«من القاهرة» .. مواجهة الخوف بالفن

«من القاهرة» .. مواجهة الخوف بالفنمحمود عبد الشكور

الرأى8-11-2022 | 17:56

هذا فيلم تسجيلي متعاطف مع نماذجه النسائية الصامدة في مواجهة ظروفها، يجعل من مخرجة الفيلم شريكة في التعبير عن مخاوفها، مثل بطلتيها، ولكنه أيضا عمل لا يخلو من ملاحظات هامة وأساسية، أثرت بالتأكيد على مدى نضج التجربة، مع كل التقدير لصناعها، وكل التحية لبطلات الحكاية.

أتحدث عن فيلم «من القاهرة» للمخرجة هالة جلال، والذى عرض فى المسابقة العربية لمهرجان القاهرة السينمائى فى دورته الثالثة والأربعين، والذى يقدم نموذجين لامرأتين تستخدمان الفن فى التعبير، وفى تحقيق الذات، وفى تسليط الضوء على مخاوف المرأة، وعلى العنف الذى تتعرض له أحيانا.

النموذج الأول تمثله المصورة والرسامة هبة خليفة، التى أقامت معرضا بعنوان «صنع فى البيت»، صورت فيه شخصيات نسائية تعبر عن الخوف، أو المعاناة بسبب ظروف خاصة، أو نتيجة الإحساس بموقف المجتمع نفسه من المرأة. اللوحات رائعة بالفعل، والفيلم يقدم هبة كأم مع طفلتها الجميلة ورد، التى ملأت الفيلم حيوية وجمالا، وهبة تحكى بكل صراحة عن طلاقها، وعن خوفها من عدم الإنجاب، وعن أمها التى كانت تقول لها إنها لن تقدر على حل مشكلاتها.

أما النموذج الثانى فتمثله آية، وهى مخرجة تحقق فيلما عن النساء اللاتى تعرضن للعنف بأبشع طريقة، وهى سكب ماء النار على أجسادهن، نرى أية فى القاهرة وفى دبي، وهى تتابع حالات بطلات فيلمها، ونرى آية وهى محجبة، ثم بعد أن خلعت الحجاب، كما نراها فى هوايتها التى تخرج طاقتها، حيث انضمت لفريق رياضة أقرب الى الرجبي، إنها أيضا نموذج مختلف لتحقيق الذات، وتظهر فى لقطات كثيرة مع هبة بطلة القصة الأولى.

يمكن أن نعتبر هالة جلال، مخرجة الفيلم، نموذجا ثالثا، لأنها تتولى السرد بصوتها، وتبدأ بالتعبير عن مخاوفها فى كل شيء داخل المدينة، أى أنها تشارك بطلتيها فكرة التعبير عن هموم المرأة ومخاوفها، وتظهر هالة أيضا فى الفيلم، ويبدو أنها رئيسة المؤسسة التى تعمل فيها آية، وإضافة صوت هالة الى صوتى هبة وآية من أفضل وأذكى مناطق الفيلم، لأنه جعل المخرجة جزءا من موضوعها، وليست مجرد ساردة له، هى أيضا امرأة من نفس المجتمع، وهى ترى فى تجربة هبة وآية مواجهة ملهمة تساعد نفسها هالة على مواجهة مخاوفها من المدينة المعادية، كما أن صوت هالة تنويعة موفقة على دور الفن فى تحقق النساء، وفى التعبير عنهن: هبة تصور لقطات فوتوغرافية، وآية تصور لقطات متحركة، وهالة تحقق فيلمها عن الاثنين، الفن هنا ضرورة، بل هو جزء من حياة الشخصيات، وليس مجرد تجربة منفصلة عنهن.

