ارتفعت تكبيرات العيد عبر مكبرات الصوت في قرية صراوة بالمنوفية، وتحرك أهالي القرية وهم يرددونها في الشوارع متوجهين لساحة الصلاة، وهم يتمنون أن يكون الشيخ شعبان الصياد، إمامهم في تلك الصلاة وقلوبهم قبل ألسنتهم تدعو له.
ولكن قبل بدء شعائر صلاة العيد نزل الخبر كالصاعقة على أهل قرية صراوة لقد رحل الشيخ شعبان الصياد، ووافته المنية في صباح يوم الخميس غرة شهر شوال لعام 1418 هـ الموافق 29 يناير 1998.
تباينت مشاعر أهل القرية ما بين الحزن على الفقيد الراحل، والذي كان محبوبا جدا بين الناس، وبين إحساسهم بأن الله كرمه بالوفاة في هذا اليوم المبارك، لما قدمه طوال حياته في خدمة القرآن الكريم، تلاوة وتجويدا وشرحًا للبسطاء بالقرية.
رغم مرور 24 عامًا على وفاة القارئ العالِم الشيخ شعبان الصياد، إلا أن ذكرى هذا اليوم وتلك الشخصية الفريدة بين قراء القرآن الكريم، ما زالت عالقة فى أذهان أهل قرية صراوة، بشكل خاص، وبأذهان محبيه ومريديه فى مصر والعالم كله.
فلم تشهد دولة التلاوة القرآنية، قارئاً امتلك ناصية القوة فى الأداء والثقافة الصوتية والمقامية والقرآنية وجمال الصوت، سوى ذلك القارئ الأسطوري، الشيخ شعبان الصياد، صاحب المدرسة المنفردة فى الأداء، والحنجرة الذهبية التى طالما جادت بالعجائب والمعجزات، والذى تجد فى صوته التجليات الإلهية التى تخشع لجلالها القلوب والأبدان.
ولد الشيخ شعبان الصياد، بقرية صراوة، التابعة إداريا لقرية دروة مركز أشمون بمحافظة المنوفية، فى ٢٠ سبتمبر ١٩٤٠، ونشأ فى بيت ملىء بآيات الذكر الحكيم، فوالده هو الشيخ عبد العزيز إسماعيل أحمد الصياد، الذى كان يتمتع بجمال فى الخلق والخُلق إضافةً إلى جمال وعذوبة صوته الذى كان يعرفه الجميع، فى القرى والمدن المجاورة.
نشأ الشيخ شعبان، فى منطقة مشهورة بأنها قرى القرآن الكريم بالمنوفية، فالقرى الثلاث (دروة - صراوة - كفر صراوة) والتى تجمعها وحدة محلية واحدة بدروة، كانت مشهورة بانتشار كتاتيب تحفيظ القرآن، ومشايخ القراءات العشر، ويتبارى أهلها فى تحفيظ أبنائهم كتاب الله بأحكامه وتجويده، وخرج منها عدد غير قليل من قراء القرآن الكريم، وأعلام التلاوة، والذين اشتهر بعضهم فى الإذاعة المصرية، مثل الشيخ عبد الرحمن الدروى والشيخ عبد العزيز الصياد، وغيرهما.
وكان الشيخ عبد العزيز الصياد، ذا صوتا ملائكياً، يشبه صوت «الشيخ محمد رفعت» كثيرا، وكان يدعى إلى السهرات والمناسبات، فى صراوة التى انتقل صيته منها لمدن وقرى المنوفية، ومن مشاركاته بالمناسبات فى قرية دروة انتقل صيته للقناطر الخيرية القريبة منها، ثم منها للقاهرة والجيزة.
وذاع صيته فى عموم مصر، فقدم للاعتماد فى الإذاعة المصرية، وكان ذلك فى أوائل الأربعينيات، واجتاز الامتحان أمام لجنة الاستماع، ولكن خطاب الاعتماد وصله فى نفس يوم وفاته فى عام ١٩٤٤، فلم يتحقق حلمه باللحاق بابن دروة الشيخ عبد الرحمن الدروي، الذى التحق بالإذاعة عام 1942.
