مشهد مهيب أبهر العالم لأكبر موكب جنائزي جعلنا نركب آلة الزمن ونعيش أعظم لحظات التاريخ الإنساني، ونحن نشاهد موكب 22 مومياء ملكية تغادر المتحف المصري إلى متحف الحضارة لأول مرة في التاريخ الحديث.
المشهد جعل العالم يستعيد ذاكرته من جديد ويدرك أن الأحفاد هم ميراث الأجداد.
بعد 237 يومًا من ذلك الحدث الأسطوري عاد المصريون مرة أخرى ليبهروا العالم، وتتحول الأنظار إلى قدس الأقداس .. طيبة القديمة .. وتعود آلة الزمن بالعالم إلى ما قبل 3500 عام فيعود شعاع النور من أرض الأقصر ـ مدينة الشمس ـ ليسطع في سماء الدنيا معلنًا أكبر حدث تاريخي انتظره العالم سنوات طويلة بإعادة افتتاح طريق الكباش وصالة الأعمدة.
المشهد الذي تابعته وتابعه المصريون والعالم أجمع على مدى أكثر من ساعتين، جعل أنظار العالم تتجه إلى قبلة واحدة - مصر - ليستعيد العالم روح أكبر حدث تاريخي وينظر بعينيه إلى الحضارة التي ما زالت لم تُكشف عن أسرارها.
احتفال المصريين بعيد «الأوبت» وافتتاح طريق الكباش جاء بمثابة إعلان عن أكبر متحف مفتوح فى العالم (الأقصر).
(1)
الحفل الذى أقيم مساء الخميس الماضى والذى تابعته أكثر من 150 قناة تليفزيونية عالمية وكافة وكالات الأنباء والصحف العالمية والإقليمية والمحلية وشاهده أكثر من مليار شخص على مستوى العالم كان بمثابة رسالة جديدة من مصر؛ تؤكد أن صناع الحضارة المصرية القديمة التى مازالت بعد أكثر من 5000 سنة تبهر العالم وستظل؛ استطاع أحفادهم أن يبهروا العالم من جديد.
فعلى مدى أربعة أعوام أعاد أبطال ملحمة الترميم طريق الكباش وصالة الأعمدة إلى ما كانت عليه قبل 3500 عام.
فأزالوا آثار الترميم الخاطئ الذى تم خلال السبعينات، وأعادوا لصالة الأعمدة ألوانها الأصلية وتم ترميم الكباش .. لتظل الحضارة المصرية ملهمة للعالم.
أنشد المغنون أنشودة «آمون» بمصاحبة الأوركسترا الفيلهارمونى الموسيقى الفرعونية بقيادة المايسترو نادر عباسى وبآلات موسيقية فرعونية تحرك الثالوث يحملها شباب بملابس فرعونية ويتقدمهم حاملو البيارق، ليخرجوا من قدس الأقداس عبر الصرح الأول للمعبد، وصولًا لتماثيل أبوالهول، بداية طريق الكباش.
عندها بدأت أنشودة آمون
«عندما تكون بالزورق مهيب المقدمة
إنك تبدو جميلًا يا آمون رع والكل يمجدك
لأن البلاد كلها فى عيد ابنك البكر أول من أنجبت
يجدف ويبحر بك قدمًا إلى حيث يوجد أوبت
فياليتك تمنحك الخلود فى موقعك ملكًا للأرضين وأن يكون هو ويبقى للأبد فى سلام
ويا ليتك تنعم على بحياة استقرار وسيادة تقره حاكم مصر
ويا ليتك تكافئه بملايين لا تُحصى من الأعياد
فهو ابنك الحبيب الذى أجلسته على العرش»
المشهد جعلنا جميعًا نشدو معهم، لنعيش أكبر حدث فى تاريخ مصر القديمة.
(2)
على مدى أربعة أعوام استطاع الأبطال من المرممين والأثريين المصريين أن يعيدوا إلى ذلك الطريق بريقه (عُرف طريق الكباش بأنه طريق مواكب الآلهة ويعود لعصر الأسرة الثامنة عشرة من الدولة المصرية القديمة فى عهد الملكة حتشبسوت للاحتفال بعيد الأوبت) بعد أن اختفى قبل أن يُكتَّشف فى عام 1949 على يد عالم الآثار المصرى زكريا غنيم والذى اكتشف ثمانية تماثيل بالقرب من معبد الأقصر، ثم اكتشاف 17 تمثالًا آخر خلال الفترة 1958 إلى 1961 ، ثم اكتشاف 55 تمثالًا فى الفترة من 1961 إلى 1964 - كل ذلك فى محيط 250 مترًا.
وخلال الفترة من عام 1984 إلى 2000، تم تحديد مسار الممشى بالكامل ، تاركًا للحفارات الكشف عن الطريق، ولكن الأمر كان صعبًا حيث ترتب عليه عمليات هدم لإفساح المجال للطريق.
ثم توقف المشروع لفترة ليعود مرة أخرى على يد الدكتور سمير فرج محافظ الأقصر فى ذلك الوقت عام 2005، ويبدأ تطوير طريق الكباش ثم كانت أحداث 2011 فتوقف المشروع للمرة الثالثة ثم استؤنف العمل به عام 2017 بتوجيهات من الرئيس عبدالفتاح السيسى لينتهى هذا العام ويتوج بذلك الاحتفال الأسطوري.
