هناك شىء مفقود فى الوطن العربى.. الكل يسأل عنه ولا يجده.. العرب يحلمون براية وحدة.. وبوقفة كبرياء.
ولا نرى أثرا لشىء من هذا فى الواقع الثقيل الذى يجثم علينا.
العائلة العربية تفرقت كالحملان التى أفزعتها الذئاب.. وضلت عن بعضها البعض فأصبح كل واحد يرى فى أخيه ذئبا يوشك أن ينقض عليه.. ويرى فى عشيرته عيونا وجواسيس تترصده.
ورأينا الشاة الشاردة التى تركت القطيع كله وهرولت لترتمى فى حضن صيادها.. ورأينا الكاتب الذى يقول: إن إسرائيل هى الأمل والمستقبل وهو يراها تنهش فى أرضنا.
وتواضعت الهمم وشحبت الأحلام، فما عاد أحد يفكر فى النضال ولا فى البطولة ولا حتى فى العمل الأمثل.. وإنما أصبح أكثرهم يكتفون بالممكن ويحصرون أحلامهم فى الموجود.. وقد ارتضوا مرارة الواقع وتعودوا الغصة التى يتجرعونها مع أخبار كل صباح.. وأصبحت أمنيتهم الوحيدة هى الأمان من الإرهاب ونكباته.
والدين الذى كان يجمعهم.. أصبحت رموزه ترعبهم..!! واسمه يفزعهم وأصبح أمل معظم الحكومات هو توفير الخبز لشعوبها.
وهكذا لم يبق لنا إلا الممكن.. والكلام عن الممكن!! والرضا بالممكن. وشُغلنا بخبزنا عن كل شىء.
يخرج قرار من الكونجرس بأغلبية ساحقة بإقرار القدس عاصمة أبدية لإسرائيل.. فلا ينتفض الجسد العربى ولا يدر عنه رد فعل مناسب يدل على أنه حى.. لا يثور.. ولا يصرخ.. ولا تجتمع الجامعة العربية لفورها لتقرر شيئا.. أى شىء.
يقول وزير خارجية إسرائيل.. لو اقتضى الأمر أن نحارب لنفرض السلام فسوف نحارب.. ماشاء الله.. يلوحون بالقوة لفرض السلام الذى يريدون.. يفرضونه على من؟!.. لا أحد يرد من الدول العربية المعنية.. وكأنهم لا وجود لهم.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد.. وإنما تأتى الأنباء باتفاق عسكرى وعقود التسليح تعقدها إسرائيل أخيرا مع روسيا وبنود سرية نووية وغير نووية لا نعلم عنها شيئا.. ثم أكثر من هذا نفاجأ برئيس وزراء إسرائيل يطالب أمريكا بمعاهدة دفاع مشترك لحماية أمن إسرائيل.. ثم نكتشف أن هناك تحالفا عسكريا بين إسرائيل وإريتريا.. وتشهد الساحة العربية هجوما فعليا على الجزر اليمنية فى البحر الأحمر تستولى فيه على (جزيرة حنيش).
إنها تعبئة لقتال وليست مسالمة ولا مهادنة.. ونحن نتداول فى التطبيع وفى فتح أسواقنا للسلع الإسرائيلية وفى تهدئة لغة الخطاب حتى لا ندوس على طرف الأحباء الجدد.. شىء عجيب.
نحن نحلم بسلام السمن والعسل وهم يعقدون التحالفات لمزيد من السلاح ويتأهبون لصدام وشيك.
وماذا يجرى فى العالم حولنا؟!!
الصرب يقتلون خمسة عشر ألف أسير مسلم ويلقون بهم فى حفر ومقابر جماعية فى سربرنيستا.. ومن قبل ذلك خمسون ألف حالة اغتصاب.. ومليون مطرود ومشرد.. وأكثر من ذلك فى الأوطان الإسلامية بطول وعرض آسيا وإفريقيا.. ولا أثر.. ولا رد فعل يساوى تلك البشاعة.
وماذا تظنون العقاب الذى قررته الأمم المتحدة على السفاح كارداتش والجزار ميلاسوفيتش اللذين ارتكبا كل تلك البشاعات.. اسمعوا.. واعجبوا.. لقد حكمت المحكمة بألا يتقلد أحد منهما منصبا كبيرا بعد ذلك.. أى إحالة إلى التقاعد.. مع معاش مناسب.. وحتى ذلك التكريم يرفضه الصرب بكل صلف وكبر.
الظلم كاسر ومتبجح وغليظ.. والعدل يتيم ذليل مكسور الجناح..
ولكل ساهم شارد ينتظر نزول شىء من السماء.. صاعقة مصل صاعقة عاد وثمود أو طوفان مثل طوفان نوح.. أو مطر من نار وحجارة مثلما حدث مع قوم لوط.. أو خسف أرضى يقبر الظلمة كما حدث مع قارون.
«نشر الدكتور مصطفي محمود المقال فى مجلة اكتوبر عام 1985 »