كان الشيخ شعبان الصياد لم يتجاوز الرابعة من عمره، عندما توفى والده، الذى ورث عنه عذوبة وجمال الصوت، ورغم صغر سنه، إلا أنه قرر أن يسير على نهج والده ويكمل المسيرة، ويحقق حلم الإذاعة الذى توفى الشيخ عبد العزيز قبل أن يكمله.
وأتم الشيخ شعبان الصياد حفظ القران الكريم كاملاً وهو فى السابعة من عمره، فقد كان يتردد على كتاب القرية منذ نعومة أظافره، (كتاب الشيخ غريب محمد جاد، الذى تخرج من كتابه العديد من المشاهير) وكان الشيخ شعبان، متميزاً بين أقرانه فهو أسرعهم حفظاً وأجملهم صوتاً، وزاد من تميزه أنه تعلم الأحكام والقراءات وسطع نجمه فى سماء دولة التلاوة القرآنية فى سن صغيرة.
وكثيرا ما كان الشيخ غريب، يثنى عليه وبين الحين والآخر يجعله يتلو بصوته الجميل ما حفظه من آيات أمام زملائه وغالباً ما كان يحظى بجوائز بسيطة للتشجيع والتحفيز على التميز باستمرار.
وبعد إتمام الحفظ تلاوة، انتقل لتعلم أحكام التجويد والقراءات على يد الشيخ جاد أبوغربية، أحد القراء المعروفين فى هذه الفترة، وكان من علماء القراءات فى ذلك العصر، ويقصده الكثيرون من حفظة القرآن الكريم ليتعلموا القراءات العشر كلها أو بعضها على يديه.
ثم التحق بالمعهد الدينى الابتدائي، وأثناء دراسته بالمعهد، كان أساتذته يعلمون موهبته الصوتية، فيجعلونه يتلو عليهم بعض آيات الله البينات، أثناء اليوم الدراسي، وذاع صيته وأصبح القاريء الرسمى للمعهد، ويفتتح أى مناسبة بالمعهد، بتلاوة لآيات القرآن الكريم بصوته العذب.
ومع التحاقه بالمرحلة الإعدادية الأزهرية، ورغم صغر سنه، عرف فى قريته والقرى المجاورة كلها بحلاوة صوته وعذوبته وتمكنه من التلاوة السليمة الصحيحة، فبدأت الدعوات تتوالى عليه، وهو فى الثانية عشرة من عمره، ليتلو القرآن فى المناسبات العامة والخاصة بقرى صراوة ودروة وكفر صرواة وغيرها، فأحيا ليالى المولد النبوى الشريف بدورات العائلات بتلك القرى، وكذلك ليالى الله (ليالى الندور والتى ينظمها أعيان تلك القرى)، وغيرها من المناسبات، وكان وقتها يتقاضى عدة قروش بسيطة.
وفى المرحلة الثانوية، التحق الشيخ شعبان، بالمعهد الدينى بمنوف، وذاع صيته هناك، فكانت تتم دعوته إلى المناسبات المختلفة فى مدينة منوف والقرى المجاورة لها، وأصبح من أشهر قراء القرآن فى محافظة المنوفية، وينافس كبار ومشاهير القراء حينها، بصوته العذب وتمكنه من القراء وإلمامه بعلوم التجويد.
التحق الشيخ شعبان الصياد، بكلية أصول الدين شعبة العقيدة والفلسفة، ونظرا لصعوبة التنقل يوميا من المنوفية للقاهرة، وكذلك لكى يجتهد فى دراسته كما تعود، اضطر للسكن هناك، وكانت أكثر إقامته فى صحن الأزهر الشريف.
ورغم إصراره على التفوق الدراسي، وانتظامه فى حضور كافة دروسه بالأزهر، لم يتوقف الشيخ شعبان الصياد، عن تلاوة القرآن فى جلساته الخاصة مع أقرانه وزملائه بالأزهر والسكن، وكذلك المشاركة فى المناسبات المختلفة، التى كان يدعو لها سواء بالقاهرة أو المنوفية، وذاع صيته أكثر وسمع به مشاهير القراء فى ذلك الوقت.
وفى إحدى الليالي، وبعدما شارك بتلاوة القرآن فى إحدى المناسبات، عاد إلى صحن الأزهر الشريف، ليستذكر دروسه، فقد كان سيؤدى أحد امتحاناته بالكلية، فى اليوم التالي، وغلبه النوم من شدة الإرهاق، فنام بصحن الأزهر.
