اعتذرت لصديقي للأسبوع الثاني على التوالي عن استكمال حديثنا حول «الطريق إلى حلم وهتبقى قد الدنيا» ورحب بذلك، لاسيما وأننا كنا ننتظر نتائج جلسة مجلس الأمن المنعقدة فى التاسعة مساءً الخميس الماضي بتوقيت القاهرة الثالثة بتوقيت نيويورك.
قال صديقي: ما يشغلني ويشغل الشارع المصري هو ماذا ستفعل مصر بعد جلسة مجلس الأمن؟ وهل لديها خيارات أخرى؟
ماذا تمتلك الدولة المصرية فى هذا الملف من أوراق للمرحلة القادمة؟ فقضية سد النهضة تُعد بمثابة نقطة فارقة فى قدرة الدولة على إدارة الأزمة.
ظل صديقي يطرح العديد من التساؤلات وأنصتُ له جيدًا لأنني أعلم مدى عشقه لوطنه.
جاء فى نهاية تساؤلاته التى طرحها، وماذا عن قوى الشر التى استغلت الأزمة وتحاول تأجيج الشارع، خاصة أن تلك العناصر التابعة للجماعة الإرهابية تحترف الصيد فى الماء العكر وقت الأزمات.
وهنا طلبت من صديقى أن نتوقف عند نقاط محددة لأستعرض معه خطوات إدارة الدولة المصرية لتلك الأزمة التى تعد من أكبر وأضخم الأزمات، ونجحت مصر فى تحويلها إلى أزمة رشيدة.
رغم إصرار إثيوبيا الدائم على المراوغة طيلة عشر سنوات إلا أن الدولة المصرية تمتلك أدواتها ولديها رؤية محددة ومنهج وطريق تسير فيه بخطى ثابتة وثقة فى قدرتها على تحقيق النصر والحفاظ على أمنها المائي، لأن الدولة المصرية تدافع عن حق ثابت وراسخ.
(1)
فى البداية لا بد أن ندرك أن خطوة مجلس الأمن لن تكون الخطوة الأخيرة فى تلك الأزمة، ولن تكون النقطة الفاصلة، لكنها مرحلة مهمة فى مسار حددته القيادة المصرية ضمن عدة مسارات لمواجهة الأزمة وفق سيناريوهات متعددة وخطط بديلة تحقق فى نهايتها هدفًا استراتيجيًا محددًا لم ولن تحيد عنه الدولة المصرية وهو «لا تفريط فى قطرة مياه واحدة» ولا تنازل عن الحقوق المائية المصرية.
لقد جاءت كلمة وزير الخارجية سامح شكرى بمثابة وثيقة تاريخية وضعت مجلس الأمن والمجتمع الدولى أمام مسئولياته وكشفت للمجتمع الدولى تعنت الجانب الإثيوبى ومواصلته المراوغة ومحاولة الاستمرار فى استهلاك الوقت.
دعنى يا صديقى أتوقف معك عند بعض النقاط
بدأت مصر التحرك فى ملف سد النهضة من خلال خطوات مدروسة عقب تقنين الأوضاع وتوقيع إعلان المبادئ بين الدول الثلاث فى مارس 2015 والذى كان بمثابة نقطة تحرك قوية للدولة المصرية فى هذا الملف، خاصة أن الدولة المصرية قبل ذلك الوقت لم يكن لديها أوراق قانونية تتحرك على أثرها، وأعتقد أنك تذكر ذلك الاجتماع الذى كان على الهواء فى عهد المعزول محمد مرسى والوفود الشعبية التى زارت إثيوبيا وكانت النتيجة ضياع 4 سنوات غيرت فيها إثيوبيا مسار النهر وبدأت عمليات البناء.
قبل ذلك التاريخ (مارس 2015) لم يكن هناك أى إجراء قانونى يلزم إثيوبيا بضرورة التواصل إلى اتفاق قانونى ملزم بشأن ملء السد أو تشغيله.
دفعت مصر إثيوبيا خلال جلسة مجلس الأمن لأن تظهر وجهها الحقيقى أمام العالم وداخل جلسة عامة، فقد حاول وزير الرى الإثيوبى أن يدفع بالقضية خارج مجلس الأمن دون أن يقدم ما يعضد مقترحاته من القانون الدولى.
لقد زعم أن المجلس ليس هو الجهة المختصة متجاهلًا أن ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولى يمنح المجلس الحق فى التدخل من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدوليين فى ظل اشتعال أزمة قد تهدد السلم والأمن الدوليين فى المنطقة حال استمرار إثيوبيا فى تعنتها.
من هنا تحركت مصر لإدارة الأزمة من خلال المسار التفاوضى سعيًا للوصول إلى اتفاق قانونى ملزم فى إطار الحفاظ على حصتها المائية وعدم التأثر فى سنوات الجفاف والجفاف الطويل، وفى نفس الوقت قدمت مجموعة من المقترحات للاتحاد الإفريقى تؤكد فيها على دعمها لتنمية دول القارة بما فيها إثيوبيا بل وحل أزمة الكهرباء الإثيوبية، وهو الأمر الذى كشف حقيقة المشروع (سد النهضة) أنه لا يستهدف التنمية ولا حل أزمة الكهرباء هناك، بل يستهدف إحداث حالة من عدم الاستقرار والتأثير على أمن المنطقة ليصبح بمثابة الشرارة التى تنطلق منها حروب المياه.
