بينما كان العالم يترنح من ويلات وباء كورونا، شهدت الساحة السياسية توطيدا لعلاقة إستراتيجية جعلت روسيا و الصين شريكتين فى مشروع طموح، هو إعادة تشكيل منطقة جنوب وشرق آسيا، فى قلب نظام عالمى جديد، في وقت بدأت الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا تشعران بخطورة ما تمثله التحالفات الجديدة على مستقبل الصراع، الذى يتعلق بالنفوذ والموارد وحركة التجارة العالمية.
هذه التطورات جعلت قوى إقليمية على رأسها تركيا تتحرك بقوة، لكسب مساحات تمكنها من لعب أدوار رئيسية على جانبى الصراع، فيما يراه العديد من الخبراء حول العالم إنتقال للثقل والإهتمام من منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة شرق آسيا وجنوب القوقاز، وفقاً لاستعراض معلومات وأرقام ورؤى وتحركات وتصريحات وسياسات فى تلك المنطقة، تفسر مصالح الدول والتحالفات التى تتقاطع معها، بهدف دفع المنطقة لأن تصبح مركز الثقل القادم فى لعبة الصراع الدولي، حيث تعتبر تركيا من بين الدول الأوروبية الآسيوية الرئيسية، التى أقامت علاقات قوية مع روسيا والصين، بالإضافة إلى إقامة علاقة دفاعية مهمة من خلال شراء تركيا لنظام الصواريخ الروسى الصنع S-400، يعمل البلدان معا فى سوريا، وعلى الرغم من أنهما على طرفي نقيض في ليبيا، إلا أنهما يتشاوران بشأن الأمور المتعلقة بهذا البلد أيضاً، ويسعيان لصفقة تسمح بوجود ونفوذ دائم لهما فى شرق وغرب ليبيا، الأمر الذي يفسر إطلاق أمريكا وحلف الناتو يد أردوغان للعبث في مناطق صراع تاريخية مثل جزيرة قبرص ومناطق مشتعلة ومرشحة للانفجار مثل أفغانستان، خاصة بعد القرار الأمريكي بالانسحاب، وترك الساحة ممهدة لعودة نفوذ جماعات الإرهاب الديني وعلى رأسها طالبان، وخلال زيارته المثيرة للجدل للشطر الشمالي من جزيرة قبرص خلال يوليو الماضي، التي جاءت في الذكرى الـ47 للاجتياح التركي الذي أدى إلى تقسيم الجزيرة المتوسطية، أكد إردوغان تمسّكه بحل يقوم على دولتين في قبرص، قبل أن يعرض مشروعه في إعادة فتح "فاروشا" من جانب أحادي، في خطوة أزعجت اليونان والإتحاد الأوروبي الى أقصى درجة.
وقال أردوغان أمام حشد كبير خلال عرض عسكري في الشطر الشمالي للجزيرة القبرصية من العاصمة "ليس لدينا خمسون عاماً لنضيعها مجدداً "في إشارة واضحة إلى عقود من جولات التفاوض برعاية الأمم المتحدة، التي لم ترد إلى توحيد الشطرين اليوناني والتركي من الجزيرة القبرصية، وجاء ذلك بعد أن ألقى أردوغان بوابل من التصريحات النارية على أثينا وحلفائها، في مشهد متكرر لتصريحاته في العاصمة الأذرية باكو بعد إنتصار أذربيجان على أرمينيا في إقليم ناجورنو كارباخ .
وخلال وجود الرئيس التركي في شمال قبرص، لعب أردوغان دور رئيس الجزيرة وقام بإفتتاح عدة مشاريع، بعد أن تفرد أردوغان بالكاميرات وكأنه في مؤتمر حزبي بإسطنبول، حتى أعلن عن إنتهاء بلاده من إعداد مشروع المجمع الرئاسي لجمهورية شمال قبرص التركية، والتي ستبدأ تركيا بتنفيذه قريبا، وعلى نقيض الاحتفالات في الشطر الشمالي، دوت صفارات الإنذار في الشطر الجنوبي من نيقوسيا عند الساعة الخامسة والنصف، تذكيراً ببدء الغزو التركي في 20 يوليو 1974، وتركيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تعترف حالياً بشمال قبرص المنشق، وتقول إن الخيار الوحيد القابل للتطبيق لمداواة عقود من القطيعة هو أن يقبل القبارصة اليونانيون والمجتمع الدولي بوجود كيانين منفصلين يتمتعان بالسيادة على هذه الجزيرة، وهي الخطوة التركية التي رفضتها جميع القوى الغربية في العلن، ولكن بالطبع ليس كل من رفض ذلك في العلن يرفضه في الحقيقة، وفي المقابل جاء رد اليونان سريعاً عبر زيارة وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس إلى قبرص اليونانية غداة زيارة إردوغان، فما فعله أردوغان في "فاروشا" التي أعلن إعادة فتحها من جانب أحادي تخطى كل حدود الاستفزاز، وبات كإعلان حرب على اليونان.
