ما زال السادس من أكتوبر 1973م العاشر من رمضان لعام 1393هـ يشى بحكايات النصر وبطولات الرجال لمن يريدون تحصين الوعى للأجيال القادمة لتكون وهجا ساطعا ورافدا ثريا يفجر الطاقات الإبداعية نظما ونثرا بالكلمات وومضا بالعدسات وعزفا بالأوتار ليملأ وجدان الأجيال القادمة فخرا وشموخا لانتسابهم لهذا الوطن الذى طالما جاد بالشجعان من رجاله، وما زال التاريخ يحفظ انفرادا للمقاتل المصرى على مر العصور، وحده المقاتل المصرى الذى كانت له التحية من عدوه ونده، فسيذكر التاريخ على مداره تحية عدونا للبطل النقيب جابر شعراوى واحد من الأبطال الحقيقيين لمعركة كبريت، وللطيار الفذ عاطف السادات الذى ألهب مطار العدو حتى احترق مع طائرته، وللمقاتل سيد زكريا عندما ظنوا أنهم يحاربون سرية أو مجموعة صاعقة وتبين لهم بعد استشهاده أنه الأسد سيد زكريا..وتحية العدو بعد استسلامه للمقاتل زغلول فتحى الذى تسلم الموقع وأجبره على تنكيس علمه، ورفع البطل علم قواتنا المسلحة على موقع لسان بور توفيق..
وتحية المنهزم من العقيد عساف ياجورى بعد أسره فى أكبر معركة دبابات فى التاريخ الحديث فى الثامن من أكتوبر لقناص الدبابات البطل محمد أحمد المصرى وقائده البطل يسرى حسان وقائده الأعلى البطل حسن أبو سعدة ..
نقيب جابر شعراوي بطـل من «كبريت»
يقول البطل جابر شعراوى: «نتج عن المعارك التى خاضها أبطال كبريت خسائر فادحة للعدو منها ١٩ دبابة من أحدث الدبابات ومركبة قيادة مدرعة و٦ مدرعة نصف جنزير بعضها داخل حقول الألغام وبعضها على بعد ١ إلى ٢ كم من الموقع ولكن فى مدى النيران وبعض هذه المدرعات سليمة تماما هرب منها جنود العدو ولم نكن نستطيع سحبها لأن العدو يحميها بالنيران البعيدة ولم يكن العدو يستطيع سحبها لأننا لا نسمح له بالاقتراب منها.
وكانت مقولة القائد حدود الموقع ليست كم مربع واحد فقط، ولكن حدود الموقع هى مدى نيران الموقع فلم نكن نسمح باقتراب العدو من الموقع وهذا سر الاشتباكات اليومية بيننا وبين العدو.
وبعد استشهاد القائد إبراهيم عبد التواب فى ١٤ يناير ١٩٧٤ توقف القتال وفى ٢٧ يناير و مع فض الاشتباك الأول رفض العدو الانسحاب من حول الموقع قبل سحب مدرعاته السليمة والمدمرة لأن ذلك سوف يسبب له فضيحة إعلامية وجاءتنا أوامر من قيادة الجيش بالسماح له بسحب مدرعاته من حول الموقع وفى وجود مندوب الصليب الأحمر وخرجت أنا من الموقع وحدى للتفاوض مع جانب العدو للاتفاق على أسلوب تطهير الألغام حول القطع المدمرة وأسلوب سحبها.
وقبل خروجى من الموقع فكرت مع زملائى أنه من المهم التأثير على العدو من عدة جوانب منها المظهر الذى خططنا له وأن يبدو مندوب الكتيبة أمامهم وكأن الكتيبة بالكامل لا تعانى من أى صور النقص فى التسليح أو حتى المهمات وغيرها، فقمت بكى الأفرول تحت المرتبة وتعاون زملائى لتوفير علبة سجائر كاملة معى ولمعت البيادة ولبست النظارة لزوم الشياكة!.
خرجت وحدى وخلفى الموقع كله متأهب لحمايتى بالنيران تحسبا لأى طارئ.
اقتربت من مجموعة من أفراد العدو ضباط برتب صغيرة و جنود حوالى ١٠ إلى ١٥ فردا و بمجرد اقترابى منهم تقدموا منى وأدوا التحية العسكرية احتراما و تقديرا لكل الجنود والضباط الصامدين داخل الموقع وبدأوا يصافحوننى جميعا.
تحدثت إليهم باللغة الإنجليزية و كانوا يتعجبون كيف استطعنا الصمود طوال هذه المدة – 134 يوما - بدون إمداد كيف كنا نقاتل، وفى معظم الأحيان كنا البادئين بالاشتباك.
