل والعقلانية ما جعل النظرات الفلسفية واللاهوتية مجالات مدهشة من مجالات البحث التي كانت نتائجها لا هي بالمتوقعة ولا بالتقليدية.
أضف تعليق

وكلاء الخراب

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2