الحصانة البرلمانية لا تحمي الهاربين من القضاء!

الحصانة البرلمانية لا تحمي الهاربين من القضاء!قضاء

كنوز أكتوبر24-2-2022 | 19:51


قضية الحصانة البرلمانية يدور النقاش والبحث الدستورى حولها فى مجلس الشعب هذه الأيام.. القضية أثيرت بمناسبة الإجراءات الجنائية، التى اتخذت ضد النائب أحمد يونس والذى أفرج عنه بكفالة 500 جنيه.. والتساؤلات حول مدى تمتع العضو ب الحصانة البرلمانية قبل وبعد بدء الدورة البرلمانية.

ضمانا لاستغلال البرلمان فى عمله وحماية لأعضائه ضد أنواع التهديد أو الانتقام، التى قد تقوم بها حكومة ضد عضو يزعجها بحملاته، أو يقوم بها فرد أو هيئة ضد عضو يخضون نفوذه أو آراءه أو يحقدون عليه لموقف من مواقفه البرلمانية، قررت دساتير العالم مبدأ عدم جواز القبض على أحد أعضاء البرلمان وعدم اتخاذ إجراءات جنائية ضده إلا بتصريح من المجلس التابع له، حتى لا يكون للحكومة أو لغيرها من السلطات أن تنزع النائب من مقعده البرلمانى جريًا وراء عاطفة حقد أو انتقام، أو أن تمنعه من أداء واجبه البرلمانى.. ويستوى فى هذا جميع دساتير العالم بما فيها الفرنسى أو الهندى أو الإيطالى أو الألمانى.. أو حتى دستور الاتحاد السوفيتى أو الصين الشعبية فكلها تنص صراحة على أنه لا يجوز التحقيق مع أى عضو من أعضاء البرلمان أو القبض عليه أو اعتقاله أو محاكمته بسبب ما يبديه من آراء.. كما لا يجوز القبض عليه فى جناية أو جنحة أثناء دورات الانعقاد إلا بموافقة المجلس فيما عدا حالة التلبس.

والحصانة مسألة تثار دائمًا بسبب جريمة لا تتصل إطلاقًا بعمل النائب ولهذا لا يمنحه الدستور أى حق فى الإعفاء من العقاب أو المسئولية إذا ما ثبت الاتهام.. عكس حالة عدم مسئولية النائب عما يبديه من الآراء أو الأفكار فى المجلس.

فالحصانة إذن نوعان.. الأول خاص بعدم مسئولية النائب عما يبديه من الأفكار والآراء وهو ما يسمى بالمسئولية البرلمانية، والثانى خاص بعدم اتخاذ إجراءات جنائية فى غير حالة التلبس نحو عضو البرلمان سواء من جانب الحكومة أو من جانب الأفراد طوال مدة انعقاد البرلمان إلا بعد استئذان المجلس.. ونصت المادة 99 من الدستور الدائم كبقية الدساتير على أنه لا يجوز فى غير حالة التلبس بالجريمة اتخاذ أية إجراءات جنائية ضد عضو مجلس الشعب إلا بإذن سابق من المجلس، على أنه يتعين فى غير دور انعقاد المجلس أخذ إذن رئيس المجلس على أن يخطر المجلس عند أول انعقاد له بما اتخذ من إجراء ضد هذا العضو.

ممنوع التعرض للنواب

وقد أخذت النظم المصرية السابقة على صدور الدستور ب الحصانة البرلمانية على وضع شبيه بالوضع الحديث، فقد نصت المادة 53 من لائحة تأسيس مجلس الشورى الصادرة فى سنة 1866 على عدم رفع أية دعوى على أعضاء المجلس خلال مدة انعقاده.. أى منذ افتتاح جلساته، وكذلك خلال الأيام المحددة لعقد هذه الجلسات بأى وجه من الوجوه إلا إذا كان (لا سمح الله) حصل من أحد هؤلاء الأعضاء حادث قتل فلا يعد من أعضاء مجلس الشورى ويعين بديل له.. ونصت المادة 4 من لائحة المجلس الصادرة سنة 1882 على أنه لا يجوز التعرض للنواب بوجه ما إذا وقعت من أحدهم جناية أو جنحة مدة اجتماع المجلس فلا يجوز القبض عليه إلا بمقتضى إذن من المجلس.. ونصت المادة الخامسة على أن للمجلس فى حال انعقاده أن يطلب الإفراج أو وقف الدعوى مؤقتًا لحين انقضاء مدة اجتماع المجلس عمن يدعى عليه جنائيًا من أعضائه أو يكون مسجونًا فى غير مدة انعقاد المجلس لدعوى لم يصدر فيها حكم قضائى.

