هذا الفيلم التسجيلي الجزائري، الذي اشتركت في إنتاجه فرنسا وسويسرا وقطر، يناقش سؤال هوية الجزائري المهاجر إلى فرنسا ، من زاوية طريفة حقا ، ينطلق فيها من حكاية خاصة ، إلى العلاقة مع الوطن الأم، فيجمع الفيلم، الذي يمتلك لحظات كثيرة عفوية وتلقائية، بين دفء العاطفة والحنين إلى الماضي، وبين تأمل اللحظة الحالية، والعلاقة المربكة بين الفروع والجذور، وبين المغترب وأرض الأجداد.
الفيلم بعنوان "جزائرهم" للمخرجة لينا سوالم، وهي الجيل الثالث في أسرة مهاجرة إلى فرنسا ، بدأت بالجد مبروك وزوجته عيشة ، اللذين وصلا إلى فرنسا في العام 1952، قادمين من قرية العوامر الجزائرية .
عمل مبروك فى مهنة منظف فى مصنع للسكاكين، وعاش مع نحو 62 سنة، والجيل الثاني يمثله أبناءهما زين الدين، نبيل، وقد استقرا أيضا فى بلد الإغتراب، أما الجيل الثالث فتمثله الحفيدة لينا سوالم، ابنة زين الدين، ومخرجة الفيلم.
لكن نقطة الانطلاق فى الحكاية خير غريب وعجيب، فقد قرر الجد مبروك الانفصال عن زوجته الجدة عيشة، بعد كل هذه السنوات الطويلة من الزواج، وبعد حياة هادئة مستقرة عاشاها فى قرية تيير الفرنسية، بعد الطلاق، انتقل كل واحد منهما إلى شقة يعيش فيها بمفرده، وإن كانت عيشة تزور مبروك كل يوم، تحمل له الطعام، وتطمئن عليه ثم تغادر إلى شقتها الصغيرة!
موقف مفاجئ، جعل لينا الحفيدة المخرجة، تتساءل عن أسباب انفصال زوجين بعد 62 عاما؟ ولكنها فعلت ما هو أهم: لقد طورت الفكرة إلى البحث عن سؤال الهوية، وعلاقة جديها المنفصلين بالجزائر، وعلاقة أبيها زين الدين، الذي أصبح ممثلا ناجحا، بجذوره الجزائرية.
وهكذا اتسعت دائرة الأسئلة، وانتقلت من الخاص إلى العام، من حالة مهاجر قديم وزوجته، إلى حالة ثلاثة أجيال من المهاجرين، بل وبدأ كما لو أن أسرة سوالم بأجيالها الثلاثة تمثل المهاجرين الجزائرين عموما.
تطوير الفكرة حقق أيضا مفارقة طريفة ربما لم تكن مقصودة، فالبحث عن إجابة لسؤال "انفصال" مبروك وعيشة، سيؤدي إلى طرح سؤال أعمق عن "الإتصال" بالوطن وبالماضي وبالهوية، التي لا يمكن نسيانها.
ومعرفة ظروف زواج وطلاق مبروك وعيشة، سيفتح بالضرورة على فترة احتلال الجزائر، وعلى ظروف عمل المهاجرين الجزائريين البائسة، بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى اغتراب ما زال حاضرا فى الأحفاد، كما أن الطريقة التقليدية، التي تزوج بها مبروك من عائشة، ترسم ملامح المجتمع الجزائري وقتها، والحياة الصعبة، التي عاشها مبروك سواء فى عمله فى الجزائر فى الزراعة، أو فى عمله المرهق فى مصنع السكاكين، وتفسر لنا أيضا شخصيته الحادة والصامتة، وتكشف عن حالة الملل والزهق، وربما اللا مبالاة، التي تلازمه فى سن الشيخوخة، التي دفعته للانفصال عن زوجته.
هي إذن نظرة من الخارج على قرار غريب شخصي، أدت إلى نظرة بالعمق، بالانتقال بين مبروك وعيشة، فى حياتهما المنفصلة، ثم نظرة أكثر اتساعا عن علاقة مبروك وعيشة بالجزائر وعلاقة زين الدين، والد المخرجة، بهويته الجزائرية.
ستسأل لينا سوالم الجميع سواء عن الشخصي أو عن العام، فكأنها تحاول أن تجد إجابة لسؤال يشغلها أيضا، هي تريد أن تعرف أسرتها أكثر، وهي أيضا تريد أن تعرف مدى ارتباطها، كابنة الجيل الثالث، بوطنها الأم، أما وسيلتها فى بناء هذه الرحلة، فتمثله المقابلات مع الجد والجد والأب زين الدين، والشرائط التوثيقية لفترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وشريط فيديو صور زين الدين لأمه عيشة، فى حفل زواج أخته، وتظهر فى الشريط لينا كطفلة صغيرة، ولدينا أيضا أخيرا رحلة مصورة، قامت بها لينا فى النهاية، إلى قرية العوامر، مسقط رأس أسرة السوالم.
