«  مربع برمودة ».. الإهدار العام للوقت وللمواهب

«  مربع برمودة ».. الإهدار العام للوقت وللمواهبمحمود عبد الشكور

الرأى15-2-2022 | 20:03

هناك أشياء كثيرة مدهشة فيما يتعلق بالأفلام المصرية، ليس أقلها أنها تمتلك كل مقومات الصناعة، ولكنها لم تصل بعد كل تلك السنوات إلى مستوى الصناعة المستقرة، فما زال حجم الإنتاج، كما وكيفا، أقل من القدرات والمواهب، بل وأقل مما نمتلك من رؤوس الأموال، التي يمكن أن تصنع الأفلام، والتي تستطيع أن تستثمر فى السينما، وتربح منها، بل ويمكنها أن تصدر أفلامنا للعالم.

ولكن أغرب ما يدهشني ما أسميه "إهدار الوقت والمواهب"، بعمل أفلام سخيفة جدا، رغم أنها تقوم على أفكار معقولة وجيدة، وينفذها فنانون لديهم مواهب وقدرات جيدة، ولكن النتائج بشعة، بل وكارثية، وأظن أن ذلك يمثل إهدارا على كل المستويات: لجهد صناع الأفلام، الذين كان يمكن أن يستغلوا وقتهم فى أعمال أفضل، وإهدار لوقت المتفرج، فى مشاهدة فيلم متواضع، وإهدار، من قبل ومن بعد، للمواهب وطاقاتها وقدراتها.

هذا فيلم يمكن أن تعتبره نموذجا لكل ذلك، عرض فى شهر ديسمبر 2021، بعنوان "مربع برمودة"، من تأليف هشام هلال، ومن إخراج طارق رفعت، ومن بطولة الرباعي: عمرو عبد الجليل، ومصطفى خاطر، وروجينا، وهنا شيحة، وهو عمل يقوم على فكرة براقة وذهبية، فهناك رسام فى مجلة للأطفال، وهو نفسه شديد السذاجة والبراءة، يعرف أفكار مجرم محترف، سجن فى مصر وفى الخارج، ولا يتردد فى أن يسرق ويقتل بكل سهولة، وبدون ذرة من تأنيب ضمير.

عالمان مختلفان، ورجلان على طرفى النقيض، وخيال يأخذ ظاهرة التخاطر (أو التليباثي أو معرفة أفكار الغير) إلى مداها، حيث المفارقة التي هي أساس الكوميديا الجيدة، ويبدأ الفيلم أيضا بداية موفقة حيث تتقاطع عملية سطو يقوم بها المجرم حبشي (عمرو عبد الجليل) وعصابته، مع قيام الرسام وجيه (مصطفى خاطر)، برسم لوحات تفصيلية لعملية السطو كما انتقلت إلى رأسه، من رأس المجرم الخطير، وسنعرف بعد ذلك أنه يرسم ستوري بورد لإعلان عن مشروب للطاقة، وهكذا ندخل مباشرة بذكاء إلى موضوع الفيلم، وبأقل عدد من المشاهد، وهي نقطة هجوم ممتازة، تعدنا بعمل مميز، وخصوصا أن اللوحات المرسومة امتزجت بسلاسة مع عملية السطو نفسها، بحيث بدا أننا نقترب من عالم الكوميكس، وخياله الخصب المنطلق.

وما أن تعتدل فى مقعدك متمنيا عملا على مستوى الفكرة والبداية، حتى ينقلب كل شيء تقريبا، وكأن أحدا آخر كتب الفيلم غير كاتب المشاهد الأولى، حيث يبدو الرسام مثل طفل عبيط تقريبا، بينما هو ليس كذلك بالقطع، وبينما يقول إنه يتيم الأم، تظهر سيدة يناديها وجيه باسم فايزة (دينا) ، ولم أعرف فعلا ما علاقته بها، ولكنها أقرب إلى أم بديلة تبحث له عن عروس، وهي أيضا، فيما أظن، صاحبة الشركة التي يعمل بها، بينما يظهر المجرم المحترف حبشي مع زوجته القادمة من بيئة شعبية، والتي تقول إنها تزوجته عرفيا، وتريده أن يخونها، وتؤدي دورها ممثلة جديدة، تقلد بنات البلد بصورة بائسة.

