عاطف عبد الغنى يكتب: فى مدح رغيف الخبز.. وذم الخبّاز

عاطف عبد الغنى يكتب: فى مدح رغيف الخبز.. وذم الخبّازعاطف عبد الغنى يكتب: فى مدح رغيف الخبز.. وذم الخبّاز

*سلايد رئيسى11-8-2017 | 19:19

جليسى الذى أحسبه على الطبقة فوق المتوسطة (نزلت هذه الطبقة درجة فصارت متوسطة الآن بحساب سعر الصرف بعد التعويم) كان يتحدث ممرورًا عن الحال الذى وصل إليه رغيف الخبز «العيش»، وما كنت أظن أن مثله يمكن أن يشتكى لكنه خيب ظنى، ومع هذه الخيبة أعرت اهتمامى لكلامه بينما كان يصف متأثرًا كيف أنه مضطر الآن لشراء الخبز «الحُر» حيث لا يملك بطاقة الدعم التموينية.

وقال ضمن ما قال إن الرغيف «الحُر» ارتفع سعره إلى 50 قرشًا بعد أن كان إلى وقت قريب بـ 25 قرشًا، ومع ارتفاع السعر قل وزنه ونحفت جلدته ورسم بأصبعى الإبهام والسبابة ليديه الاثنتين دائرة لا يزيد قطرها عن 13 سنتيمترًا، علامة على أن هذا هو الحجم الذى آل إليه الرغيف، وأضاف وصفا آخر للرغيف فقال إنه: «يمرش».. وأوقفته عن الكلام وسألته ماذا يعنى؟!

(1)

قال محدثى إن الدقيق غالبًا خالطه الرمل أو التراب لذلك يمرش الرغيف فى الفم، وبحثت عن لفظة «يمرش» وكنت أظنها عامية، فاكتشفت أنها فصيحة، وأن المرش أخف من الخدش ويشبه الحك بأطراف الأصابع وهذا ما يفعله الرغيف المخلوط طحينه أو عجينه بالتراب فى الفم اُناء مضغه.

.. ورحلة رغيف الخبر مع المصريين أطول فى التاريخ وأعمق كثيرًا مما يظن البعض، فهى ضاربة بجذورها فى عمق هذا التاريخ وصولا إلى العصور الأولى للدولة المصرية، وقد أخبرنا بهذا مؤرخو الغرب فى مؤلفاتهم قبل أن نعرفه نحن، وقالوا إن الإنسان عرف الخبز كغذاء قبل عشرة آلاف عام، وإن طريقة صناعة الخبز البدائية الأولى (غير المخمر) لا تزال تمارسها بعض القبائل الأفريقية، أما مصر فقد عرفت الخبز المخمر مبكرًا، والتخمير ليس فقط لإعطاء الخبز حجم أكبر ولكن لمنحه طعم أجود.

وكان الخبز المخمر يصنع من دقيق القمح والشعير وتصنع الخميرة من الجعة (البيرة) التى تصنع من حشيشة الدينار، والعوام مازالوا يسمونها إلى اليوم (الخميرة بيرة).

ويخبرنا التاريخ أيضًا أن المصريين القدماء هم أول من خلطوا الحبوب لينتجوا من الخلطة رغيف خبز مغذ، لكن يبدو أن هذا الرغيف المحسن المغذى كان الاستمتاع به مقصورًا فقط على الموثرين، أما الفقراء فى مصر القديمة فكانوا يأكلون الخبز الخشن، وكان هذا سببًا لآلام الأسنان الذي كانوا يشتكون منه، وهكذا منذ فجر التاريخ، رغيف عيش الفقراء «يمرش».