هكذا تم تشكيل المادة، والانتقال بين الجد العابس الصامت، والجدة البسيطة الضحوكة، وبين الأب زين الدين، الذي يشبه والده كثيرا فى الشكل، ولكنه يمتلك بساطة وضحكات الأم، وكلما تقدمنا فى الحكي، واكتشاف الماضي المزدوج والصعب، أي ماضي عيشة ومبروك، وماضي وطنهما المحتل لمدة 130 سنة، نتفهم تماما ظروفهما، ونستوعب كيف عاشا حياة تقليدية مزعجة، وندرك أن قرار الانفصال ربما كان مؤجلا من سنوات، رغم أن المودة ما زالت قائمة، ورغم أن عيشة تزور مبروك، وتحمل له الطعام فى كل يوم.
تزوجت عيشة فى سن الخامسة عشرة من مبروك، أمها كانت عاملة فى بيت رجل فرنسي وأسرته، تبكي عيشة عندما تتذكر أنها لم تصنع شيئا لمساعدة أمها الفقيرة، ولكنها تضحك خجلا وهي تتذكر ليلة زفافها إلى مبروك، وتضحك أكثر عندما يداعبها ابنها زين الدين، لقد تعلمت أن تهتم بنفسها، أن تشتري لوحات مكتوب عليها إنها أعظم أم، وأعظم جدة، لقد قررت ألا تكرر ما فعلته خلال السنوات الماضية، وأن تستمتع بأيامها الباقية، بصحبة صديقاتها اللاتي تقمن بالطهي معا.
مبروك أيضا يتذكر أيامه الصعبة، ومعاملته كمهاجر لا قيمة له، إنه ليس فرنسيا، وعليه أن يقنع بما يقدم له، وأن يصمت ولا يتكلم، نزور أطلال مصنع السكاكين مع مبروك، يقول إن ظروف العمل فى المكان لم تكن آدمية.
مبروك لم ينس الجزائر، يقول إنه دفن كل أعمامه فى الجزائر، رغم أنهم عملوا وماتوا فى فرنسا، وعيشة أيضا تتذكر حياتها وهي صغيرة، تعترف بأنها لم تدرك بالضبط معنى احتلال الفرنسيين لبلدها، رغم أنها كانت تراهم فى كل مكان، ولكنها جزائرية تماما، تطعّم كلامها الفرنسي بكلمات عربية، أما زين الدين فيرى أيضا أنه جزائري، حتى لو يقم بزيارة الجزائر، إلا مرة منذ سنوات طويلة.
حكاية الأسرة تتحول تدريجيا إلى حكاية الجزائر، وشرائط مصورة قديمة تظهر مذابح ضد الأهالي منذ العام 1945، وصوت الناخب الفرنسي كان يعادل أصوات ثلاثة من الجزائريين، وجبهة التحرير تبدأ الحرب، التي استمرت 8 سنوات حتى استقلال الجزائر، ومبروك وعيشة يكافحان الظروف الصعبة فى بلد العدو.
لن تنفرج أسارير مبروك إلا عندما يشاهد صور الحفيدة لينا، التي التقطتها لقرية العوامر، وقد غطتها الثلوج.
ستعود لينا إلى القرية بالفعل، فى مشاهد الفيلم الأخيرة وستهدي فيلمها، الذى ذكرى جدها الراحل المكافح مبروك سوالم.
تبقى فى الذاكرة لحظات مؤثرة لفرحة تختلسها عيشة وهي ترقص فى فرح ابنتها، وحشد من الجزائريين فى قرية تيير الفرنسية يحضرون الفرح، الذي يبدو مثل بيت جزائري ينشأ فى قلب فرنسا.
ربما لن تبقى لينا فى العوامر، ولكنها عرفت الوطن الآن بصورة أكثر قربا وعمقا، وعرفت أيضا أسرتها بشكل أفضل.
وربما كانت اللغة العربية هي الاختيار الأفضل لحوار العائلة بدلا من الفرنسية، ولكن تفشي الفرنسية فى الفيلم دال جدا على صراع مستمر، لا يمكن أن يزول بسهولة، بين وطن العمل ووطن الجذور.
ويالها من معادلة صعبة الحل عند كل الأجيال.