وفى هذه الأثناء حضر بسيارة جيب أحد القادة الكبار وتقدم منى متجهما وسألنى: «هل انت قائد الموقع حاليا؟» فأخبرته أنى ممثل للموقع، فقال: «احييكم» وانصرف ووجهه مملوء بالغيظ.
وأعلم جيدا أن تلك التحية العسكرية لم تؤد لشخصى وإنما كان فحواها الاحترام والتقدير لمقاتلين أسطوريين دافعوا عن موقع كبريت منهم من استشهد ومنهم من أصيب ولم يفرطوا فى حبة رمل واحدة وفرضوا احترامهم على العدو».
أسد سينا .. الشهيد عرّيف سيد زكريا خليل
واحد ممن سيذكرهم تاريخنا المجيد بالفخر هو الشهيد البطل سيد زكريا ذلك الفلاح البسيط ابن أرض مصر الطيبة، والذى واجه بمفرده قوة إسرائيلية عبارة عن فصيلة كاملة فوق أحد المواقع بجنوب سيناء، لم يرتجف ولم يتخف ولم يُؤثر السلامة بطلب الاستسلام للأسر، وإنما أعلن عن نفسه وانتصر لكرامته ولأرضه وقتل كل أفراد هذه الفصيلة إلا واحداً منها هو الذى قتل البطل والذى استشهد فى صمت، ولكن الأعداء الذين ذاقوا الموت على يديه لم يستطيعوا إزاحته من قلوبهم وعقولهم ففتحوا كتابه وأذاعوا صفحاته على الملأ بعد 22 عاماً حيث ذاع صيته فى ألمانيا عام 1995 حيث توجه مسئول إسرائيلى فى برلين إلى رئيسة المكتب الدبلوماسي المصرى عزيزة مراد فهمى، وروى لها تفاصيل المعركة البطولية التى أدارها هذا البطل ثم قام بتسليم متعلقاته التى احتفظ بها كجندى إسرائيلى سابق على مدار 22 عاماً.
بطلنا سيد زكريا من مدينة الأقصر “بنجع الخضيرات” تقدم لأداء واجبه الوطنى تجاه جيش بلاده عام 1970 وانضم إلى قوات الصاعقة، وفى حرب أكتوبر كُلفت وحدته الصغيرة بالاستعداد للعمل خلف خطوط العدو بجنوب سيناء ( شرق الساحل الشرقى للبحر الأحمر) وبالقرب من محاور اقتراب قوات العدو على هذا الاتجاه لعرقلتها وإحداث أكبر خسائر بها، وففى يوم17 رمضان - 13 أكتوبر 73 تم إبرار تلك القوة المحدودة واتخذت من بعض الهيئات الحيوية الحاكمة موقعا كقاعدة تنطلق منها جماعات صغيرة لتنفيذ المهام المكلفة بها، وعندما تعددت عملياتها الجريئة كثفت قوات العدو استطلاعها للمنطقة ثم قامت بإسقاط فصيلة مظلات بالقرب من قاعدة الدوريات فحاصرتها ودار قتال عنيف بين القوتين ومن خلال هذا الحصار تسلل البطل سيد زكريا ومعه سلاحه الفردى وكمية كبيرة من الذخيرة إلى موقع حيوى يسيطر على ميدان المعركة ثم أخذ يطلق نيرانه المركزة على المظليين فى جميع الاتجاهات إلى أن أفناهم عن آخرهم بمن فيهم قائدهم عدا جندى إسرائيلى تمكن من الالتفاف مستترا وهو يرصد هذا البطل الذى قتل جميع زملائه وقبل أن يلتفت إليه ليقتله هو الآخر كان هذا الجندى الإسرائيلى قد عاجله بدفعة رشاش سريعة ليستشهد البطل سيد زكريا فى الحال، ومن منطلق انبهار هذا الجندى الإسرائيلى بفدائية وبسالة سيد زكريا، وعندما تأكد من موته زحف نحوه بحذر إلى أن وصل إلى جثمان الشهيد وأخذ يجرده من جميع متعلقاته بما فى ذلك بطاقته العسكرية، ولم يفكر هذا الجندى الإسرائيلى فى سرقته- كما ذكر فى تفاصيل روايته- وإنما أراد الاحتفاظ بها تذكارا لهذا المقاتل الفذ وروحه القتالية العالية وشجاعته الفائقة والتى لم يصادف أن قابل مثلها من قبل، إضافة إلى إحساسه بالفخر لأنه هو الذى قتل هذا الأسد المصرى، أو حسب قوله لصحيفة: يديعوت إحرونوت الإسرائيلية:” أنه فعلا أسد... قاتل بشراسة... وحصد فصيلة كاملة من الجنود المظليين... وحصد أرواح كل من كان فيها” كما قال فى نفس الصحيفة :” لقد فعلت ذلك بعد كل هذه المدة لأننى أطالب بمنح هذا الجندى أرفع الأوسمة على شجاعته الفائقة”.