وكان الشيخ مصطفى إسماعيل فى جامع الأزهر لصلاة الفجر، فى تلك الليلة، فرآه وهو نائم وفى يده كتابه الذى سوف يمتحن فيه صباحاً، فقال لمن معه: «انظروا وتمعنوا فى هذا الشباب النائم أمامكم، فإن له مستقبلا عظيما فى دنيا تلاوة القرآن الكريم».
ولم تكن تلك أول مرة يشهد فيها الشيخ مصطفى إسماعيل، وهو من مشاهير القراء بمصر والعالم الإسلامي، للشيخ شعبان الصياد ويتوقع له مستقبلا باهرًا فى دولة التلاوة، بل إنه قابله فى قرية أبو صنيدة بالمنوفية، خلال أحد المآتم، وعقب سماعه لصوته فى التلاوة، أثنى عليه وقال له: «يا شيخ شعبان أنت تذكرنى بشبابي» وطلب منه أن يختم القراءة فى هذه الليلة خلافاً للمتعارف عليه، وأن القارئ الكبير هو الذى يختم القراءة فى هذه المناسبات.
أتم الشيخ شعبان تعليمه الجامعي، وحصل على الليسانس بدرجة جيد جداً فى عام 1966، وحاز على ميزة جديدة بين أقرانه من قراء القرآن الكريم، فقد حصل على شهادة العالمية وتدرج بالأزهر الشريف حتى وصل إلى درجة وكيل وزارة، كما أنه كان دارساً لأحكام التلاوة والقراءة والتجويد فقد كان حريصاً على مجالسة العلماء الكبار الذين كانوا لا يبخلوا عليه بأى شيء خاص بالقرآن الكريم وأحكامه.
رشح للعمل بالسلك الجامعي، كمحاضر بالكلية ولكنه رفض، مبررًا ذلك، بقوله إن الجامعة وعمله بها كمحاضر وأستاذ سيجعل عليه التزامات تجاه الجامعة والطلبة مما يعيقه عن رسالته التى يعشقها ويؤمن بها وهى تلاوة القرآن الكريم.
ولكن لم يتخل أيضا الشيخ شعبان عن رسالته التربوية، فبعد أن رفض وظيفة المحاضر الجامعي، عمل كمدرس قرآن وتفسير وحديث بالمعهد الدينى بمدينة سمنود بالغربية وكان ينتقل إليها يومياً من مقر إقامته بمنوف، ثم تم نقله لمعهد الباجور الديني، ثم معهد منوف الثانوي، فمديرية الأوقاف بشبين الكوم، حيث رقى إلى موجه فى علوم القرآن، ثم موجه أول، ووصل إلى درجة وكيل وزارة بالأوقاف.
ورغم انخراطه فى التدريس بالأزهر والعمل بالأوقاف، لم يتوقف الشيخ شعبان الصياد، عن إحياء المناسبات المختلفة، وذاع صيته فى جميع محافظات الجمهورية وكان معظم الناس يتمسكون به فى مناسباتهم، كما كان حريصا على إحياء ليالى رمضان سنوياً فى جمعية تحفيظ القرآن الكريم بالمنوفية، ويحضرها كبار رجال المحافظة ومشايخها ليستمعوا ويستفيدوا من قراءته للقرآن الكريم، فهو ملم بتلاوته وعلى دراية بكل معانيه وتفسيره، وهذا ما كان يميزه عن باقى القراء.
وفى عام 1975 تحقق حلم الشيخ شعبان الصياد، وحلم والده الشيخ عبد العزيز، واستطاع أن يجتاز امتحان الإذاعة المصرية، ومع تميزه وتفرده فى دولة التلاوة، تم إلحاقه قارئا للقرآن الكريم، بإذاعة البرنامج العام مباشرةً، دون المرور على البرامج القصيرة، كما جرت العادة فى ذلك الوقت، كما تم اختياره منذ أول شهر ليكون قارئ قرآن صلاة الجمعة بالإذاعة، فانبهر بصوته المستمعين، مما رشحه فى الجمعة التالية مباشرة ليكون قارئ القرآن بالجمعة فى الصلاة التى ينقلها التليفزيون المصري، فزاد معجبوه فى مصر وخارجها، فتم اختياره ليكون أكثر القراء فى صلاة الفجر مباشرة سواء بالإذاعة أو التليفزيون.