وحقيقة الأمر فإن مشهد حضور أردوغان إلى شمال قبرص وما قام به وما القاه من تصريحات نارية لم تكن صدفة، ولم تكن بفضل تناول بعض حبوب الشجاعة، إنما يعني تبنى أردوغان لعب دور كلب حراسة المصالح الأمريكية في أفغانستان وتأمين مطار كابول والسفارات الغربية (رغم رفض طالبان) ،وهوطلب مقابل ذلك ضمان بقاء وجود قواته في غرب ليبيا حتى بعد الإنتخابات المقررة نهاية العام الجاري، هذا أن تمت جراء التدخلات التركية وسيطرة المليشيات الموالية لها على أغلب مدن الغرب الليبي، وهو نفس الدور الذي لعبه الرئيس التركي الأسبق عدنان مندريس، عندما أرسل قواته لكوريا الجنوبية دفاعاً عن المصالح الغربية هناك، تلك النوعية من البشر (أردوغان) التي نادراً ما تضيع الكرة وهي أمام المرمى، سيطلب من الغرب دعم الحضور التركي في شرق المتوسط على الأقل، بدلاً من الإعتراف بجمهورية قبرص الإسلامية، أو عدم تطويق كامل قبرص، بعد أن بات الجيش التركي متواجد بكثافة على سواحل وبر قبرص الشمالية ويمكنه تنفيذ ذلك فعلياً، ولكن تركيا ستفضل المساومة بتلك الورقة على حساب ليبيا، بدلاً من الدخول في حرب كبرى مع اليونان، وإن كان لم يعد هناك شئ مستبعد أمام القرصان العثمانلي الجديد، خاصة وأن اليونان مهما بلغت من أهمية للاطلسي لن تكون أهم من تركيا، ولن تكون أغلى من أرمينيا، وللعلم منذ أن تخلت روما عن القسطنطينية الأرثوذكسية، وتركتها كلقمة سائغة للعثمانيين 1453م، والأمور لم تتغير كثيراً بين الأسم المستحدث "الناتو الأطلسي" والارثوذكسي، وفي كل الحالات ستكون قبرص الشمالية مستقبلاً أحد أبرز نقاط إنطلاق البحرية التركية نحو غرب ليبيا، وهو ما يضاعف من تداعيات الوضع على الملف الليبي ويزيده تعقيداً .
ورغم تحذيرات وزير الدفاع اليونانى قبيل إجتماع الناتو الأخير، من تقويض قدرات الحلف الإستراتيجية بسبب سياسات أنقرة؛ وقال: “إن التوترات بين تركيا وأعضاء الناتو الآخرين تمثل أكبر تهديد لتماسك الحلف في أعقاب الأعمال العدائية لأنقرة في شرق البحر المتوسط”، إلا أن تلك التحذيرات ذهبت أدراج الرياح، رغم أن دراسة صادرة عن مؤسسة البحر الأبيض المتوسط للدراسات الإستراتيجية، أشارت إلى ليبيا كنقطة اشتعال حيث أصبحت تركيا أكثر إزعاجا وزعزعة لاستقرار البلاد، وأن الناتو قد يصبح مشاركاً لاحتواء أحد أعضائه والسيطرة عليه وضبطه ”وصنف المحللون تركيا إلى جانب إيران كواحد من أكبر المخاطر على أمن الشرق الأوسط“، ستكون تركيا لاعباً كبيراً للغاية في الشرق الأوسط لكنها تتدخل في ليبيا، وتتدخل في سوريا، وتنفذ هجمات في العراق، وتدخل في لبنان، وتريد أن تتوغل في اليمن”.
ويسلط المراقبون الضوء على تورط تركيا العدواني في دعم أذربيجان في نزاعها في ناغورنو كراباك مع أرمينيا العام الماضى، باستخدام طائرات بدون طيار وتجنيد مرتزقة سوريين، هؤلاء المرتزقة والإرهابيين الذين يتم تحريكهم على مسارح العمليات والأحداث في المنطقة وفقا لخطط تركية ترتبط بطموحات أردوغان ومشروعه السياسى وهى الطموحات التي تعمل على نقل هؤلاء الإرهابيين إلى ليبيا ومالى وسيناء وربما لاحقاً إلى القرن الأفريقى وأى من مسارح المنطقة كورقة إبتزار وسيطرة وبسط نفوذ، إلا أن الراعي الأمريكي - الأوروبي لبلطجة أردوغان يغض الطرف غالباً، لأن هناك أدوار مرسومة ومكافآت معروفة لتلك الأدوار، وليست أفغانستان وما جرى التخطيط لتلك المنطقة الدليل الوحيد على تلك المنظومة من الأدوار الوظيفية لاردوغان ومكافأته عليها.