الشربينى يتكلم

ويقول المستشار إبراهيم الشربينى، أمين عام مجلس الشعب.. كقاعدة عامة تلعب الحصانة دورها بالنسبة للأعمال، التى تتعلق بمباشرة العضو لوظيفته البرلمانية، لأن هذه العمال يحميها مبدأ عدم المسئولية البرلمانية، أما الحصانة فهى مقصورة على تأخير اتخاذ الإجراءات الجنائية حتى يتسنى استئذان المجلس، فالمسألة تتعلق بالإجراءات، بعكس عدم المسئولية البرلمانية فإنها تتعلق بالموضوع.. وقد جاء فى بحث دستورى قيم للدكتورين السيد صبرى ومحمود عيد.. أن الحصانة مقصورة على حماية عضو البرلمان من أى إجراء جنائى يتخذ نحوه، لأنه يجب أن يحال دون انتزاع النائب من مقعده أثناء دور الانعقاد فهى ترمى إلى هذا الغرض وحده دون أى غرض آخر.. ولا تقف الحصانة حائلًا أمام اتخاذ أى إجراء مدنى أو محاكمة مدنية للعضو مهما كان نوعها.. فيمكن لأى فرد أن يرفع دعوى مدنية أمام القضاء المدنى يطلب فيها التعويض عن جريمة ارتكبها عضو البرلمان دون حاجة لأخذ إذن المجلس، وذلك لأنه لا يوجد هنا أى احتمال بالقبض على العضو والحكم بحبسه أو تنفيذ الإكراه البدنى عليه فى حالة الحكم بالتعويض.

لا يجوز التنازل عنها

والحصانة لم تقرر لمصلحة العضو نفسه، وإنما لمصلحة البرلمان فى مجموعه باعتباره الممثل للشعب.

ويتمتع بهذه الحصانة جميع أعضاء البرلمان منتخبين أو معينين، كذلك يتمتع بها الوزراء ووكلاء الوزراء البرلمانيون ماداموا أعضاء فى المجلس، وهى لا تؤدى إلى خلق حقوق شخصية، وإنما تظهر مركزًا قانونيًا ومن ثم لا يجوز للنائب أن يتنازل عنها، وبالتالى فلا يجوز أن يحاكم على جريمة اتهم فيها دون سابق إذن من المجلس حتى لو أجاز هو نفسه المحاكمة ووافق عليها، وفى هذه الحالة يجوز الدفع ببطلان الدعوى المرفوعة على النائب!

وتمتد الحصانة إلى رسائل النواب فلا يجوز كقاعدة عامة فتح رسائل أعضاء البرلمان سواء الصادرة أو الواردة إليهم، وقد أثير فى فرنسا بعض الخلاف حول هذا الموضوع، وقد استقر الرأى منذ عام 1914 على أن الحصانة البرلمانية حتى فى ظل الأحكام العرفية لا تتبع نظام الرقابة على رسائل النواب، وقد حدث أن اعتذرت حكومة فرنسا بسبب فتح خطاب شخصى لنائب ووعدت بعدم تكرار الخطأ.

وتمتد الحصانة أيضًا إلى مسكن النائب بمعنى أنه لا يجوز للسلطة القضائية أو الإدارية أن تأمر بتفتيش مسكن أحد النواب أثناء دور الانعقاد، وبدون أخذ إذن سابق من المجلس.

وفى هذا يقول الفقهاء إن للمسكن حرمة وحصانة، ولكل سياسى أسراره السياسية، وقد يكون فى مسكنه ما يتصل بعمله البرلمانى مما قد يهم الحكومة معرفته فضلًا عن أن التنقيب نوع من أنواع الإجراءات الجنائية.

ويبدأ سريان أحكام الحصانة البرلمانية بمجرد بدء دور الانعقاد وتستمر طوال مدة الانعقاد، وتنتهى بمجرد مضى الدورة، لأنها مقررة بقصد ضمان حرية الأعضاء أثناء الدورة البرلمانية حتى لا يكون بيد الحكومة سيف تسلطه على كل نائب معارض بالقبض عليه.

ثلاث حالات

وإذا اقتربنا من القضية المثارة الآن حول الحصانة.. وجدنا أن الإجراءات الجنائية قد تتخذ ضد النائب بعد فض دور الانعقاد.. أى زمن العطلة البرلمانية وعندها يمكن أن يقدم النائب للمحاكمة وأن تصدر ضده أية أحكام قضائية وأن تنفذ فيه هذه الأحكام قبل ابتداء الدورة التالية وكل هذه الإجراءات لا غبار عليها، وليس للحصانة أثر بالنسبة لها، لأنها لا تعوق النائب عن أداء مهمته تحت قبة البرلمان!