أما عن ظروف اكتشاف هذا الحدث بعد هذه السنوات الطويلة، فقد كان هذا الجندى الإسرائيلى يبحث فى متعلقاته القديمة فعثرت يداه على ذكريات تلك المعركة ومتعلقات هذا البطل الذى ظل محتفظا بها على مدى 22 سنة مضت ليرسلها أخيرا إلى القنصل الإسرائيلى فى ألمانيا حيث كان يعمل هناك وأرسل معها تقريرا عن بطولة هذا الجندى المصرى ، وفى حفل دبلوماسى رسمى فوجئت رئيسة المكتب الدبلوماسى المصرى فى برلين الدكتورة عزيزة مراد فهمى بهذا القنصل وهو يقدم لها هذه المتعلقات أمام كل الحضور الذين وقفوا يتابعون الموقف بشغف والقنصل الإسرائيلى يقول لها:
(هذه المتعلقات تخص جندى مصرى مات فى حرب أكتوبر 73 واحتفظ بها جندى إسرائيلى حتى يومنا هذا متأثراً ببطولاته وشجاعته ومعها هذا التقرير).
هذا وقد قام القنصل المصرى بدوره بإرسالها على الفور إلى القيادة العامة للقوات المسلحة فى مصر حيث قامت بتكريم اسم الشهيد وأسرته كما خلدته مصر بإطلاق اسمه على بعض الشوارع فى عدد من المحافظات.
عاطف السادات.. أول شهيد طيار يوم 6 أكتوبر
يروي الجندى الإسرائيلى - شاهد العيان- وهو يعمل طبيبا بمستشفى جامعة «جورج تاون» بالولايات المتحدة الأمريكية ويدعى آيرون بن شتاين الواقعة قائلا: كان عمرى وقت الحرب عشرين عاما، وكنت مجندا بالقوات الجوية الإسرائيلية بمطار المليز فى سيناء.
فى هذا اليوم كان أغلب الضباط والجنود فى إجازة عيد الغفران ولم يكن بالمطار إلا حوالى 20 فردا، وفى الثانية والربع ظهرا فوجئنا بطائرتين من طراز (سوخوى) و(ميج) تهاجمان المطار، قام الطيار الأول بمهاجمة الممرات وحظائر الطائرات ودمرها تماما.
أما الطيار الثانى (يقصد الشهيد عاطف السادات) فأخذ يهاجم صواريخ الدفاع الجوى فى المطار وكانت من طراز (سكاى هوك) وكانت المسئولة عن حماية المطار.
انسحب الطيار الأول بعد أن أدى مهمته، أما الثانى فقد استمر فى مهاجمة الصواريخ فى دورته الثانية.
ولكوننا مدربين على أكثر من طراز من الأسلحة، أطلقت أنا وزميلى النار من مدفع مضاد للطائرات، إلا أن هذا الطيار فاجأنا بمواجهتنا بطائرته وإطلاق الرصاص من مدفعه بقدرة مدهشة على المناورة.
فأصاب زميلى بإصابات بالغة بعد أن فشلنا فى إسقاطه.. إلا أن زميلا آخر لنا نجح فى إصابته بصاروخ محمول على الكتف فى دورته الثالثة، بعد أن دمر وشل المطار تماما.
كما يقول «شتاين» فى روايته، فإنهم كجنود لم يكونوا على علم وقتها باندلاع الحرب، وكانت صدمتهم قوية عندما علموا أن قائد تلك الطائرة هو نفسه شقيق رئيس مصر، ويضيف: «شعرنا لحظتها بمشاعر مختلفة وتخوفنا من انتقام مصر لمقتل شقيق الرئيس، خاصة فى ظل حالة الارتباك التى أصابت القيادة الإسرائيلية وقتها.
وأذكر أنه عندما حضر الصليب الأحمر لاستلام جثمانه الذى كان قد احترق داخل الطائرة قمنا بتأدية التحية العسكرية له احتراما لشجاعته».