مناسبة تافهة هى التى جعلتنى أزور القدس، مدينة الأديان والسلام – أو الأديان التى تدعو كلها إلى السلام، وإن لم يكن بين المؤمنين فيها أى سلام من أى نوع – فقد كان المطلوب من المصريين أن يذهبوا ويسقطوا اميل البستانى المليونير اللبنانى الذى أسس «اتحاد الخريجين» وكنا أغلبية.
وأجريت الانتخابات وأدارها مذيع صوت العرب الشهير «أحمد سعيد».
وخطب اميل البستانى رجل الأعمال فكان فصيحًا يرتجل الشعر ويرويه.. وتحدث المصريون وكانت فضيحتنا بجلاجل، فليس بينهم واحد يعرف الفرق بين اسم كان وخبر إن – اللهم إلا الشيخ الباقورى.
الدنيا برد.. المدينة عالية.. السماء قريبة بسحابها الكثيف.. الأرض مغسولة.. وفى الهواء شىء غريب لا أعرف ما هو.. هل هى روائح غريبة.. أصوات عجيبة.. خطر فى كل مكان.. ما هذا الخطر؟ إنهم اليهود.. ولكن أين هم؟ لا أعرف أين حدود القدس العربية والقدس اليهودية.. لا أعرف، ولكن هناك إحساس بخطر ما.. هناك من يقول إن هذا الشارع عند نهايته توجد أسلاك.. ووراء الأسلاك قوات الأمم المتحدة.. ووراءهم اليهود.
ما أشكالهم.. ما ألوانهم.. ماذا يعملون.. ماذا يقولون؟ وأشار واحد إلى عربة إسعاف عليها الصليب الأحمر هى التى تنقل لهم الطعام.. لمن؟ لليهود!
وأين هم؟ قيل فى مستشفى هاداسا وقيل فى الجامعة العبرية.. لماذا؟ لا أحد يجيب.. ولكن هناك خوف عام.. خوف ليس محددًا.
وأظلمت الدنيا فجأة.. وأصبح كل شارع مخيفًا.. وكل خطوة غير محسوبة فوق لغم.. لماذا؟ لا أعرف بوضوح.
ولكن من المؤكد أن المسجد الأقصى بعيدًا عن الخطر.. وكذلك قبة الصخرة.. وطريق الآلام وحائط المبكى وكنيسة القيامة.. وفى كل مكان يوجد حجر وقف عنده نبى.. أو دفن تحته ولى أو قديس.
واحتشدت كل حواسى.. واتجهت جميعًا إلى ناحية المسجد الأقصى.. كيف يكون.. ولم أكن قد رأيت مكة أو مسجد الرسول.. ولا المسجد الأموى.. ولكنه المسجد الأقصى الذى كان أولى القبلتين.. أما القبلة الثانية فهى المسجد الحرام.
كان الطريق إليه غريبًا.. الطرق كلها ضيقة.. والناس كثيرون يتزاحمون.. الوجوه عربية والملابس والأصوات متداخلة.. لا هى عربية ولا عبرية.. وهناك كلمات إنجليزية بين الكلمات العربية.
والشوارع تزداد اختناقًا.. كأننا نمشى فى أحشاء حيوان ضخم.. حيوان لا نعرف له رأسًا من رجلين.. وفجأة قيل لنا: هذا هو حائط المبكى!
حائط المبكى؟! بقايا الهيكل.. بقايا المعبد الذى بناه سليمان عليه السلام وانهدم وأقيم أكثر من مرة.. الحائط متآكل.. ومن بين أحجاره نبتت الأعشاب.. و اليهود الذين يزورون الحائط قادمين من القدس الغربية يبكون هنا.. وقد تساندوا بأيديهم عليه.. وبعضهم يهتز قربًا وبعدًا من الحائط.. ثم يضعون بين أحجاره شكاوى إلى الله.. ومن بين هذه الشكاوى أن ينصرهم على العرب وأن يجعل الحائط فى حوزتهم.. ولا يكاد اليهود يعودون إلى القدس الغربية حتى تمتد الأيدى العربية تقلب فى هذه الأوراق وتحرقها.. الحائط ليست له أية مزايا.. إنه مجرد رمز.. فقد كان لليهود تاريخ هنا.. وكان هنا معبد وقصر سليمان.. وقد هدم الرومان المعبد.. وجاء البابليون وهدموه مرة أخرى.. إنه رمز الرموز فى التاريخ اليهودى.
