لم تُبصرها عيني، لكن فُتنت بها من دموع ذُرفت لأجلها، إستدمعت الحضور جميعا وكنت من بينهم في جلسة تأبين "فرخُندة" التي أقامتها جمعية محبي مصر السلام. دقائق معدودة و أغادر، فلم يسبق لي معرفة الغادة التي تؤبن كما أني غير مكترثة بعلم الجيولوجيا والصخور الذي هو مجالها، هذا ما انتويت.. لكن حين أصغيت لشهادة تلو الآخرى، آلمني أمرين، بادئهما غمغمات وتمتمات بين الحضور تحكي بكمد مواقفهن معها، لأستقبح حظي الذي لم يمهلني الإستقاء منها، وهاهو الأمر الأخر. "فرخندة حسن" إمرأة على شاكلة مصريات كُثر، تساند العموم و لو بالمشورة وإبداء الرأي والتوجيه، مُستهل قضاياها هو التمكين السياسي للمرأة المصرية، فدعت إلى إنشاء آلية حكومية تتولى شؤونها ليصدر قرار جمهوري بتأسيس المجلس القومي للمرأة عام 2000، وتبوأت شؤونه حتى عام 2012، وبعد إنتهاض ثورة يناير جابهت حملة إخوانية شرسة كي يوصد المجلس ويغلق، خاصة بعد حرق مقر الجيزة. تلاميذها كُثر، تلك السيدة التي واجهت الإخوان بضراوة، من بين أولئك الدكتورة مايا مرسي الرئيس الحالي للمجلس، التي أجهشت بالبكاء حين تذكرت نصائحها أن تعطي لأسرتها وقتاً أكثر من شغفها الدائم لعملها.. ورجل الأعمال القبطي الدكتور هاني عزيز، الذي دمعت عيناه حين إستذكرها عندما إلتقاها مع البابا شنودة، وكان المقرر لجلستهما ٢٠ دقيقة ليُسهبا عن المرأة المصرية وأحوالها طيلة ساعة ونصف.. أيضا الدكتورة غادة والي التي إكترثت بالمشاركة في تأبين معلمتها التي دعتها إلى مكتبها وهي طالبة في الفرقة الأولى بالجامعة الأمريكية، قبل إغترابها في ثمانينيات القرن الماضي لتكمل دراستها في الأمم المتحدة، وأغلقت الأبواب لتسدي لها بالنصائح كونها لن تكن مبعوثة لاتمام دراستها فحسب، بل أيقونة لدولة مصر هناك، فكان لزاماً عليها أن تكون طالبة و مُحيا ونبراس لمصر. "إبنة النيل" كما لقبتها السفيرة مرفت التلاوي، بوصفها جمعت بين العلم والإنسانية والحياة النيابية على مدار ٣٣ عام، والتي أعرضت عن الحياة السياسية في مقتبلها إلى أن قامت حرب أكتوبر فانخرطت بين مصريات لتطبيب ومداواة مرضى الحرب، لترى السياسة بمنظور مغاير. نعتها وزارة الثقافة المصرية في كتاب يحكي عن مشوارها "وإكتملت رسالة في حب مصر..فرخندة حسن..شكراً" يسرد عن جبل المقطم الذي صنع منها عالمة في الجيولوجيا عندما زارته في رحلة عائلية وكان عمرها 12عام، ووجدت صخوره تماثل الأصداف حتى أفادها صديق والدها أنها حفرية تكونت تحت الماء وتحجرت وهو ما يسمى علم الجيولوجيا، ومن حينها قررت أن تدرس هذا العلم الذي إقتصر على الرجال وحدهم آنذاك، وعند نضوجها شغفها مزاولة لعبة الإسكواش، لكن الجميع مانع، لوجود ملعب أوحد لممارسة الفتيات هذه الرياضة و الذي أصبح قصر الزعفران حالياً، لكن شخصيتها المثابرة ظلت عاكفة حتى لعبت الإسكواش، وإنضمت إليها فيما بعد فتيات من جامعات وأندية عديدة، ومن ثم تأسست بطولة إسكواش لسيدات مصر. "فرخُندة مصر" التي جابت وطافت محافظات الجمهورية لتدحض فكرة "مجلس الهوانم" الذي إشتهر عن القومي للمرأة في إفتتاحيته، و دأبت من أجل حل شكاوى النساء وتجريم حرمان المرأة من الميراث. وتبنت موقف مصر المتحفظ على بعض بنود إتفاقية السيداو المعنية بالقضاء على جميع أشكال العنف ضد المرأة، والتي تتناقض مع شرائعنا السماوية والعادات المجتمعية والدستور المصري، و تعي وتشمل فقط أوضاع المرأة في الغرب كحصول الزوجة على نصف ثروة الزوج عند الطلاق، والإستغناء عن وكيل الزوجة عند الزواج، والمساواة في الميراث وغيرها من أمور تجنح عن الشريعة والقانون المصري. "فرخُندة".. لا أحد يتلفّظ اسمها إلا بضم الخاء، تبتسم ناعته معانيه للمستفهم أنه "الفرح" بالفارسية ليكن لها حُظوة من إسمها، وقف الجميع دقيقة حداد على روحها، تلك التي لا تُؤْبَنُ فيها الحُرَم ولا يذكرها من عرفها إلا بـ"فرخُندة".