يصطف الـ1,200 تمثال فى ذلك الممشى المقدس الممتد لمسافة 2.5 كم ليربط بين معبد الأقصر ومعبد الكرنك بعد أن استعادت تماثيل الكباش - التى تنوعت بين ثلاث- أشكالها:
الشكل الأول: جسم أسد برأس كبش أقيم على مساحة 1000 قدم تقريبًا بين معبد الكرنك ومنطقة موت فى عهد حاكم المملكة الحديثة توت عنخ آمون.
الشكل الثاني: تمثال كبش كامل، بنى فى منطقة نائية فى عهد الأسرة الثامنة عشرة أمنحتب الثالث قبل نقله لاحقًا إلى مجمع الكرنك.
الشكل الثالث: ويضم أكبر جزء من التماثيل هو تمثال لأبى الهول (جسد أسد ورأس إنسان)، وتمتد التماثيل على مسافة 2.7 كم إلى معبد الأقصر.
تم إعادة ترميمها بالكامل ليسترد ذلك الطريق بريقه ويعود للحياة معلنًا افتتاح أكبر متحف مفتوح فى العالم.
الاحتفال أشادت به كافة وسائل الإعلام الدولية وكان بمثابة أكبر عملية ترويج للسياحة الثقافية وما تمتلكه مصر من قدرات سياحية وقدرتها - فى ظل جائحة كورونا - أن تنظم احتفالية ضخمة بهذا الشكل وفى ذلك التوقيت.
لقد جاءت الرسالة قوية بقوة الدولة المصرية الحالية وقدرتها التى وصلت إليها خلال الأعوام السبعة الأخيرة.
(3)
لم يكن الاحتفال بإعادة افتتاح طريق الكباش وصالة الأعمدة حدثًا عاديًا بل كان حديث العالم الذى ظل لأكثر من ساعتين يتابع على الهواء تفاصيل الحدث وظل لأكثر من ثلاثة أيام ينتظر الحدث الذى تحدثت عنه كافة وسائل الأعلام.
لقد شاهد العالم مصر التى تنعم بالأمن والاستقرار والأمان تستقبل أكبر عدد من السائحين الذين قدموا لحضور الافتتاح العظيم من كل الجنسيات.
وفى ظل الأوضاع الصحية التى يمر بها العالم ويحرص على الإغلاق نجد الدولة المصرية تفتح أبوابها للجميع وتحمل على عاتقها الحفاظ على سلامة وصحة القادمين إليها .. هكذا دائمًا مصر دولة مضيافة.
لقد أعاد المشهد للأذهان حفل نقل المومياوات الملكية، وجعل العالم ينتظر الحفل الأضخم والأكبر على مستوى العالم خلال افتتاح المتحف الكبير.
لقد كان الاحتفال بمثابة أكبر عملية ترويج سياحى وأنجح نموذج حى استطاع منظمو الحفل فيه أن يقدموا صورة الدولة المصرية وما تمتلكه من تراث.
إن الاهتمام بالحفاظ على التراث الحضارى والثقافى من خلال الحفاظ على الآثار المصرية والاهتمام بها لهو تأكيد على حرص الدولة على الحفاظ على الهوية المصرية.
فالحضارة المصرية القديمة هى أحد أعمدة الهوية المصرية، وحاملة مشعل النور إلى العالم.
لقد جاء الاحتفال ليقدم للعالم رسالة أن الدولة المصرية التى تعيش فى منطقة مضطربة لن تتنازل عن مشروعها القومى ولن يستطيع أحد أن يقف فى مواجهتها لاستكمال مسيرتها.
ولن تعود مرة أخرى إلى الخلف لكنها ستظل تواصل المسير نحو مزيد من النمو والازدهار والتنمية لأنها تؤمن برسالة السلام والأمن والاستقرار.
لقد كانت الدولة الوطنية المصرية منذ فجر التاريخ حاملة لمشاعل النور، تحرص على إحلال السلام والاستقرار من أجل البناء فكانت صاحبة أكبر وأقدم حضارة فى التاريخ.
والآن ينفذ الأحفاد ما قام به الأجداد من بناء وتنمية وعمران وحفاظ على الدولة الوطنية ومد يد العون لكافة الأشقاء من أجل تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية لغد أفضل تنعم به شعوب المنطقة.
لقد جاء نجاح احتفالية افتتاح طريق الكباش وصالة الأعمدة ليقدم شهادة للعالم على ما تمتلكه مصر من تراث حضارى ضخم.
إن فعالية «الأقصر...طريق الكباش» أبهرت العالم بالجمال والمقومات السياحية والأثرية التى تتمتع بها مدينة الأقصر، كما أنها ألقت الضوء على الحضارة المصرية العريقة، خاصة فى ظل الانتهاء من أعمال تطوير ورفع كفاءة البنية التحتية بالمحافظة وتطوير وتجميل الكورنيش والشوارع والميادين بها ومشروع ترميم صالة الأعمدة بمعابد الكرنك وتطوير نظم الإضاءة بمعبد الأقصر، وترميم قاعة الـ 14 عامود بمعبد الأقصر، والانتهاء من مشروع الكشف عن طريق المواكب الكبرى المعروف بـ«بطريق الكباش».
ما حدث يوم الخميس الماضى حمل رسالة للعالم مفادها أن مصر تحرص على الحفاظ على التراث الإنساني.
كنت أود الحديث هذا العدد عن معركة الحفاظ على قيم وأخلاقيات المجتمع، وكيف تُدار لهدم الدول والسيطرة على القاعدة العريضة من أجل تقديم مفردات تهدم ثوابت المجتمع، لكن احتفالية الأقصر جعلتني أترك هذا الحديث للعدد القادم.