وأذكر أننى كتبت ورقة ووضعتها بين الصخور.. وطلب منى الأستاذ الباقورى أن آتى له بورقة من هذه الأوراق.. فتكاسلت فمد يده وأخذ الورقة التى كتبتها.. وراح يضحك فقد كانت أبياتًا من الشعر لشاعرنا الصعلوك عبد الحميد الديب!
وقالوا: هيا بنا إلى المسجد الأقصى.
وسرنا فى طريق طويل – وعرفت فيما بعد أن الطريق لم يكن طويلًا، وإنما المسجد الأقصى يقع على مسافة مائة متر من الحائط.. وأتذكر أننا سرنا ودرنا ولففنا وصعدنا.. هل هذا ما حدث أو أنه شعورى بأن المسجد الأقصى فوق.. فوق.. شىء عجيب لقد أحسست أن المسجد ضيق.. وأن السقف منخفض، ولم يكن كذلك.. ولكنه إحساس بأن أحنى رأسى.. وأن أجمع ملابسى وأن أزررها احترامًا وإكبارًا.. والحقيقة أن للمسجد 21 بابًا.. وأن السقف مرتفع.. ولكنى امتلأت احترامًا حتى أحسست أن الباب يضيق بى.. وأثقلنى الهم والحزن على ما أصاب المدينة والشعب الفلسطينى.. فانحنى ظهرى ورأسى وكل أفكارى.
وتلفت ورائى وأمامى.. المسجد ككل مسجد.. إنه قديم.. والإضاءة ضعيفة.. وكان يوم جمعة والخطيب هو الشيخ الباقورى.. والناس كثيرون والخطيب فصيح.. وكلمة: الله كأنها، آه.. عالية شامخة جريحة.. فليس بيننا أحد إلا قال: يا الله.. ويجىء الحرفان الأخيران من كلمة التعظيم هكذا: آه.. آه.. آه.
وفى الزحام لم أجد حذائى.. وسرت حافيًا والأرض مبللة إلى قبة الصخرة.. هنا جاء سيدنا إبراهيم يذبح ابنه إسماعيل.. ولكن الله فداه بذبح عظيم.. وهنا جاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأوقف «البراق» وصعد به إلى السماء.. وهذا الحائط يسميه المسلمون حائط البراق.. و اليهود يسمونه الحائط الغربى.. أو حائط المبكى.. وهنا يجىء كل صاحب هم وغم ويسند ظهره ويدعو الله فيجد الدموع تنهال من عينيه دون إرادة منه.. والدموع تغسل الهم.. وتجلو العين والقلب.. ويستجيب الله لدعائه بفضل وكرم منه.
والمسجد الأقصى سمى كذلك لأنه يقع عن الطرف الأقصى لهذا المكان المقدس.. ويقال إنه فى أقصى الأرض.. ويقال أقصى ما يبلغه المسلم فى رحلته إلى الله.. هذا المسجد بناه الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان.. ويقال إن ابنه الخليفة الوليد هو الذى أكمله.. ومن الخطابات الذى وجدناها لوالى مصر «قرة بن شريك» أن الذى بنى المسجد الأقصى هو الوليد وليس عبد الملك.. وأما قبة الصخرة فقد بناها أيضًا الوليد.. وهذا المسجد الأقصى قد بنى بأموال الضرائب التى دفعها المصريون.. وأعمدة المسجد وأخسابه نزعوها من بعض الكنائس.
والمسجد الأقصى قد هدمه زلزال سنة 747م.. وأعاده الخليفة المنصور سنة 759.. وهدمه زلزال ثان سنة 774م فأقامه الخليفة العباسى المهدى.. وهدمه زلزال ثالث سنة 1033م وأصلحه الخليفة الفاطمى الظاهر لاعزاز دين الله.. وفى العصور الوسطى قسموه نصفين؛ واحد جعلوه مسجدا والثانى كنيسة.. وأعاده صلاح الدين الأيوبى إلى ما كان عليه مسجدا.. وجعل له محرابا من الفسيفساء.
والمسجد الأقصى طوله 80 مترا وعرضه 55 مترا.. وبه 53 عمودا من الرخام.. والمسلمون أطلقوا عليه: ثالث الحرمين أى بعد المسجد الحرام ومسجد الرسول.. وأسموه أيضًا: مسجد الإسراء والمعراج.