يعرف حبشي أن صورته مرسومة هو و زوجته العرفية على كانزات المشروب، ويصل إلى الرسام ويختطفه، فى الوقت الذي تظهر فيها شخصيتان نسائيتان تزيدان من ارتباك الخطوط، لأنهما رسمتا بشكل عجيب ومفتعل، وبكثير من الفبركة، رغم أن الشخصيتين يفترض أنهما ستدفعان الأحداث للأمام، وستطوران المعالجة.

الشخصية الأولى هي تيتي السلحدار (روجينا)، التي تنظم برامج للتنمية البشرية، ولكنها تفتقد الحصول على حبيب مناسب، وتعالج عند الطبيب النفسي ( من غيره يؤدي الدور ويصرخ يا كوثر؟ طبعا محمد ثروت)، وعندما تشاهد وجيه، تقع فى غرامه، بل ويظهر أنها تعرف أفكاره، على طريقة تخاطره مع حبشي.

الشخصية الثانية أكثر افتعالا، وهي شيري (هنا شيحة)، وأعتقد، إذا لم تخنى الذاكرة، أن لها علاقة ما بتصنيع أجهزة الحماية من السرقة، وتلعب كونج فو، وتحب المغامرات، وتريد أن تسرق صديقاتها بهدف التسلية، وأشياء سخيفة من هذا القبيل، ويظهر رجل الشرطة (محمد جمعة)، الذي يقبض على حبشي وعلى وجيه، والذي يفترض أن لديه تحريات، ويقود الجميع للمحكمة، ولكن حبشي يخرج براءة!، والطريف أن حبشي سيمارس فى النهاية عملية سطو على تاج (مش عارف مين بالضبط) فى أحد المتاحف، رغم أنه تحت أعين الشرطة طوال الوقت.

هناك مزيد من العجائب، فالحكاية كلها نتيحة عمل مدفون من الماضي، أي والله عمل بتاع الجان والعفاريت، وتظهر داية تلعب دورها عايدة رياض، تحكي عن تفاصيل العمل القديم الذي جمع البلهاء الأربعة، او مربع برمودة، وهم: حبشي، ووجيه، وتيتي، وشيري، وكله بالفبركة ممكن، المهم أن نكتشف علاقات بين الجميع، والمهم أن يثبت وجيه لحبشي أن اللص يمكن أيضا أن يكون بطلا!!!

ومثلما ظهر العمل المدفون فجأة، يتم إحراقه أيضا بالصدفة، فتنحل العلاقة بين الرباعي الأبله الذين يحاولون الإضحاك، فلا يتمكنون إلا فى لحظات متباعدة، وبين ملل لا يطاق، وحزن على إهدار الوقت، وغضب ممن يستهينون بعقول الجمهور، نستيقظ أخيرا على تجاوب الفتاة التي يحبها وجيه على الفيسبوك، وعلى قبول رسومه البعيدة عن التخاطر، لقد أدرك أخيرا أن خياله كان مرتبطا بالمجرم رغما عنه، وها هو يتحرر ويحب وينجح وينتعش، وكل عام وأنتم بخير.

ما يزعج فعلا أن هشام هلال كمؤلف له عملان لافتان من قبل: فى الدراما التليفزيونية شارك فى كتابة جيدة لمسلسل جيد، هو "المواطن إكس"، وفى السينما كتب فيلما أعجبني فيه استلهام جيد لعالم العصابات، مع لمسة تأثر بأفلام الكوميكس، هو فيلم "كازبلانكا"، الذي حقق نجاحا ساحقا.

هذه المرة فى "مربع برومودة" نحن أمام "سمك لبن تمر هندي"، هناك خليط متنافر واضح الافتعال، وفيه حتى الفشل فى كتابة مواقف كوميدية جيدة، فى الأغلب والأعم، بينما وقع عمرو عبد الجليل فى فخ الكليشيهات المعتادة، مع ارتجال ما تيسر من إفيهات، وكان أداء مصطفى خاطر باهتا، بل واقترب فى مشاهد كثيرة من شخصيته فى فيلم "ثانية واحدة"، وكانت هنا شيحة تائهة فى أداء شخصية متناقضة فيها كثير من الإفتعال، ربما الجديد هو دور روجينا المختلف عما قدمته من قبل من أدوار، وقد اجتهدت بقدر ما سمحت الظروف، ولكن الصورة عموما كانت مؤسفة.

هكذا يقتل الاستخفاف والاستسهال الأفكار الجيدة، ولعله سيقتل المواهب أيضا.

أضف تعليق