كيف أدار أهلنا في سيناء السنوات العجاف؟

كيف أدار أهلنا في سيناء السنوات العجاف؟د . سهام عزالدين جبريل

الرأى24-4-2022 | 15:07

يأخذنى دوما الحديث عن سيناء إلى تلك السنوات الصعبة التى عشتها وأبناء جيلى، حيث نشأت ذاكرتنا وتربى وجدان أبناء جيلى على ذلك التاريخ الوطنى الذى ارتبط بمشاهد البطولة والمقاومة الوطنية، كان قدرى بأن تربيت فى أحد هذه البيوت، بيوت مدينتنا العريش الصامدة، عشت مع أهلى وأهل مدينتى تلك الأيام القاسية التى نزلت عليها محنة الاحتلال فى يونيو 1967م وكيف كانت هذه المحنة بكل شراستها وضراوتها وقسوة أيامها منحة للوطنية المطلقة وللصمود والمقاومة سجلت فيها أروع المواقف البطولية، كل موقف بها يحتاج إلى أن يسجل فى لوحات تذكارية عظيمة تمتلئ بمساحتها جدران كل بيت من بيوت مدينتى الصامدة وتملأ طرقاتها العتيقة لتحكى للأجيال قصص وبطولة الآباء والأجداد. فالمشاهد بلوحاتها المتراكمة عبر السنين تحكى حكايات أشبه بالخيال، ولكنها تروى الحقيقة التى لم تسطرها كتب التاريخ، بل سطرتها أقلامنا وكتاباتنا التى حاولنا أن ندونها باجتهاداتنا الخاصة علها تجد طريقها للنور آجلا حتى وإن لم يحالفها الحظ فى النشر عاجلا، فقد يكون لها مكان لأن تدون حتى ولو بأقلامنا واجتهاداتنا توثيقا لمرحلة تاريخية هامة عاشتها مصر بكل أطيافها وحملت أوزارها وأمانة مسئوليتها سيناء نيابة عن باقى أرجاء الوطن العزيز الغالى.

وفى الحقيقة إن جيلنا اختزن هذه المشاهد والأحداث وكأنها شريط سينمائى فى ذاكرته، وكل منا يملك من مخزونها الكثير، لقد شاهدنا وعشنا مرحلة من أدق المراحل فى تاريخ المنطقة، ونحن شهود عيان عليها بل نحن شاهدون على بطولة أهالينا وصمودهم وقصص وحكايات الآباء والأجداد والأمهات والجدات عن ملاحم البطولة والتى شاركنا فيها، ونحن أبناء مدينة العريش الصامدة كنا حينها أطفالا، ولكن ذاكرتنا متوهجة بذكرى تلك الأيام وأحداثها العظام، فتحية لأرواح أهالينا الأبطال الصامدين المرابطين.

فالمشهد العام فى سيناء فى 5 يونيو 1967م كان قاسيا للغاية، حيث وقعت سيناء أسيرة الاحتلال الإسرائيلى لها بعد نكسة يونيو67م وشهدت أرض سيناء ملاحم بطولية رائعة لمواجهة قوات الاحتلال من قبل كافة الأطياف، كان كل فرد من أبناء سيناء عضوا فاعلا فى منظومة المقاومة الوطنية، شباب ورجال وسيدات وحتى الأطفال، وتمركزت قوة وانطلاقة هذه المنظومة البطولية فى مدينة العريش العاصمة، حيث امتدت روافدها إلى بقية المدن والقرى، وكان لكل منهم دوره، وتمثلت المقاومة الشعبية لكل فرد فى سيناء فى الرفض التام لأى شكل من أشكال الاحتلال الصهيونى وتبلورت رؤية الأهالى لتنظيم إضرابات معلنة الرفض التام للاحتلال، مطالبة الهيئات الدولية باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لحمايتهم وتحقيق عودة السيادة المصرية على الأرض المصرية فى سيناء. وبرز دور رجال المقاومة وتشكلت مجموعات من المقاومة الوطنية تحت مسميات كثيرة لمناهضة ومقاومة الاحتلال منها: منظمة صوت العروبة، منظمة سيناء للمقاومة الشعبية، ومنظمة سيناء العربية.... إلخ، والتى تجمعت فيما بعد تحت منظمة سيناء العربية.

ويرجع تسمية منظمة سيناء العربية إلى فكر القيادة السياسية فى ذلك الوقت عندما عقد مؤتمر الخرطوم مؤتمر القمة الرابع الخاص بجامعة الدولة العربية، عقدت القمة فى العاصمة السودانية الخرطوم فى 29 أغسطس 1967 على خلفية هزيمة عام 1967 أو ما عرف بالنكسة. وقد عرفت القمة باسم قمة اللاءات الثلاثة حيث خرجت القمة بإصرار على التمسك بالثوابت من خلال لاءات ثلاثة: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيونى قبل أن يعود الحق لأصحابه حينها حضرت كل الدول العربية المؤتمر باستثناء سوريا.

وقد قُدم اقتراح من قبل الدول العربية لتشكيل شكل من أشكال المقاومة داخل الأرض المحتلة والدفع بأفراد من كافة الدول العربية للمشاركة فى المقاومة خلف خطوط العدو، فكان رد الرئيس ناصر الذكى أن بالفعل أهلنا فى سيناء قاموا بهذا الدور بالتعاون مع إدارة الاستطلاع بالمخابرات الحربية بتشكيل نواة للمقاومة الوطنية يحمل اسم منظمة سيناء العربية، ومن ذلك الحين بدأ يظهر اسم وأنشطة المنظمة التى ولدت بين أحضان أبناء سيناء وفى بيوتهم تحت رعاية أجهزة الدولة المصرية التى كانت تعمل خلف خطوط العدو، وفى الحقيقة أن ذكاء القيادة المصرية باختيار اسم المنظمة والتى جمعت ما بين كل المسميات السابقة تدل على حنكة القيادة وقتها، حيث كان الحرص أن يكون الرصد والرقابة والمتابعة وأنشطة المنظمة واستراتيجية عملها وتحركها مصرية خالصة من خلال أبناء سيناء فى الأراضى المحتلة وإن حملت الاسم العام منظمة سيناء العربية حيث مثلت نموذج تحد وقوة ضاربة تتحدى قوات الاحتلال وتقاوم كافة أساليبه للسيطرة على سيناء وباقى الأراضى المحتلة، ومناهضة كافة ما كان تخطط له قوات الاحتلال للمنطقة من سيطرة على الأرض والسكان ومحاولاتها المستميتة لإخضاع الأرض والسكان لإدارتها ومحاولات التدخل ليس بالقبضة العسكرية والاحتلال العسكرى والاستراتيجى فقط بل تعداه إلى محاولات تأخذ شكل فرض الوصاية والقبضة الفكرية والثقافية وتشويه التاريخ وسرقة التراث وتغيير للثقافة ومناهج التعليم وضرب الهوية الوطنية... إلخ. فكانت منظمة سيناء العربية ومؤسسيها من أهل سيناء هى حائط الصد المناهض لكافة هذه الأساليب التى عجزت أمام الصمود والتحدى والمقاومة بكافة أشكالها لأى محاولة أو تشويه واختراق لمصرية سيناء وهويتها الثقافية، وفى الحقيقة أنه عند الحديث عن سنوات المعاناة خلال الفترة من (1967م وحتى 1982م) وكما أُسميها أنا وكما أطلق عليها والدى أحد أبطال المقاومة الوطنية فى سيناء «السنوات العجاف»، لايفوتنى أن أسجل فى ذاكرة سيناء عن ذلك الدور الوطنى الذى أضاف لمنظمة سيناء العربية القوة الكبيرة والتى تمثلت فى أدوار كثيرة لنا كأفراد بكافة أطيافهم أطباء، معلمين، صيادين، نساء، أطفال، طلاب... إلخ، فى مد جسور التعاون الوثيق والانتساب لقافلة المقاومة الوطنية من خلال الآباء، فلوحة اليوم التى أحببت أن أجسدها هى لوحة لذلك الجيل الجديد الذى عاش طفولة قاسية فى ظروف الاحتلال البغيض وكيف كان سلاح العلم هو شكل ونموذج من أشكال المقاومة وكيف كان للطلبة ودورهم الوطنى خلال فترة الاحتلال وتعاوننا لتوصيل ونقل المعلومات رغم صغر أعمارنا وهذا الدور الذى نما وكبر فينا من سنوات الدراسة الأولى وحتى أصبحنا طلابا جامعيين حيث أصبح واحد من أدوارنا نحن كطلاب تحمل مسئولية المشاركة فى معركة المواجهة الشرسة لقوات الاحتلال ومحاولة اختراقه لثقافتنا وأساليب التعليم فى مدارسنا وأدواته الملتوية للتدخل فى المناهج التى أصررنا أن تكون مصرية خالصة ولم ندع لأى بصمة من بصمات قوات العدو ومحاولاته المستميتة لاختراقها، فقد كنا ندرس فى المدارس نفس المنهج الذى أصر على تطبيقه آبائنا وأساتذتنا وهو نفس المنهج الذى كان يدرس فى كافة مدارس مصر، حيث تم الاستعانة فى هذا الشأن بهيئة الصليب الأحمر الدولى كهيئة دولية لنا عندها حق الحماية المدنية والإنسانية، وبرغم تعنت سلطات الاحتلال على ذلك، ورفضها دخول أى كتب أو ملخصات مصرية، حيث كانت سلطات الاحتلال تقوم بحرق كل الكتب المدونة فيها المناهج المصرية، ورغم ذلك كنا ندرس مناهجنا من خلال ذاكرة مدرسينا، حيث كنا نكتب المناهج فى كراساتنا الخاصة من خلال المعلومات التى كان يمليها إلينا أساتذتنا الأفاضل، ونحتفظ بها ونهديها إلى زملائنا الآخرين الذين يأتون من بعدنا، واستمرت مظاهر التحدى والصمود الكثيرة فى هذا المجال ومنها محاولات لإجبار تدريس اللغة العبرية فى مدارسنا والتى رفضناها نحن كتلاميذ ومحاولات جلب مدرسين من عرب 1948م ومن الضفة الغربية خريجى معهد بيرزيت لتدريس لنا بعض المواد والتى رفضناها أيضًا، وأذكر أن الامتحانات كانت تتم بالمدارس من خلال ما يضعه مدرسونا بأنفسهم، إلا أن امتحان شهادة الثانوية العامة، الذى خاطبنا بشأنه وزارة التربية والتعليم فى القاهرة وذلك عن طريق هيئة الصليب الأحمر الدولى، والتى وافقت واعتمدته الوزارة بالقاهرة، حيث كان يتم إرسال الامتحانات من القاهرة عن طريق هيئة الصليب الأحمر وكانت الهيئة تقوم بالإشراف على لجان الامتحانات فى مدينة العريش المحتلة حينها ثم يتم إرسال الإجابات عن طريق الهيئة التى تقوم بتسليمها لإدارة الامتحانات بالقاهرة، والتى تقوم بالتصحيح ثم يتم إرسال النتائج والشهادات لتسليمها للناجحين، وأذكر أن النتيجة والمجموع كان يتم إعلانهما عن طريق «البرنامج الموجه لأهل سيناء» عبر إذاعة صوت العرب والمسمى ببرنامج «يا عرب»، كما كانت الحكومة المصرية تتكفل بعمل كافة الإجراءات اللازمة للتنسيق للطلبة الناجحين وتسهيل إجراءات التحاقهم بالجامعات المصرية وذلك عن طريق هيئة الصليب الأحمر أيضًا، بالتعاون مع الهلال الأحمر المصرى، حيث كانت تنظم رحلة السفر للقاهرة من خلال أفواج الطلبة الخاصة بأبناء سيناء ورحلات ذهابهم إلى الجامعات المصرية ، حيث بدأ عمل هذه الرحلات عام 1972م، وفى الحقيقة أن أدوارنا كطلبة لم تقتصر على موضوع الالتحاق بالجامعات والتعليم والتحصيل بل كان هناك دور وطنى آخر كنا نقوم به، حيث كنا نقوم بتوصيل ونقل الرسائل، حيث لى أنا وزملائى وزميلاتى أيضًا العديد من المواقف والأحداث، والتى سوف يرد ذكرها فيما بعد،،،

وامتلأت جامعات القاهرة والإسكندرية والمنصورة والزقازيق وأسيوط بنخبة من شباب وفتيات سيناء الجامعيات المتميزات فى العديد من كليات القمة والتخصصات المتميزة، حيث تم تسكينهم فى المدن الجامعية برعاية القائمين على الطلاب فى المقر المؤقت لمحافظة سيناء بالقاهرة التى كان لها دورها النشط فى عملية إيواء الطلبة ورعايتهم ومساهمة إدارة شئون الطلاب بالجامعات المصرية وكلياتها المتعددة فى صرف مكافآت للطلاب وتسكينهم مجانى على نفقة وزارة الشئون الاجتماعية بالمدن الجامعية وبيوت الطلبة والطالبات.

وكون أبناء سيناء طلبة وطالبات حينها مجموعات متماسكة ومتألفة فيما بينهم وبين زملائهم وزميلاتهم من كافة أقاليم مصر، كذلك ضرب الجميع مثلا أعلى فى التكافل والتعاون لكل طالب جديد يأتى من سيناء المحتلة أو من مناطق التهجير أو حتى من يأتى من كافة أقاليم مصر لطلب العلم ، فكانت تلك المنظومة الطلابية بمثابة حلقة وصل بين أبناء مصر فى سيناء وبين أبنائها فى كافة المحافظات، حيث استطاع هؤلاء الطلبة والطالبات أن يزيلوا تلك الفجوة التى أحدثتها سنوات الاحتلال والغربة التى باعدت بين سيناء والأم مصر.

وقد وفرت الدولة حق التعليم المجانى لكل أبناء سيناء فى المهجر فى كافة مراحله، بدءًا من التعليم الأساسى وحتى الجامعة ووفرت لهم الدولة الإقامة المجانية فى المدن الجامعية.

وقد شهدت هذه الفترة نهضة علمية واسعة النطاق لأبناء سيناء وارتفعت مؤشرات الإقبال على التعليم الجامعى ونتيجة اهتمام الدولة ورعايتها لطلبة وطالبات سيناء شجع ذلك باقى العائلات على حث ودفع أبنائهم وبناتهم للتعليم الذى دعمته الدولة ووفرته بالمجان سواء كانت كتبا دراسية أو إقامة مجانية أو توفير مصروفات وتقديم مساعدات شهرية للطلبة.

هذه لوحة من لوحات كثيرة أحببت أن أجسدها عبر هذه المقالة، وما زالت اللوحات تتزاحم لتتحدث عن نفسها

ومازال للحديث بقية.

أضف تعليق

حكايات لم تنشر من سيناء (2)

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2