وذهبت إلى فندق أميسادور حافى القدمين أتساند على الصحفى الكبير بلدياتى العزب موسى وصديقى العالم الفلكى الأردنى قدرى طوقان.. وقلت لهما: من المؤكد أننى سأصاب بالتهاب رئوى اليوم.. فحساسيتى للبرد خرافية.. فما الحل؟
وكان الحل أن نذهب إلى أحد مستشفيات الراهبات.. وجاءت راهبة وكانت جميلة.. فقلت لقدرى طوفان: إن هؤلاء الراهبات لا يردن شفاء الناس، ولكن أن يزدادوا مرضا.. فبالله عليك كيف تشفيك هذه الجميلة دون أن توجع قلبك؟
-وجع فى قلبك وفى بطنك.
-يا أخى إننى لا أعاكسها.. وإنما أتحدث بنعمة الله.. فمن نعمة الله على المريض أن يهبه طبيبة جميلة!
-أيوه كده اتعدل!
ومع ذلك فلم ينفع الدواء فقد لزمت الفراش يوما كاملا فى انتظار الزكام والانفلونزا، ولكنها لم تأت.. لقد عذبنى الخوف!
وقابلت أحد الشبان الرهبان فى الفندق قلت له: أريد أن أتفرج على بقية المدينة.. فسألنى وماذ رأيت؟ قلت: القليل جدي.. ولم يتسع وقتى لكى أتأمل واستعرض ما كان من تاريخ الإسلام وكفاح المسلمين وصراع الأديان فى مدينة السلام.
ونزلنا جبالا ودخلنا فى حدائق أو غابات لا أذكر الآن.. وسرنا فى شوارع.. وحوارى ضيقة.. وكلما مضينا فيها ازدادت رائحة البخور والعطور وصلصلة الأجراس.. ونداءات الباعة.. ولا علاقة لما يفعله الناس بالتاريخ المقدس فى كل مكان.
قال الراهب الصغير: فهمت منك أنك تعرف التاريخ المسيحى جيدا.
قلت له: درست الفلسفة المسيحية وكنت أقوم بتدريسها فى الجامعة.. وترددت على أهم الأديرة وخاصة الدير الدومنيكى فى شارع مصنع الطرابيش فى العباسية.. وكان لى أصدقاء وأساتذة مثل الأب بولانجيه والأب قنواتى وهو صديق عزيز.. ثم إننى كنت أحاضر فى الأديان وأقارن بين أربعين دينا..
-إذن.. لست فى حاجة إلى أن أقول لك كثيرا.. هذه هى كنيسة القيامة.. وأنت تعرف قيام المسيح.. وعلى الحائط قرأت لافتة تقول: طريق الآلام.
ياه.. إن هذه اللافتة لا تعرف أى أثر لها فى النفس.. هذه اللافتة التى سقط عليها المطر والتراب وتغطت خجلا.. ولم يخجل الإنسان.. فى هذا الطريق الصاعد سار السيد المسيح عليه السلام يحمل صليبه.. الصليب من خشب الزيتون.. ويقال إن شجرة الزيتون التى صنع منها الصليب ماتزال موجودة.. والناس يرونها تبكى.. مرة تكون دموعها مثل دموعنا.. ومرة دموعها من دم.. لقد حكم الرومان على المسيح بالصلب لأن اليهود ادعوا أنه يقول إنه ملك اليهود.. ثم حمل المسيح (32 سنة أو 33) صليبا ثقيلا من الخشب على كتفه.. حمل رسالته.. حمل مسئوليته.. وعلى هذه الرسالة سوف يدقون المسامير فى كفيه وفى قدميه.. ثم يسخرون منه ويضعون على رأسه تاجا من الشوك.. أليس يقول إنه ملك؟!
فكان رمزا رفيعا للإيمان والدعوة والقدوة والتضحية من أجل الإيمان وفى سبيل الحق والعدل والرحمة.. فارتفع به الألم إلى السماء أو هو الذى ارتفع بالألم إلى السماء.. لقد كان أسوء يوم فى تاريخ الإنسانية.. وجلس الرومان يلعبون ويسكرون والرياح تعصف ورسول السماء يتعذب ويئن وينزف.