(2)

ولا يتسع المجال للكتابة عن القداسة التى حازها الخبز فى كثير من العقائد والحضارات، حتى أنه كان يشكل جزءًا أصيلاً وأساسيًا فى بعض الطقوس الدينية والاجتماعية، والقصة التى تشير إليها التوراة عن الخبز «فطير الفصح» الذى اضطر بنو إسرائيل إلى صنعه على عجل دون انتظار لتخمر العجين حتى يوفروا لأنفسهم زادًا فى الطريق لما هربوا من وجه فرعون، هذه القصة التى تحتل مكانة كبيرة فى تراثهم الدينى، ويقام لها احتفالا فى اليهودية إلى اليوم، وكان بنو إسرائيل قد خبزوا «فطير الفصح» فى الأفران التى عرفوها عن المصريين.

(3)

ومصر – كما هو متواتر – البلد الوحيد الذى يسمى فيها الخبز عيشًا، والعيش يعنى الحياة والعيش إذا تم تقديمه للغريب مع الملح يعنى العهد، والوصال، والمحبة، وفى ثورة 25 يناير رفع الثوار الأصليون فى ميدان التحرير لافتات مكتوب عليها «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية» والعيش والحرية ركنان تؤسس عليهما العدالة الاجتماعية.

(4)

ووصل الحال بنا الآن إلى أن رغيف الخبز أصبح يمثل صداعًا، ليس فقط فى رأس المواطن على اختلاف فئاته أو الطبقة التى ينتمى إليها، ولكن أيضًا فى رأس الحكومة التى تخرج كل يوم بمنظومة أو فلسفة جديدة للتعامل مع الخبز (المدعم) بينما تترك المخابز (الحُرة) تفعل ما تشاء، فى الرغيف، وفى المواطن الذى يستهلكه، والأمرلا يقتصر على الخبز البلدى، ولكن الأفرنجى أيضًا.

وأحدث ما صدر عن وزير التموين الحالى المصيلحى، قال فيه إن هناك فلسفة للمنظومة الجديدة لدعم الخبز تقوم على تحمل كل طرف من أطرافها (المطاحن أو المخابز) مسئوليته عن القمح والدقيق الذى يتعامل معه باعتباره مال خاص مدفوع الثمن، وهو ما يجعل شركاء المنظومة أحرص على التخزين والنقل والتقليل من الهدر والفاقد والتسرب، من القمح، والدقيق، وعلى مدار العامين الماضيين تبذل الحكومة قصارى جهدها لتقليل الهدر والفاقد من القمح وتحسين ظروف تخزينه وتشوينه.

وكانت الوزارة قد أجرت بحوثا ميدانية عن الاستهلاك اليومى للفرد من الخبز، أسفرت عن خفض حصة المواطن المقررة لتصير أربعة أرغفة فى اليوم، بعد أن كانت خمسة، وتم إغراء المواطن بإضافة الفرق إلى حصته التموينية، وتقريبا لا يمر يوم دون أن يصدر عن وزير التموين تصريحا أو تلميحا موضوعه «رغيف الخبز» حتى كدت أتصور أنه وزير الخبز، وشغله الشاغل إعادة هيكلة الدعم الموجه له، وتقليل الهدر والفاقد من ميزانية الدولة الموجهة لدعمه.

حسنًا لا أحد ينكر على الدولة حقها فى سد ذرائع الفساد الضاربة بجذورها فى منظومة الخبز بداية من استيراد القمح، وحتى سرقة الدقيق فى المخابز، وذهاب دعم الرغيف إلى غير مستحقيه، لكن يبقى ألا ننسى أن هذا الرغيف هو الطعام الأول الذى يسد جوع البطون الفقيرة، ويمنح مِعدهم الشبع، ولا بديل له، ولا طعام دونه، ومن هنا نتوجه للمسئولين، افعلوا ما شئتم لأجل حفظ حقوق الدولة وضبط المنظومة وتقليل عجز الموازنة، لكن ليتكم تبذلون نفس المجهود لتوصيل الخبز المدعم وغير المدعم لجموع المصريين بالسعر والجودة المناسبين.

أضف تعليق