كشفت مصر الهدف الإثيوبى ودللت عليه لكافة الدول الإفريقية الشقيقة وللاتحاد الإفريقى ودول الاتحاد الأوروبى لتثبت أن الهدف الأساسى للسد هو هدف سياسى يستهدف خنق الدولة المصرية.
وما لم تدركه إثيوبيا ولم تفطن له أن الدولة المصرية فى 2021 ليست دولة 2011 التى كانت تعانى من اضطرابات داخلية، بل عادت دولة مستقرة لديها القدرة على حماية أمنها المائى.
(2)
تحركت مصر على عدة مسارات، لشرح وبيان عدالة قضيتها من خلال تحركات ولقاءات دبلوماسية واسعة على المستوى الإفريقى فقد قام وزير الخارجية بجولات لعدد من دول القارة، وعلى المستوى العربى والأوروبى والقوى الدولية والإقليمية والمنظمات الدولية، الأمر الذى جعل تفاصيل تلك الأزمة (سد النهضة) أكثر وضوحًا أمام المجتمع الدولى.
توحدت الرؤى المصرية السودانية فى ذلك الملف، مما كان له بالغ الأثر فى نجاح التحرك لقطع الطريق على إثيوبيا، ما جعل إثيوبيا فى نفس اليوم الذى عقدت فيه جلسة مجلس الأمن تقوم باستدعاء 18 من موظفى السفارة الإثيوبية فى واشنطن، كما تم استدعاء خمسة موظفين آخرين من البعثة الدائمة لإثيوبيا لدى الأمم المتحدة، مما أدى إلى خفض مجموع الموظفين فى البعثة إلى ثلاثة؛ كما سيتم إغلاق القنصليات الإثيوبية فى لوس أنجلوس وفرانكفورت ومينيسوتا وسيتم استدعاء الموظفين إلى أديس أبابا.
لقد نجحت مصر فى أن تضع المنظمة الدولية (مجلس الأمن) أمام مسئوليته، وهو ما بدا جليًا فى كلمة المبعوث الأممى الخاص بالقرن الإفريقى الذى أكد على ضرورة الوصول إلى اتفاق قانونى ملزم بشأن ملء السد وتشغيله، وكشف التعنت الإثيوبى خلال مسارات التفاوض سواء التى كانت برعاية الاتحاد الإفريقى أو المفاوضات برعاية الولايات المتحدة الأمريكية.
(3)
جاء مشروع القرار الذى تقدمت به تونس إلى المجلس وأيدته كل من مصر و السودان بمثابة تأكيد أمام العالم على حرص الدولتين على أن تواصلا المسار الدبلوماسى والحرص على استقرار وأمن الإقليم.
هذا ما ستواصل الدولتان التحرك نحوه خلال الفترة القادمة بعد أن حذرتا من مغبة استمرار التعنت الإثيوبي، فقد استطاعت مصر حشد تأييد لوجهة النظر المصرية والسودانية، وقدمت رؤية واقعية للأزمة خلال التباحث مع كافة الأطراف الدولية، ما يمنح مصر الحق فى الحفاظ على حقوقها المائية وفق ما تراه فى ظل عرضها الأمر على المجلس وعرض كافة تبعات تطور الموقف بما يؤثر سلبًا على حياة الشعوب.
جاءت كلمة وزير الخارجية سامح شكرى أمام جلسة مجلس الأمن بمثابة نقطة فاصلة فى تلك الأزمة فكشفت عوار وجهة النظر الإثيوبية التى تباكت باسم البحث عن التنمية فقدمت مصر نموذجًا لتنمية دول حوض النيل بالتعاون مع مصر، مثلما حدث مع كل من تنزانيا وجنوب السودان.
كما عرضت مصر تمويل «سد النهضة»، لكن هذا الأمر كان سيكشف المسكوت عنه فى تلك الأزمة التى تصنعها إثيوبيا لحساب الغير، كما كان سيكشف الأيادى العابثة بالملف الإثيوبى والتى تديره من خلف الستار مستهدفة التضييق على الدولة المصرية، الأمر الذى فطنت إليه مصر فى إدارتها للأزمة، فاستطاعت أن تقطع الطريق على محاولات الالتفاف على أمنها القومي، فاستعادت علاقاتها بكافة دول الجوار الإقليمى والمحيطين العربى والإفريقى وفق ثوابت محددة تستهدف التنمية والبناء دون المساس بالحقوق التى يحفظها القانون الدولي.
أما محاولات قوى الشر وعناصر الجماعة الإرهابية من لاستغلال الأزمة فقد باءت بالفشل، لأن الشعب المصرى دائمًا ما يتوحد خلف قيادته خلال فترة الأزمات، وخلال الفترة الماضية عقب نجاح الدولة المصرية والقيادة السياسية فى استعادة قوة الدولة ومكانتها والنجاح فى التصدى لمحاولات كانت تستهدف إعادة المنطقة إلى ما حدث فى 2011، وهو ما زاد من ثقة الشعب فى قيادته.
إن ما تقوم به الدولة المصرية فى تلك الأزمة يوثق للعالم الجهود التى تبذلها مصر للحيلولة دون إشعال أكبر حرب فى التاريخ تحدث عنها البعض (حرب المياه).
فما زالت لدى مصر خطط تحرك عدة فى ذلك الملف وخيارات مفتوحة كل منها له توقيت مناسب سيُعلَّن عنه فى حينه، لكني أعتقد أن ما حدث الخميس الماضي كان بمثابة البيان رقم (1).. ونحن ننتظر البيان رقم (5).