"بينا عيش وملح" كلمات تعبر عن توقيع عقد اتفاق بين طرفين، ينص على نبذ الغدر، والملح هنا لا يقتصر معناه على أنه شريك جوهري فى الطعام، إنما يشير عند أجدادنا العرب إلى وجود أخوة الرضاعة، ويلمح لقوة علاقة الأطراف، ويصل الحال لدى "المصريين الجدعان" إلى نوع من التقديس لهذا الرباط، ويقولون: "اللي يخون العيش والملح ياويله"، ويقسمون به: "وحياة العيش والملح".
واعتقادا بأن المعدة أسرع الطرق للوصول للقلب، أقامت الشعوب الولائم فى العرس وأثناء الاحتفاء بالضيوف ووقت جلسات المصالحة، والعزومة على الطعام دواء ناجع لعلاج الغضب، وحين ينغمس المتخاصمان فى تناول اللحوم والمحاشي تخرج الغصة من القلب، ووسط أجواء الولائم وطيب الأكل تتم الصفقات التجارية، وظهر الاهتمام باستخدام ثقافة الطهي فى الدبلوماسية مع بداية القرن الحالي، فقد أثبتت نجاحها فى ترويج الصادرات وتنشيط سوق السياحة.
وأطلق خبراء الدبلوماسية على الولائم مصطلح "دبلوماسية المعدة"، وتارة أخرى يسمونها "دبلوماسية الطهي"، ولأول مرة شرعت الجامعة الأمريكية بواشنطن منذ أعوام وضع برنامج دراسي لتأثير الطهي وثقافة الغذاء على العلاقات بين الدول، وتعرض الدراسة أساليب توضح دور المطبخ فى دعم النفوذ الدولي ونزع فتيل الصراعات.
وأكدت مجلة "الدبلوماسية العامة" الأمريكية من خلال بحث أجرته أن الإعجاب بمأكولات شعوب معينة يؤدي إلى نسج آراء إيجابية حول دولها، وهو ما فعلته تايوان فى تنشيط السياحة، وأطلقت حملة دبلوماسية للطهي، تهدف لترويج مأكولاتها فى عدة دول، وتسعى عن طريقها لكسب المزيد من التأييد الدولي، وتنتهج دول جنوب شرق آسيا نفس النهج مثل كوريا الجنوبية وماليزيا، ولحقت بهم الولايات المتحدة.
وقاوم الفلسطينيون الاحتلال الإسرائيلي بدبلوماسية الطعام، وافتتح فلسطينيو الخارج مطاعم للتعريف بتاريخ فلسطين، وصدر كتاب بعنوان " فلسطين على طبق"، وكتبت الفلسطينية فداء حمدية فى صحيفة إيطالية مقالاً عنوانه "الطعام والهوية"، وبفضل دبلوماسية الطعام الفلسطيني حققت انتصارا عجزت عنه أحيانا السياسة.
وتاريخ الشعوب يكتظ بأكلات ترتبط بثقافاتها وسياستها، وأشهرها طبق "أم علي" الحلو الذي عرفه المصريون لأول مرة عندما سمعت أم علي زوجة عز الدين أيبك بمقتله على يد شجر الدر، وبعد تمكنها من قتل شجر الدر، أمرت أم علي بخلط الدقيق مع السكر وبعض المكسرات فى أوان ٍمع الحليب، ووضعت عليه الخبز، وقدمته للناس احتفالا بتنصيب ابنها، ومن وقتها انتشر الطبق باسم أم علي.