العلماء العرب فى العصر العباسي كانوا يعقدون فيما بينهم مناظرات لمناقشة الاختلاف فى الآراء التي وصلوا إليها.. وكانوا فى نهاية كل مناظرة يخرجون بأفكار جديدة..
وفى عصر الخليفة هارون الرشيدن كانت تعقد هذه المناظرات تحت رعايته شخصيًا.. وكان الخليفة يجلس مستمعًا ومستمتعًا.. بل وصل الأمر إلى أنه كان يأمر بتدوين كل ما يجري من حوارات بين العلماءن ولم يكن هناك أي تعصب لرأي مهما كان صاحب هذا الرأي.. ولم تكن هناك مجاملات أو غض الطرف عن قول الحقيقة مهما كانت مرارتها.. بل إن الخليفة نفسه كان لا يتدخل فى أي نقاشن إلا إذا تعدى أحد فى طرح رأيه بقصد الإساءة أو النيل من آراء الآخرين.. هكذا كان القدماء فى أوج عظمتهم وقوتهم..
أما فى العصر الحديث، فكان محمد على باشا، مؤسس مصر الحديثة، يعقد اجتماعات ومناظرات بين العلماء وأصحاب الفكر، وكان يدير الحوار بنفسه ولا يتدخل فى الحوار أبدًا ولا يعقب إلا بعد أن ينتهي الجميع من طرح آرائهم.. وكان يأمر بتسجيل الآراء بأسماء أصحابها.. وكان يقرب إليه من يرى شجاعته وفطنتهن ولا يلتفت كثيرًا إلى الآراء التي ترضيه أو توافق هواه.. خاصة فى الشئون العلمية والإدارية.. وهذا ما جعله يقرب إليه الشيخ رفاعة الطهطاوي، ويجعله على رأس مشروعه الخاص بتحديث مصر.. هكذا كانت مصر فى عصور الملكيةن وحتى فى أقوى العصور، والتي اتهموها بالديكتاتورية.. كانت الفنون والآداب والاختلاف السياسي فى أزهى صوره.
لقد كان العصر الذهبي لمصر الحديثة على مر العصور ومع اختلاف أنظمة الحكم.. لم يؤثر ذلك على نمو الفكر وتعدد الآراء والرؤى وظهور كوكبة من عظماء الأدب والشعر والفن والعلوم بكل تنوعاتها، كل ذلك كان بفضل التنافس الإيجابي والجدية والموضوعية واحترام الرأي والرأي الآخر.. فقد كان الجميع قد تربى فى مدرسة الحوار الراقي وفن الاختلاف ومقارعة الفكر بالفكر.
ولم يكن هناك مكان أو مجال للتعصب أو التسلط أو فرض الفكر بقوة الانتشار أو امتلاك وسائل النشر، بل إن كل الصحف والدوريات كانت ترحب بكل الأفكار والآراء مع حماية حق الرد والذي كان مكفولاً للجميع دون شطط أو إسفاف.
هكذا كنا ولا زلنا رغم تغير مناخ الإعلام والتطور الرهيب فى سرعة النشر.. وربما تجاوزات البعض فى محاولة فرض رأيه باستخدام سلاح البث الفضائي واستخدام مواقع الإنترنت.. لكن دائمًا هناك من يتصدى لهذه التجاوزات بالحُجة والرأي ومقارعة الفكر بالفكر.