ولكن هذه الرؤية المتعاطفة سرعان ما تثقلها ملاحظات أساسية تبدأ من العنوان، فالمدينة أيضا بطلة من بطلات الفيلم، حيث تتكرر مشاهد البطلات فى شوارع القاهرة، مع تعليقات من هالة جلال على شريط الصوت، توحى بأن القاهرة مدينة معادية للمرأة، والحقيقة أن القاهرة مدينة معادية لسكانها كلهم، رجالا ونساء، بسبب ظروف الحياة الصعبة، قد تتعرض الفتيات بالطبع للمضايقات وللتعليقات وللتحرشات بشكل خاص، ولكن هذا الأمر يحدث فى المجتمع كله، وليس فى القاهرة وحدها، تخصيص القاهرة فى العنوان لم يكن موفقا، وفيه الكثير من عدم الدقة.

الملاحظة الثانية أكثر خطورة، فالتفاوت كبير بين قوة حكاية هبة، وحضورها، وحديثها، وبين ضعف قصة آية، أو بمعنى أدق عدم تكافؤها مع قصة هبة، وقد لجأت هالة الى مشاهد طويلة كان يمكن اختزالها لآية وهى تمارس الرياضة، ولكن ذلك لم يحقق التوازن، فما زالت حكاية هبة وصورها وابنتها الجميلة تملأ الفيلم، بل وبدا أنها تستحق أن تكون حكاياتها فيلما مستقلا، والأسوأ أن الإنتقالات بين هبة وآية لم تكن سلسة، وكأننا أمام فيلمين لم يندمجا رغم وجود فكرة مشتركة بينهما، ورغم لجوء هالة إلى جمع هبة وآية فى بعض المشاهد.

يضاف إلى ذلك أن الفيلم الذى يبدأ بصور معرض هبة، كان من الأجدر به أن يبدأ باستقبال هبة لآية فى المنزل، والحقيقة أن صوت هبة وآية فى التعليق من خارج الصورة بدا متشابها أحيانا، وكلها ملاحظات أثرت بالتأكيد على شكل الفيلم وتأثيره، وكانت حكاية هبة تنقذ الموقف فى كل مرة، مؤكدة من جديد أنها الحكاية الأساسية، وأنها كانت تستأهل أن تكون الفيلم كله.

كلمات هبة أيضا هامة، وجديرة بالتأمل، خاصة عندما تتحدث عن مجتمع يشعرها بأنه يمتلك جسدها، وأعتقد أن حضور ابنتها ورد لم يكن مجرد حضور شكلى، ولا هو مجرد تعبير عن دوره هبة كأم تذاكر لابنتها.. الخ، لأن ورد أيضا هى مستقبل المرأة فى هذا المجتمع، وهى محظوظة بأن تكون لها أم مستقلة وقوية، وحضور ورد فى العمل، وألعابها الحرة المرحة، ينبيء بمولد انثى مختلفة، من قلب الصعوبات والمعاناة.

ظلت استخدامات الأغنيات أقل عناصر الفيلم ابتكارا، إنها تعبير مباشر عن الحالة وعن الأماكن، وبدا الفيلم عموما أكثر طولا مما تحتاجه مادته وفكرته، ولكن ظلت فى الذاكرة روح الشخصيات، وحضورها، ونبرة الخوف فى صوت هالة، وانحيازها المستحق للمرأة المصرية، وتحيتها المعتبرة للصامدات، وظل فى الذاكرة اختيارها الموفق لأشعار فؤاد حداد فى لوحة البداية، عن قدرة المنكسر على أن يعود دائما «واحد صحيح» عندما يقع، رغم أنه ليس منتصرا وليس مستريحا، واختيارها الموفق لرباعية صلاح جاهين فى لوحة النهاية، عن ذلك الطائر الذى صنع بيته من القش، تذروه الرياح، ولكن قادر على العيش رغم كل ذلك، ورغم ما يهدد حياته من أصحاب المخالب.

ويبقى المعنى الأهم الذى وصل تماما: الفن ليس مجرد ألعاب فارغة، إنه وسيلة للتحقق، ولتعبير المرأة عن نفسها، الفن يعكس همومها، مثل صور هبة خليفة المبدعة.

فيلم «من القاهرة» عن فن هالة، وفن هبة، وفن آية، والحكاية كلها عن محاولة مواجهة الخوف والألم بالفن، ويالها من محاولة تستحق التأمل والتقدير.

أضف تعليق

وكلاء الخراب

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2