كشفت النتائج الأولية المُعلنة للانتخابات الألمانية التى أجريت يوم الأحد السادس والعشرين من شهر سبتمبر عام 2021، وشارك فيها ما يقرب من 60.4 مليون مواطن لهم حق التصويت، وتنافس فيها إجمالى 47 حزبًا، عن فوز حزب الديمقراطيين الاشتراكيين من يسار الوسط بقيادة "أولاف شولتز" - وزير المالية الاتحادى ونائب المستشار منذ مارس 2018- بـ 25.7% من الأصوات، بفرق ضئيل على كتلة المحافظين التى تتضمن حزبى الاتحاد الديمقراطى المسيحى وشقيقه الحزب الاتحاد الاجتماعى المسيحى بزعامة "أرمين لاشيت" بنسبة 24.1% فيما احتل حزب الخضر المرتبة الثالثة بنسبة 14.8%، والديمقراطيون الأحرار فحصل على 11.5%.
ويذكر أن عملية التصويت جمعت بين السماح للمواطنين بالتوجه لمراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، أو من خلال التصويت البريدى الذى تم استخدامه لأول مرة فى عام 1957، تسهيلاً على الناخبين فى إطار الجائحة، وقد بلغ عددهم ما يقرب من 40% ممن لهم حق التصويت وفقًا لتوقعات الإدارة الاتحادية للانتخابات التى اعتمدت على استطلاع للرأى قدمته القناة الأولى، وهى نسبة مرتفعة مقارنتها بانتخابات عام 2017 التى بلغت فيها نحو 28.6%.
وهو ما يعنى خسارة كبير للحزب الحاكم الذى كان قد تصدر فى الانتخابات السابقة عام 2017 بنسبة 32.9%، مقابل تقدم كل من الاشتراكين الديمقراطيين لكونهم قد حصلوا سابقًا على نسبة 20.5%، أما الخضر فكانت بنسبتهم 8.9%، وهو ما يعد نجاحًا لهم رغم إنه لم يرتقى إلى مستوى طموحهم.
لذا تعد هذه الانتخابات تاريخية لما سيترتب عليها من اختيار أعضاء البرلمان الألمانى الذى بدوره سيقوم باختيار المستشار فى أول جلسة سيتم عقدها خلال فترة لا تتجاوز الثلاثين يومًا، بعد أن يحصل على أغلبية الأصوات. بعدها سيقوم المستشار بعقد المفاوضات لتشكيل الحكومة الجديدة التى من المُحتمل أن تكون ائتلافية، وهو ما سيتطلب شهورًا لتكوينها تبعًا للتوافقات التى ستتم بين القوى السياسية، وهو ما حدث على سبيل المثال إبان انتخابات عام 2017، إذ تشكلت الحكومة وأُعيد انتخاب المستشارة فى مارس 2018، فيما كانت الانتخابات فى 24 سبتمبر2017.
لذا تعد هذه العملية نتاجًا لنظام انتخابى مُعقد يتم من خلال تصويتين؛ الأول لاختيار المرشح فى كل دائرة من إجمالى 299 دائرة انتخابية فى البلاد لتمثيل كافة المناطق فى البرلمان، أما الثانى لاختيار الحزب الذى يساهم فى توضيح شكل الأغلبية الحزبية التى يسفر عنها منصب المستشار.
وعليه، فقد أسفرت هذه الانتخابات عن صعود اليسار مرة ثانية بعد ما يقرب من 16 عام من سيطرة المحافظين على البلاد، الأمر الذى اعتبره "شولتز" نصرًا عظيمًا، قائلًا إن "العديد من الناخبين أوضحوا أنهم يرغبون فى إحداث "تغيير فى الحكومة" وأن يكون اسم المستشار المُقبل هو أولاف شولتز".
جاء الصعود المفاجئ بشكل تدريجى على خلفية عدم وجود منافس قوى له يستطيع خوض هذه الانتخابات بكفاءة وفعالية، ويستطيع حشد أكبر عدد من المؤيدين من خلال السياسات التى سيتبناها فى سياق تنامى جائحة كورونا التى ألقت بظلالها على السياق الانتخابى، وأثرت على شعبية الناخبين فى استطلاعات الرأى، وفى المناظرات التى عقدت قبل هذه الانتخابات، وساهمت فى الكشف عن التحديات التى يواجهها المتنافسون الثلاثة وقصور رؤيتهم.