وهنا – أشار الراهب – لقد كان العشاء الأخير، تعرف ذلك طبعًا؟
فهنا التقى السيد المسيح عليه السلام بتلامذته لآخر مرة.. وقال لهم إن واحدًا منهم سوف يخونه.. وكان واحد منهم قد اتفق مع الرومان الذين لا يعرفون شكل السيد المسيح، أن يعانقه وأن يقبله.. فعرفوا المسيح بسبب قبلة الخيانة من تلميذه يهوذا الاسخربوطى – ودخلت القاموس الدينى والأخلاقى: قبلة يهوذا.. ودخلت حكمة خالدة أيضًا: إن أقرب الناس إليك من الممكن أن يرفعك إلى المشنقة!
وهذا الوادى هنا ليس به إلا أشجار الزيتون.. ويقال إن الذى يقترب من هذه الأشجار يرى أنها تحاول أن تختفى عن عيون الناس خجلا.. وأن جذرها تسحبها إلى جوف الأرض.. ويقال إن شجرة واحدة هى التى تعلو وتعلو إنها تستحق الفضيحة وتستحق الرجم وتستحق القطع.. إنها الشجرة التى كان من أغصانها صليب المسيح.
ويقال إن عمر بن الخطاب عندما جاء إلى القدس، رفض أن يصلى فى كنيسة القيامة، حتى لا يفعل المسلمون مثله.. وحتى لا تكون فتنة بين الناس.. ورفض أيضًا أن يصلى عند أشجار الزيتون حتى لا تكون فتنة.. ثم إن القرآن الكريم يقول: «وما صلبوه..»..
وهنا مقبرة مرين العذراء ومقبرة رابعة العدوية.. والشيخ ريحان وسلمان الفارسى.. وقبر راجيال وهنا مقام زكريا ويحيى وموسى ولعازر وصموئيل.. ومقام الإمام على.. ومقام سيدنا الخضر.. ومالا نهاية له من أسماء أنبياء بنى إسرائيل وأولياء المسلمين والصحابة والقديسين.
ولو أنصف الناس لمشوا على جباههم فى هذه المدينة التى تفوح عطرا وسحرا.. وعلى كل طوبة جلس نبى.. وتحت كل شجرة نام شهيد.. وفى كل ركن وقف خطيب.. وفى هذه المدينة تتجه القلوب إلى السماء.. فأنت فى كل مكان تضع يدك على قلبك تقول: رحمتك يارب.. وترفع رأسك إلى السماء وتطلب من الله أن يتقبل.
ولكن هذه لحظات عابرة.. فالشوارع مكدسة بالبضائع ووراء البضائع أناس يدقون رأسك حتى لا تفكر إلا فى البيع والشراء.. وإذا اقتربت تشترى دخلت فى مفاضلة طويلة هكذا:
-من أين؟
-من مصر..
-آه.. بلد الأهرامات وأبى الهول وسيدنا الحسين.. أين نحن من هذا الجمال الذى فى بلادكم؟
-أين أنتم؟ أنتم فى مكانة أعظم وأرفع.. أنتم قلب الدنيا.. أنتم أصل البشرية.. أنتم مركز الكون.
-هل تعجبك هذه.
-جزمه. لا أريد.
-إذن هذه.
-مسبحة.
-لا أريد.
-طبعًا وهل يعجلك شىء من هنا وعندكم خان الخليلى.. إن كل هذه البضائع من مصر!! أو بائع آخر يقول لك:
-سيبك منه.. إنه مصرى أراد أن يضحك على واحد مصرى مثله.. إننى من هنا.. أجدادى عاشوا وماتوا.. وعندنا شجرة لأجداد أجدادى حتى عمر بن الخطاب.. إننى لا أكذب ولن أسرق منك مليما.. إننا والحمد لله أغنياء.. إننى أشغل وقتى.. كما يقول المثل المصرى: (الإيد البطالة نجسة) ما رأيك.. تعجبك؟
-هذه الجزمة؟!
-ما سبب إصرارك على بيع هذه الجزمة؟
-لأنك تضع شبشبا فى قدميك.
-وكنت نسيت ذلك.. فعندما ضاعت جزمتى، لم أجد وقتا لشراء جزمة.. ولم ألاحظ.. وأنا انتقل بين طرقات المدينة أننى ارتدى شبشبا.. وتضايقت لذلك جدًا، فسألت الرجل: إن كانت هذه الجزمة صناعة مصرية.
