قال حسن إسميك رئيس معهد السلام للدراسات والبحوث الاستراتيجية، إن مصطلحي "التفكير" و"التكفير"، لا يلتقيان مهما امتدّا، وشتّان بين من يطلق العنان لفكره ويستكشف الأفكار والتصورات في عالمٍ لا متناهٍ من المعارف، ولن يقع في شرك التكفير بأي معنى من المعاني التي لا تقف عند الاصطلاح الديني فقط، وبين من يشرّع التكفير سلاحاً فيكون بذلك قد ركن عقله وفكره جانباً، متمترساً خلف حاجز متين من الجمود والجهل والرفض القائم على الخوف والتقليد الأعمى.
وأشار إسميك، إلى أن فعل التكفير ليس بجديد على المجتمعات الإنسانية، إذ كان الإنكار أول ما يُواجه به أصحاب الآراء المختلفة من علماء وفلاسفة وشعراء، هكذا كُفِّر كل من سقراط وابن عربي وابن رشد وابن سينا وطه حسين وأبو خليل القباني، وغيرهم كثر.. جوردانو برونو وغاليليو "أبو" الفيزياء الحديثة والمنهج العلمي، اتّهمته بالهرطقة محاكم التفتيش الرومانية السيئة السمعة عام 1615، لأن نظريته حول "مركزية الشمس" تتعارض مع الكتاب المقدس!.
وقال إنّ أغلب من سجّل التاريخ أسماءهم في مصاف كبار العلماء والمفكرين، ويتم تدريس علومهم ومعارفهم كنظريات وحقائق، تعرّضوا لنوع من أنواع التكفير أوصلت بعضهم إلى حبل المشنقة أو القتل أو التهديد، أو إلى السجن والإقصاء والنبذ في أفضل الأحوال. وحتى الأنبياء والرسل تم رميهم بتهمة الكفر بالمعتقدات التي تؤمن بها الأقوام التي بُعثوا فيها، ويحمل القرآن الكريم شواهد كثيرة على ما لاقاه الأنبياء من نكران ورفض حتى من المقربين، «قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا».
وأكد إسميك، أن الشواهد السابقة تُظهر أن حالة الرفض ترافقت دائما مع غياب التعقل والتفكير، وتظهر أيضا أن الأديان التي يتم معظم التكفير باسمها، بريئة من هذا الفعل، إذ لطالما دعت، والإسلام خصوصاً، إلى إعمال العقل والتفكر بكل ما يتعرض له الإنسان، وهذه أولى دلائل جرم استخدام الدين بغير مقاصده، واستغلال مشاعر بعض المؤمنين وجهلهم وتقاعسهم عن البحث و التفكير واللجوء إلى العقل.
أضاف إسميك، أن ما تعيشه مجتمعاتنا العربية حالة مستفحلة من الرفض والإنكار، تغذيها جماعة تعاني من الخواء الفكري، وعاجزة عن إيجاد أي وسيلة عقلانية لمواجهة من يخالفها سوى التحريض والاتهام بالزندقة والكفر والإلحاد، ودفع المجتمع إلى نبذه ومحاربته ومن ثمّ استحلال دمه، فيتم إسكاته إلى الأبد وجعله عبرة لكلّ أصحاب الفكر من بعده.
وذكر إسميك، أنه يقف وراء استشراء آفة التكفير في مجتمعاتنا النامية صنفان: أصحاب الفكر المنغلق الذين يضعون حدوداً دائمة لعقلهم وبالتالي لعقول الآخرين؛ وأصحاب المصالح السياسية الذين لا يناسبهم تنوير العقول وانفتاحها، لأنها تهددّ تسلطهم واستبدادهم، وتفقدهم ما يحصلون عليه من "تقديس" يجعلهم معصومين عن الخطأ في نظر أتباعهم، ويضمن لهم قيام هؤلاء الأتباع بالدفاع عنهم حتى الموت حين يلزم الأمر! وكثيراً ما يكون الصنف الأول (المنغلقون) أداة في يد الصنف الثاني لإحكام سيطرتهم واستمرارهم، من دون أي اعتبار لما ينجم عن ذلك من تفكك في المجتمعات أو انتشار للجهل والتخلف يستمر أجيالاً تلو أخرى، ويحرم الشعوب من فرصة التطور واللحاق بما فاتها.