كما يرجع هذا الصعود بشكل نسبى إلى شخصية "لاشيت" الذى يفتقد إلى كل مؤهلات القيادة والقدرة على التفاوض السياسى مقارنةً بـ "ميركل" التى استطاعت إحكام سيطرتها على البلاد، ومواجهة التحديات المتلاحقة، بالرغم من إنه أعلن أنه مرشح الاستمرارية إلا إنه أخفق أيضًا إبان حملته الانتخابية بما أثر بشكل سلبى على شعبيته التى تراجعت فى استطلاعات الرأى، على خلفية التقاط صورة لـه وهو يضحك خلال زيارته لبعض المناطق التى تعرضت للفيضانات وهو ما أثار حالة من الاستهجان، ورد عليها "لاشيت" بالاعتذار.
وقد سبق ذلك عدم قدرته على احتواء الجائحة فى ولايته "شمال الراين - وستفاليا" المكتظة بالسكان. فضلاً عن تعثر "أنالينا بيربوك" التى تلتزم بالتحول الأخضر إلا إنها تعرضت لاتهامات تتعلق بأنها أسندت لسيرتها الذاتية معلومات كاذبة، وادعاءات خاصة بالسرقة الأدبية.
بجانب رغبة الرأى العام الألمانى فى تحسين الأوضاع الداخلية، واستحداث أنظمة جديدة لدافعى الضرائب تكون متوافقة مع المواطنين، بجانب الالتزام بالتحول الأخضر خاصة بعد موجة الفيضانات التى تعرضت لها البلاد، وأسفر عنها العديد من الخسائر المادية والمالية، مع ضرورة إيجاد مصادر نظيفة للطاقة بدلًا عن الطاقة النووية والفحم التى سيتم التخلى عنهم بحلول العام المقبل فى سياق الجائحة التى كشفت عن بعض الثغرات التى تعانى منها برلين مثل البيروقراطية التى نتج عنها بطء عملية التلقيح، بالرغم من إنها من أقل الدول فى عدد الوفيات والأضرار الاقتصادية التى لحقت بها.
فى المقابل عمل "شولتز" على الاستفادة من هذه الأخطاء بالرغم من وقوعه فى بعضها. لكن بمقارنتها بمنافسيه كانت أقل، كما إنه مع انطلاق حملته الانتخابية لحزبه تعهد بإدخال إصلاحات اقتصادية، وتوفير ظروف أفضل للعمال، وزيادة الحد الأدنى للأجور، وتقوية النظام الصحى والتعليم والمواصلات العامة.
وبناءً على ذلك، هناك احتمال كبير أن يحظى حزب يسار الوسط بتشكيل الحكومة التى من المتوقع أن تكون ائتلافية بالتعاون مع شريكين صغيرين بعد الانفصال عن المحافظين، مما قد يطرح حكومة ائتلافية تتكون من ثلاث أحزاب ليمثل نقلة جديدة فى التشكيل الحكومى عن سابقتها.
لكن هذا لا ينفى استثناء المحافظين من المشهد نظرًا لتأكيدهم على إنهم يرغبوا فى تشكيل الحكومة، الأمر الذى يطرح خيارات مُحتملة للحكومة المُقبلة فهناك افتراض يتضمن التحالف الأول بقيادة الديمقراطيين الاشتراكيين مع الخضر، والديمقراطيون الأحرار بسبب تقاربهم فى السياسات والتوجهات رغم اختلاف آليات تنفيذها ومعارضتهم للمحافظين أيضًا.
أما التحالف الأخر فهو بين حزبى الاتحاد الديمقراطى المسيحى والاجتماعى المسيحى، والخضر والديمقراطيون الأحرار، وهو ما سيكون نتاج لتفاهمات وحسابات سياسة، وتحمل بعض التنازلات من قبل المحافظين للقوى المشتركة معهم لإقناعهم بالتحالف معهم ضد الاشتراكيين، وهو ما سيعد أمرًا مفاجئًا قد يحدث لكن وفقًا لعدد من الاحتمالات، أما الافتراض الأخير فقد يتم التحالف بين المحافظين والاشتراكين دون أحزاب صغيرة، وهو ما يعد احتمال ضعيف حتى الآن نظرًا لانتقاد الاشتراكين لهم سابقًا فى سياق الحكومة السابقة.