فقال: نعم.. ولكن قد أدخلت عليها بعض التحسينات.
-مثل ماذا.
-لقد كان لونها بنيا فجعلناه أسود.. ولن يذهب عنها هذا اللون قبل سنوات.. واشتريتها، ولبستها.. فقابلنى البائع الأول وقال لى: ضحك عليك طبعًا.. وقال لك إن أجداده من أيام عمر بن الخطاب.. أنا غلطان لأننى لم أقل لك إن أجدادى قد انحدروا من صلب آدم عليه السلام.. لقد باعها لك أغلى.. أنا مستعد أبيع لك هذه الجزمة مع تخفيض 30% ما رأيك؟ 40% ما رأيك؟! وبائع الحلوى وبائع الفاكهة وبائع البخور والصلبان والمسابح والكتب المقدسة والصور الملونة.. إنها مظاهر يومية تعمل على مسح كل المعانى والذكريات التى فى رأسك.. حتى فكرت فى أن أضع القطن فى أذنى.
-وفى اليوم التالى عدت إلى هذه الأماكن بعد أن وضعت القطن فى أذنى.. ولكن وجدت من يدفعنى من ورائى لعلى أن احترس من عربات اليد وعربات الكارو ومن حاملات القفف والسلاس على رؤوسهن.
***
وعلى جبل المكبر الذى وقف فوقه عمر بن الخطاب وكبر لله وصلى جلسنا.. كنا أربعة من المصريين والسوريين واللبنانيين.
جلسنا فى صمت تنتقل عيوننا بين أكبر الأماكن قداسة فى كل الأديان.. هناك يبدو المسجد الأقصى وأمامه قبة الصخرة.. وبالقرب منها كنيسة القيامة ووراء البستان الذى تناول فيه المسيح عشاءه الأخير.. وهناك تبدو القدس الغربية.. بيوت وأشجار.. وأناس لا تراهم هناك يبدو المستشفى اليهودى.. وسيارات قوات الأمم المتحدة.
وبعض الناس الطيبين يقولون إنهم فى الليالى الهادئة يرون عمودا أبيض يرتفع من الأرض إلى السماء.. يقولون إنها دعوات الناس وصلواتهم قد تحولت إلى أشعة تتجه إلى السماء.. تستأذن أن يتقبل الله دعاء فلان وصلاة فلان وتوبة فلان.. ويؤكدون أنهم يرونها بوضوح.. وأنهم يرون هذه الشعاعات وهى تتساقط على المدينة فلا يبقى منها إلا القليل فى طريقه إلى السماء.
وفى الليل تتجاور البيوت وتتباعد القلوب.. تتجاور المعابد ويتباعد المؤمنون.. إنها مدينة تدعو إلى السلام وليس فيها سلام.. فهنا جاء المسلمون وجاء الصليبيون.. وجاء اليهود.. وماتزال الحرب قائمة بين الجميع.. ومازال كل دين يدعو إلى زوال الدين الآخر.. ومازالت صلوات رجال الدين تطلب من الله أن ينصر دينًا واحدًا يقضى على الأديان الأخرى.. وتتعالى المآذن وأجراس الكنائس وينفخ اليهود فى النفير.. والباعة ينادون على التفاح والبرتقال ويركزون عيونهم على أقدام الناس.
إن القدس ليست مدينة فقط إنها حالة عقلية نفسية.. إنها حالة مرضية.. إنها تضم وحوشا استقلت فى المعابد.. إنها مدينة الأجسام المتلاصقة.. والقلوب النائية.. والعقول المتحفزة.
أما هذا الذى تحسه فى قلبك وفوق قلبك فهو ليس الإيمان، وإنما الخوف عليه.. إنها ليست أعباء التاريخ، وإنما هى المخاوف على السلام.. إن مدينة القدس تستولى على كل آمالك فى السلام، فهى لذلك مدينة السلام الذى دخل به الناس وتركوه عند أبوابها.. فيظل السلام كما وضعه الناس على الأرض تدوسه الأقدام ولا تعرف كيف تسترده.
سألنى جارى: ما رأيك فى القدس؟
قلت: الله.. آه.. آه
يقول: الله أو تقول آه؟!
الاثنين معا!
تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر بتاريخ العدد"705" 29 أبريل 1990 ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر