د.قاسم المحبشى يكتب: الناس ورهانات الهوية .. من هو ابن الجنية؟

د.قاسم المحبشى يكتب: الناس ورهانات الهوية .. من هو ابن الجنية؟د.قاسم المحبشى يكتب: الناس ورهانات الهوية .. من هو ابن الجنية؟

* عاجل13-8-2020 | 17:04

إذا ما اتفقنا بأن كل الناس هم بني آدم وحواء فهذا معناه أنهم على درجة متساوية من الحسب والنسب والأصل والنوع والجنس. اليس كذا؟ فما أين تأتي العنصرية التمييز بين البشر؟ لا اعتقد ولا أقر أن هناك نسب شريف ونسب غير شريف. تلك اوهام وخرافات ثقافية وتاريخية صنعها الناس بأنفسهم  لأغراض صراعية تنافسية في سياق ممارستهم الحياة الاجتماعية. وهذا هو معنى استراتيجيات الهوية إذ يمكن النظر الى الهوية  بعدها أداة للتفاعل والتفاوض في السياق الاجتماعي التمثيلي أكثر  منها كمفهوم جوهراني وسمة أبدية ساكنة، وتبقى دائماً في حالة ثبات مهما طرأ من تغيرات. فالإنسان بكونه فاعلاً اجتماعياً تكون جميع الأدوار التي يؤديها محل تفاوضٍ، بحيث يصوغ كل فرد أداءه لدوره تبعاً لما يراه من متطلباتٍ لكل موقفٍ وتبعاً للباقين (الآخرين). وبهذا يكون بوسع الشخص امتلاك العديد من الذوات المختلفة بحسب اختلاف كل مجموعة من الأشخاص يتفاعل معها ويكون لآرائهم أهمية بالنسبة إليه.وفي الواقع، يستوعب كل فردٍ، بصيغة توليفية عدد المرجعيات الهوياتية المتصلة بتاريخه، كما أنه يعي، وإن كان في الغالب بصورة غير مباشرة، أن له هوية ذات هندسة متغيرة، تبعاً لأبعاد المجموعة التي يعتبرها مرجعاً له في هذه أو تلك من الهويات العلائقية (دنيس كوش، 2007: 164) ولفهم طبيعة هذا التعدد، وكذلك الهندسة المتغيرة للهوية، يقوم أمين معلوف بعملية استقصاء متخيلة لرجلٍ في الخمسين من عمره يجوب شوارع سراييفو. ويصل في عملية الاستقصاء هذه إلى استنتاجات مفادها: - حوالي عام 1980، كان هذا الرجل سيعلن بكل فخرٍ، ودون إرتباك: "أنا يوغسلافي". وإذا سُئل عن قربٍ، لأوضح أنه يسكن في جمهورية البوسنة والهرسك المتحدة، وأنه، للمصادفة يتحدر من عائلة مسلمة.وإذا صادفنا الرجل ذاته بعد اثني عشر عاماً، والحرب في أوجها، لأجاب بشكلٍ عفويٍّ، وبكل قوة: "أنا مسلم". وربما ترك لحيته تنمو وفقاً للشريعة، وربما أضاف فوراً أنه بوسني. وما كان سيحبذ مطلقاً أن نُذكّره بأنه كان يؤكد بكل فخرٍ انتماءه اليوغسلافي (قبل عشر سنواتٍ فقط). واليوم، إذا سُئل، هذا الرجل، فسيعتبر نفسه بوسنياً أولاً، ثم مسلماً، وسيضيف بأنه يذهب إلى الجامع بانتظام، ولكنه سيؤكد أيضاً أن بلده تشكل جزءاً من أوروبا، ويأمل أن يراه يوماً ما منتسباً إلى الاتحاد الأوروبي.وإذا وجدنا الشخص ذاته، بعد عشرين عاماً، فكيف سيعّرف نفسه؟ أي من انتماءاته سيضع في المقدمة: أوروبي، مسلم/ بوسني، شيء آخر، بلقاني ربما..؟! (أمين معلوف، 1999: 15-16) وبتوسيع دائرة الاستقصاء المتخيلة، سيبدو أن الرجل قد وُلِد في عائلةٍ ذات تقليدٍ إسلاميٍّ، وينتمي بلغته إلى سلافيي الجنوب الذين كانوا متحدين في إطار دولة واحدة، ولم يعودوا اليوم كذلك، وهو يحيا على أرض كانت عثمانية تارة، وتارة كانت نمساوية، ونالت حصتها من مآسي التاريخ الأوروبي الكبرى, وفي كل عصرٍ تضخم واحدٌ من انتماءاته، لدرجة أنه يخفي كل الانتماءات الأخرى، ويمتزج مع هويته كاملة (أمين معلوف، 1999: 16). يسمي كوش هذه التبدلات الهوياتية بـ "انزياحات الهوية"، فالهوية تنبني وتنهدم وتعيد الانبناء والانهدام وفقاً للوضعيات، فهي في حركة دائبة، إذ يحملها كل تغيير اجتماعي على إعادة صياغة نفسها بطريقة مغايرة.