واستطاع أن يصنع لنفسه مكانة بين أكبر القراء فى الإذاعة وخارجها، بل وفى العالم الإسلامى كله، وذلك بفضل عذوبة صوته ونفسه الطويل إلى جانب مهارته فى التنويع بين القراءات والنغمات وإلمامه بالمقامات لتنهال عليه الألقاب على صفحات الجرائد والمجلات، فى جميع أقطار العالم الإسلامي، منها: ملك الفجر والقارئ العالم وصوت السماء ونجم الأمسيات، وصياد القلوب، وقارئ الجمعة.
ورغم المناسبات العديدة داخل وخارج مصر التى شارك فيها الشيخ شعبان الصياد، إلا أن أحبها لقلبها كما صرح لمقربين منه، كانت اختيار الرئيس السادات له ليكون أول قارئ للقرآن فى مسجد القنطرة شرق بسيناء عقب تحريرها، بحضور الرئيس شخصيا يرافقه عدد من كبار رجال الدولة.
وفى موقف آخر يؤكد تميزه وتفرده، حينما توفى والد القارئ الشيخ محمود على البنا، طلب منه الحضور للمشاركة فى ليلة العزاء بقرية شبراباص، ليفاجأ فور وصوله بوجود العديد من أعلام التلاوة بالعزاء، منهم المشايخ مصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد، وعبدالعزيز على فرج، ومحمد الطبلاوى وغيرهم.
قام الشيخ البنا باستئذان الجميع فى أن يصعد الشيخ الصياد التخت ليقرأ فوافقوا جميعًا، وقرأ من سورة الإسراء وسط إعجاب وتشجيع من القراء والمعزين الذين تجاوبوا مع أدائه المبهر والمعجز فى نفس الوقت.
قال عنه الموسيقار الراحل عمار الشريعى فى برنامجه الشهير «غواص فى بحر النغم»: «إننى فوجئت بالأمس بصوت (كسّر) كل قواعد الموسيقى المتعارف عليها فى دنيانا، سمعت شيخًا اسمه شعبان الصياد وهو يصعد فى تلاوته بانسيابية مطلقة، ثم ينزل بمنتهى السهولة واليسر كانسياب الماء من الصنبور».
صال وجال بتلاواته فى جميع أنحاء مصر من أقصاها إلى أقصاها، وذلك فى المناسبات المختلفة وبصورة شبه يومية، وكان محبّوه يحرصون على سماع صوته فى كل الظروف، وحصل على العديد من الجوائز والأوسمة والشهادات التقديرية من مصر ومعظم الدول التى دعى إليها لإحياء ليالى شهر رمضان المبارك وكان آخرها سلطنة بروناى.
فاجأه المرض عام 1994، فأصيب بمرض الفشل الكلوي، ورغم ذلك حاول الاستمرار فى تلاواته القرآنية رغم مرضه، ولكن فى أضيق الحدود حتى أقعده المرض تماماً، وقد أحسن المولى عز وجل ختامه ولبى نداء ربه وفاضت روحه الطاهرة وكانت جنازته فى مسقط رأسه بقرية صراوة حيث دفن فى مدافن الأسرة، كما أوصى بذلك ليرافق والده فى الموت، والذى لم يحظ بالحياة معه كثيرا.
حضر الجنازة جمع غفير من جميع المحافظات وعلى رأسهم مندوب عن رئيس الجمهورية، الذى أرسل برقيتين للتعزية، وكذلك نعاه وأرسل برقيات تعزية لأسرته، رئيس الوزراء والوزراء وجميع كبار رجال الدولة، ونقلت القناة السادسة الإقليمية بالتليفزيون (الدلتا حاليا) مشهد الجنازة العظيمة وأذاعته مباشرة إذاعة القرآن الكريم، وحضر جنازته الشيخ عبد العاطى ناصف والشيخ صلاح يوسف، وحضر العزاء جمع كبير من القراء، على رأسهم نقيب القراء الشيخ شعيشع والشيخ غلوش والشيخ الطبلاوى والشيخ محمد الطوخي، وغيرهم الكثيرون من أعلام التلاوة