وأشار إلى أن أوروبا عانت طويلاً زمن تسلط الكنيسة من نير الانغلاق ومحاربة الأفكار والقتل بتهمة الزندقة، ولا يزال تاريخ محاكم التفتيش ومحاربة الساحرات وصكوك الغفران حاضراً كشاهد على ما مرّت به من تخلف، ولم تخرج منه إلا حين تمّ فصل الكنيسة عن الدولة، وسُمح للعلم بأن يكسر الحواجز والأسوار بعيداً من الخوف من رقابة القائمين على الدين وتجييرهم تعاليمه خدمة لمصالحهم ورؤاهم الضيقة، فكان انتصار الفكر والعقل على رواسب الجهل فاتحة عصر الحداثة والتطور الذي اجتاح الغرب بعدها، ومن المؤسف أن كثيراً من أبناء المجتمعات التي لا تزال محكومة بتحجر عقول بعض أصحاب القرار السياسي والديني، ينظرون بعين الحسد إلى ما وصلت إليه الدول المتقدمة التي حررت الفكر ودعمته، في الوقت الذي تنطق ألسنتهم بلفظ "الغرب الكافر" في كلّ مناسبة!.
تابع: بينما في الإسلام مثلاً، يُرجع الإجماع مصطلح "التكفير" إلى المجموعة التي خرجت على عليّ بن أبي طالب وكفّرته حين رضي بالحوار مع معاوية بن أبي سفيان في موقعة صفين، والذين عُرفوا في ما بعد بـ"الخوارج"، وقد رد عليّ عليهم بالقول: "من علمكم قتل الناس على آرائهم؟"، ورغم أنه منحهم حق الاعتراض على أفعاله، إلا أنه وضع "قتل الناس وظلمهم"مرحبا حداً بينه وبينهم. ورغم ذلك لا يزال التفكير يواجَه بالتكفير من قبل جماعات منظمة تدّعي الإسلام، فتستخدمه لتبرير سلوك العنف الذي تسلكه لتحقيق أهدافها وأجنداتها، سواء ضد مسلمين آخرين، أم ضد غير المسلمين ممن يُعتبرون في رأي هؤلاء كفرة ومذنبين.
وأكد إسميك، أن الدين الإسلامي قد وضع قيوداً كثيرة على التكفير، وأن الفكر لم يكن يوماً جريمة تستحق العقاب، بل على العكس، إذ ينص القرآن الكريم صراحة على ضرورة التعقل والتدبر، حتى في آياته: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ».. و«كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».. و«إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».. و«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ».. و«أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»، فكيف يتم تجاوز صريح الدعوة إلى التفكير، والانقياد خلف دعوات وفتاوى مشبوهة في عصر باتت فيه كل وسائل المعرفة والبحث حاضرة في بيوتنا وبين أيدينا؟ إن السبب الوحيد هو تقييد العقل بأصفاد الخوف والإقصاء، والانجرار خلف من لا يتفكرون.
ونوه بأن العلم قد توصل إلى تحديد مجموعة من العوامل النفسية التي تقف وراء إنكار الحقائق وعدم تقبلها، كالتنافر المعرفي المتعلق بالاعتياد على نوع محدد من الأفكار، وتأثير الناتج العكسي المرتبط بشخصنة القضايا الخاضعة للتأويل، وربطها بالهوية الذاتية للأفراد والمجتمعات. إن كلّ ذلك يعيق تشكل بنية معرفية تسمح بتفعيل وظائف الإدراك وحل المشكلات، فلا يعود المُنكر في هذه الحالة يرى في الحقائق وأصحابها إلا عدواً ينبغي القضاء عليه.