لسنوات مُمتدة اعتادت الولايات المتحدة بمساعدة الغرب الترويج، لأن وجودها العسكري في أفغانستان يرجع فقط إلى رغباتها في كبح جماح الإرهاب المتطرف الذي تصدره أفغانستان للعالم أجمع.
وقد يكون هذا أمر صحيح لكنه ليس صحيحاً بشكل كامل، ولتفسير هذا الأمر ولفهم أسباب الوجود الأمريكي في أي منطقة حول العالم، عليك أن تُفتش عن النفط ثم المعادن، أو عليك بالأحرى إلى جانب كل ذلك أن تتساءل عن تأويلات الموقع الجغرافي للبلد المُحتلة من قبل الولايات المتحدة، ولذا فنحن نقف اليوم أمام أفغانستان التي يمثل موقعها الجغرافي، علاوة على ما تملكه من مخزون هائل من النفط والمعادن رأس الأسباب وراء وقوعها في كل المشكلات والصراعات، التي قامت فوق رأسها منذ البدايات الأولى لكل هذه الأحداث، حيث تقع أفغانستان في منطقة جغرافية تُمثل أهمية جيو إستراتيجية شديدة الحساسية، فهي تقع وسط المناطق الآسيوية الرئيسية تحديداً ما بين آسيا الوسطى وجنوب القارة وغربها والشرق الأقصى، ما يجعل منها منطقة محورية تُمهد للسيطرة على مختلف المناطق الأخرى، كما أنها تُشكل جنباً إلى جنب مع آسيا الوسطي ما يُطلق عليه بلفظة “محور جيو - سياسي”، وهذا المصطلح يُشير إلى منطقة جغرافية لا تستمد أهميتها مما تملكه من قوة بل من موقعها الحساس ومن العواقب التي قد تترتب على انهيارها، فيما تستمد أفغانستان أهميتها أيضاً من كون موقعها الجغرافي ساعدها على لعب دورها كممر ترانزيت هام لصادرات النفط والغاز الطبيعي القادمة من وسط آسيا، وصولاً إلى منطقة بحر العرب، وفيما يتعلق بمواردها الطبيعية، التي تجعل منها عُرضة للمطامع الأجنبية للدول الكبرى، فإن أفغانستان تمتلك موارد وثروات طبيعية عديدة، من ضمنها النفط والغاز، علاوة على امتلاكها الثروات المنجمية كالذهب والنحاس والحديد والكوبالت والليثيوم، بالإضافة إلى اليورانيوم وعدد من العناصر الأرضية الأخرى.
ويبدو أن العثمانلي الجديد بات حاضراً أكثر من أي وقت مضى لتقديم خدماته في تلك المنطقة بالغة الأهمية، إلا أن الدور الجديد ليس دوراً واحداً، وإنما أدوار مرسومة بعناية، هدفها ضرب خاصرة شرق آسيا وجنوب القوقاز، وهو ما يعني القيام بدور المزعج المستمر والصداع الدائم للقوتين العظميين روسيا والصين، وتقوية ذراع الإرهاب المتشح برداء الإسلام السني، لتعويض مساعي إيران، في الاحتفاظ بأي نفوذ في أفغانستان، أو الوصول إلى حرب أهلية على أساس طائفي إذا ما استعانت إيران بالميليشيات الشيعية التي تدين لها بالولاء في الداخل الأفغاني، فقد كشفت صحيفة محلية إيرانية، عن تأسيس ميليشيا جديدة في أفغانستان تحمل اسم "الحشد الشيعي" لقتال ما أسمته الحركة المتطرفة، وتقصد بها طالبان السنية، حيث ظهرت الميليشيا مؤخراً في الأحياء الشيعية في العاصمة كابول، وباتت تستعد لقتال حركة طالبان، وبهذا، ينضم التنظيم الجديد إلى فصيل آخر أفغاني تدعمه إيران، وهو لواء "فاطميون"، الذي يتمتع بدعم مالي وعسكري كبير من فيلق القدس، ويقدر عددهم بحوالي 30 ألفا، وشارك على وجه الخصوص في الحرب السورية.
وهكذا يتمدد الدور الأردوغاني، ليمثل الخنجر المسموم، الذي يصول ويجول في خاصرة العالم، والفيروس القاتل بلا هوادة، بدعم وغطاء أورو-أمريكي .