وقد يحدث أن تبدأ الدورة قبل تنفيذ الحكم على العضو، فالحكم فى هذه الحالة واجب النفاذ دون حاجة إلى أخذ إذن من المجلس على أن يتم إبلاغ المجلس بالحكم الصادر ضد أحد أعضائه!

وقد تتخذ الإجراءات الجنائية ويقبض على العضو، وقد يقدم للمحاكمة أثناء فترة العطلة البرلمانية، ثم تبدأ الدورة قبل تقديم العضو للمحاكمة أو صدور الحكم عليه، فهل يمكن فى هذه الحالة أن تأخذ المحاكمة مجراها ويبقى العضو مقبوض عليه؟ أو أن الحصانة تعود إليه، وبالتالى يتحتم طلب إذن جديد من المجلس؟

إن هذه القضية قد أثيرت أمام مجلس النواب المصرى فى عام 1926 مع اختلاف الظروف، وكان ذلك بمناسبة اتهام العضو أمين همام حمادى بالتحريض على قتل الصحفى محمد شرف، وكانت الإجراءات قد اتخذت قبله، كما كان قد تم القبض عليه قبل انعقاد البرلمان، فلما ابتدأت الدورة لم تكن الإجراءات الجنائية قد تمت وبحث مجلس النواب الأمر حول ما إذا كان النائب يتمتع بالحصانة فى مثل هذه الحالة، وبالتالى فإنه كان ضروريًا اسئذان المجلس للاستمرار فى الإجراءات.. أى أنه ما دام قد بدىء فى الإجراءات فلا حصانة للنائب.

وكان قرار اللجنة، التى ناقشت الموضوع وكانت برئاسة المرحوم مصطفى النحاس بالأغلبية، وكان هذا الرأى يتلخص فيما يلى:

** النائب الذى تتخذ ضده الإجراءات أو يقبض عليه قبل ابتداء دور الانعقاد لا يتمتع بالحصانة وتستمر الإجراءات ويدوم القبض من غير حاجة إلى الاستئذان.

** ليس للمجلس أن يتدخل فى الإجراءات أو فى القبض فيأمر بوقفها أو الإفراج عن النائب.

وبناء عليه يكون النائب أمين همام غير متمتع بالحصانة البرلمانية!

سعد زغلول يقول:

كان هذا هو رأى اللجنة.. ولكن مجلس النواب رأى غير ذلك بعد أن قام بمناقشة القضية على امتداد جلستين، وفى نهاية الجلسة الثانية قال الزعيم سعد زغلول وكان رئيسًا للمجلس.. إن مسألة الحصانة مهمة جدًا وقد اتفقت عليها دساتير العالم، فما من دستور إلا نص على حكم الحصانة، ولكن هذه الدساتير مع إجماعها اختلفت اختلافًا كبيرًا فيما يختص بحكم هذه الحصانة بالنسبة للجرائم التى بدىء فى تحقيقها قبل انعقاد الدور البرلمانى، وتذهب أغلبية الدساتير إلى أنه ما دامت الدعوة العمومية قد حركت أو بدأ التحقيق فيها قبل انعقاد البرلمان فإن الإجراءات تستمر بعد الانعقاد، إلا أنه يمكن للبرلمان أن يتدخل فى هذه الحالة لوقف الإجراءات.. وترى بعض هذه الدساتير أن الحصانة موجودة وأن الإجراءات إذا كانت قد بدأت قبل الانعقاد فإنها تقف بعده بقوة القانون، بحيث يفرج عن المتهم بدون تدخل من المجلس، ومن هذه الدساتير دستور اليونان.

وأضاف الزعيم سعد زغلول: أن هناك انقسامًا بين العلماء والمحاكم والبرلمان.. أما المحاكم فيرمى فقهها إلى أن الإجراءات تستمر ولا توقف إلا بعد طلب المجلس، غير أن للبرلمان أن يتدخل فى الأمر فيما عدا حالة التلبس بالجناية.. وحتى هذه الحالة هناك رأى بوجوب استئذان البرلمان فورًا فى استمرار القبض.. وهذا رأى المحاكم لا العلماء.. أما المحاكم فإنها تميل إلى تقييد الحصانة.. أما البرلمانات فتميل إلى التوسع إلى أقصى حد ممكن لدرجة أن بعضها يرى أنه يجب استئذان المجلس فى حالة القبض على نائب متلبس بالجريمة مع أن هذه الحالة مستثناه بنصوص صريحة فى غالبية الدساتير، هذا فضلًا عن أن بعض الحكومات وافقت برلماناتها على إطلاق الحصانة وامتدادها حتى إن بعضها تستأذن فى الأحوال، التى يعفيها الدستور مع الاستئذان، وهى تلح فى هذا السبيل احترامًا للهيئة النيابية.. وعلى هذا فإن المجلس يبدى رغبة فى لفت نظر حضرة صاحب المعالى وزير الحقانية إلى أن المجلس كان ينتظر أن يتسأذن فى الاستمرار فى الإجراءات، التى اتخذتها النيابة العمومية ضد أمين همام.