وتتكشف الطبيعة الانزياحية للهوية في ضوء السياقات الاجتماعية والتاريخية المتنوعة والمتبدلة التي تتأسس عليها، وبكون الهوية رهانات استراتيجية عليها أن تتجاوب مع الأحوال المتغيرة، فهي عُرضة للتغيّر وإعادة الصياغة باستمرار. بحيث لا يمكن أن تكون ثابتة وطبيعية ومكتفية ذاتياً، بل ظرفية وقابلة للتفاوض،وتتأسس في الواقع عبر لعبة الفروق، ومن خلال العلاقات المتغيرة بهويات أخرى. إذ لا تنطوي على معنى إيجابي واضح، بل تستمد تمايزها مما ليس هي، ومما تستبعده، ومن موقعها في حقل الفروق والاختلافات.ومن هنا جاء قول جان فرانسوا بايار أن كلا من "الهويتين" الثقافية والسياسية، تكون في أحسن الحالات بناءً ثقافياً أو سياسياً أو أيديولوجياً، أي بناءً تاريخياً أصلاً. فلا توجد هوية طبيعية ثابتة أبدية، إنما هناك "استراتيجيات للهوية" يتّبِعْها بشكل رشيد محركون يمكن التعرف عليهم، ومنهم محترفو السياسة.ومن هذا المنظور فان  الهوية تبدو وسيلة لبلوغ غاية ما. كما يشير مفهوم "الاستراتيجيات" إلى أن الفرد، بما هو فاعل اجتماعي، له نوع من هامش المناورة، إنه يستعمل موارده الهوياتية بصفة إستراتيجية، ووفقاً لتقديره للوضعية المتعينة.  اذ يهدف أعضاء أية جماعة بشرية، في مسيرهم ـ أينما وجدوا ـ التوصل دائما إلى توازن حياتي في إطار مفترض من الجماعية، حيث يشعرهم مثل هذا التوازن بشيء من الطمأنينة في الحيز المُحدَد الذي يتفاعلون فيه، ويمنحهم نوعا من التصور الوافي عن الواقع في محاولة الاطمئنان إليه. وأن مثيرات فوقية supreme متعالية وجاذبة هي التي تكون مثل هذا الشعور، فيتأسس فيهم، نتيجة لذلك، نوع من الالتذاذ بالجماعية والاندماج في تحالف يرونه تحالفا مقدسا. أي؛ يتفاعل أعضاء الجماعة في الحيز المعيش من خلال التعالق مع رمزية ما، أو مع حزمة من الرموز تشكل بدورِها في مرحلة متقدمة من مراحل تشكل الوعي وعيا باللاوعي الفردي والجماعي عندهم. وفحوى المشكلة يكمن في إنه ليس لكل الجماعات والمجموعات  القدرة على تسمية وتصنيف وتعريف ذاتها بل ان الامر يتوقف على موقع كل جماعة المكتسب وفي نسق العلاقات التي تربط بين المجموعات. وحدهم أولئك المتمتعون بالنفوذ الذي تكسبهم إياه السلطة يمكنهم فرض تعاريفهم الخاصة لذواتهم وللآخرين. فمجموع التعريفات الهوياتية ينشغل بوصفه نسق تصنيف يحدّد لكل مجموعة ما لها أن تحتله من مواقع في نسق علاقات الهيمنة وبنياتها الاجتماعية  والسياسية المحلية والعالمية الواقعية والرمزية . والقوة هي التي تحدد نوع المعرفة وادواتها حسب ميشيل فوكو  ولا شيء خلف الستار اذ يكون للنفوذ سلطة رمزية في أن يفرض الاعتراف، بوجاهة، مقولات تمثله للواقع الاجتماعي ولمبادئه الخاصة في تقسيم العالم الاجتماعي، وبالتالي في أن يشكل المجموعات وأن يُفكِكها. والحديث يطول. ................................... * أكاديمى وشاعر وأديب يمنى

أضف تعليق

إعلان آراك 2