سابقة دستورية

ويرد وزير الحقانية – أى وزير العدل – أن الوزارة لم تأخذ رأى مجلس النواب لأن النص كما ظهر فى المناقشات لم يكن واضحًا وأن الحكومة تشارك المجلس رأيه فيما يختص بالاستئذان فى الاستمرار فى الإجراءات، التى اتخذت ضد أحد أعضائه قبل بدء دور الانعقاد واستمرت بعده ولهذا سنعمل على تنفيذ رغبة المجلس، ونعتبرها سابقة دستورية من السوابق، التى تعتبر تفسيرا للدستور.

وجرت التقاليد أيضًا على أنه لا يجوز القبض على عضو البرلمان أثناء دور الانعقاد كنتيجة للإجراءات، التى اتخذت أثناء العطلة البرلمانية، ولا يمكن القول بأن القبض هو نتيجة طبيعية للإجراءات، لأن الأمر مختلف، فالقبض إذا تم قبل الدورة يمكن أن يظل مستمرًا دون حاجة إلى الرجوع للمجلس.. أما إذا بدأت الدورة فيجب استئذان المجلس فى القبض على العضو.

وعلى أى حال يجب أن يكون مفهومًا أن قرار المجلس بشأن رفع الحصانة لا يمكن أن يعتبر بأى حال من الأحوال قرينة على البراءة أو الإدانة لأن المجلس ليس قاضيًا.. على أن كل مهمته قائمة على أساس جدية الاتهام من عدمه.

والإذن، الذى يعطيه المجلس برفع الحصانة لا يمكن أن يمتد فيشمل مسائل جديدة لا علاقة لها بالقضية الأصلية، فإذا حوكم عضو بتهمة المخابرة مع الأعداء مثلا ثم ظهر أثناء التحقيق أنه كان قد أعطى رشوة لموظف فلا يمكن محاكمته على هذه التهمة الجديدة إلا بعد الحصول على إذن جديد من المجلس.

وتفرض المبادئ الدستورية أن يكون لكل مجلس من المجالس النيابية حق المحافظة على النظام فى داخله، لتمكينه من هذه المهمة وجد فى كل برلمان حرسه الخاص.

ويقول العميد سيد بدوى، قائد حرس مجلس الشعب إن مهمتى هى كفالة حق الأعضاء فى مباشرة حقوقهم السياسية التى كفلها الدستور وتمكينهم من تأدية مهمتهم بتمام الحرية والاطمئنان، فللأعضاء حصانات، الأولى تجعلهم فى حمى من يد القضاء بسبب ما يبدونه من آراء فى المجلس.
والثانية تجعله فى مأمن من القبض عليه أو اتخاذ الإجراءات ضده أثناء دور الانعقاد إلا بإذن من المجلس.

أما الثالثة فهى حصانة المكان وتلك حصانة ليست خاصة بالعضو، بل هى خاصة بدار المجلس، وهى التى تجعل تلك الدار فى مأمن من أى اعتداء عليها، وبعد هذا الاعتداء لو حدث عملا غير مشروع.. وهم يعدون فى أوروبا هذه الحصانة الثالثة أى حصانة الدار لا تقل شأنًا فى ضمان استقلال المجلس وفى تحقيق حريته عن الحصانتين الأوليين.

معاقبة الموظف

وإذا كان لكل نائب حق فى الحصانة، فقد تضمنت قوانين العقوبات نصوصًا تقتضى معاقبة كل موظف قضائى أو نائب عمومى أو قاض أمر بإلقاء القبض أو اتخاذ الإجراءات الجنائية ضد أحد نواب الشعب دون الحصول على إذن من المجلس التابع له، وأعتقد أن التشريع فى مصر خال من هذا النص الذى يفرض لأعضاء مجلس الشعب نصا خاصا!

وأخيرًا.. لقد كانت وستظل قضية الحصانة أمرًا يدعو إلى النقاش والحوار، لأنها قضية تمس نواب الشعب.. وعلى أى حال لم ولن تكون لمصالح النواب الهاربين من العدالة.. إنما هى لصالح الحياة البرلمانية، والبرلمانات أنفسها.

تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر، ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر

أضف تعليق