قلت لصاحبي وهو يحاورني حول نظرية «المستبد المستنير» التي تحدث عنها جمال الدين الأفغاني (1838-1897) فى «العروة الوثقى» بأنه لم يعد لها أثر أو وجود فى الواقع السياسي الآن.. وقلت له أيضا بأن كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد «لعبد الرحمن الكواكبي» (1902) بأنه كتاب ممتع فى قراءته لكن أيضًا لم يعد له أثر فى الواقع السياسي الآن.. كان حديثًا بيني وبينه فى السياسة له جذوره الفكرية فى التراث العربي والغربي.. واستطردت قائلا له، لقد تبدلت الحياة الآن وتطورت وأصبحت للدول مؤسساتها المعلوماتية والتنفيذية التي تدير شئون البلاد، كل فى تخصصه، فضلاً عن وجود السلطات الثلاث فى كل نظام حاكم (التشريعية - القضائية - التنفيذية) ربما لا خلاف على أن «فريدريك الثاني» حاكم بروسيا (1740-1786) كان مستبدًا وطاغية وكان يوصف بفريدريك العظيم وأيضًا حاكم رومانيا «شاوشيسكو» (1918-1989) لكن مثلاً لا أرى ذلك فى الحكام المناضلين الأقوياء الذين كانوا يحاولون تحرير شعوبهم وبناء دولة قوية ذات سيادة!! خاصة فى القرن الماضي كجيفارا وكاسترو وعبد الناصر وبن بلا وماوتسي تونج وغيرهم.
منذ عقد تقريبًا من الزمن تعيش الأوطان التي تتهددها أطماع إقليمية ومؤامرات خارجية لجعل الدولة الوطنية بمؤسساتها رخوة.. فاشلة..مخترقة.. لا تملك قرارًا ولا موقفًا.. ولا تحمي رعاياها ولا تحقق لهم مفهوم الأمن الإنساني الواسع!
مخطئ من يعتقد أن حديثنا عن المؤامرات الخارجية والأطماع ومواجهتها هو استدعاء لشخصية «دونكيخوت» فى رائعة الأديب الإسباني ميغل ثرفانتس الذي كان يتوهم ظلال طواحين الهواء على أنها أعداء.. أو أنه من قبيل الترف الفكري الذي ليس له علاقة بالواقع.. خاصة تلك الأوطان التي مثلت جغرافيتها مطمعا، كأن تكون همزة وصل بين قارتين أو تقع على جانبيها شواطئ ممتدة على بحار رئيسية أو تمتلك ممرًا مائيًا تمر ثلث التجارة العالمية منه أو تمتلك ميراثا إنسانيًا حضاريًا عظيمًا، كان أصلا فى أفرع العلم المختلفية كالهندسة والطب والفلك والزراعة والصناعة والفنون البصرية والسمعية.. بل أصل شجرة الديانات كلها.. ولها مسحة عليها دون مبالغة أو نزعة شيفونية!
هناك شعوب ودول تحتاج طبيعتها القوية وموروثها الخاص إلى الحاكم القوي من خلفية تتسق مع موقعها الاستراتيجي والجيوستراتيجي والجيوبولتيكي.. فضلا عن أننا نعيش عصر القوة!! ، فقوة الدولة تأتي من قوة الحاكم وحكمته ورؤيته وتأتي أيضًا من قوة مؤسساتها وأركانها ونظامها الهرمي.. حيث يتحقق فى ظل هذه المعادلة للمواطن، الحياة بكرامة فى وطنه وبين الأمم ويتجسد المعنى الحقيقي للسيادة الوطنية، برًا وبحرًا وجوًا وفضاء.. ينطلق الحاكم فى رؤيته إلى استراتيجية واضحة وإلى غاية قومية وأهداف استراتيجية مرحلية بمدايات مختلفة.
نحن فى مصر.. عشنا فترة الاضطرابات بعد ثورة 25 يناير 2011 وذقنا فيها الأمرين خاصة فى السنة النحسة التي حكم فيها الإخوان المتأسلمون 2012م !!
عرفنا فيها أزمات اقتصادية مثلاً فى الخبز وفى الكهرباء وفى إضراب عمال النقل العام وخضنا حربًا ضد الإرهاب، شيعنا فيها فلذات أكبادنا من رجال الجيش و الشرطة والقضاء ما وصل إلى 3300 شهيد وأكثر من 12290 مصابًا.. وكنا نقف جميعًا كمصريين فى لجان شعبية على مداخل الأحياء السكنية والشوارع الرئيسية لنحمي أهلنا وأولادنا وكانت مكبرات الصوت حينها تجوب القاهرة وتقول «احموا أنفسكم».. كنا ننزف دمعًا ودمًا على حال بلدنا الذى لطالما كنا نرفل فى أمنه وأمانه!
تكالبت حينها علينا دول كبرى وصغرى وبتنا كالأيتام على مائدة اللئام.. بلغ التصنيف الائتماني حينها للاقتصاد المصري أدنى مستوياته..
كان ظهر الوطن مكشوفًا وما أقساها من كلمة!
وعندما جاءت ثورة 30/6 وقال الشعب المصري فيها كلمته أمام العالم، جائنا رجل منا، نعرفه ويعرفنا، ونثق فيه، أيقظ بداخلنا همة العمل والبناء والأمل والإصرار.. وكان يقول فى أحلك الظروف « مصر أم الدنيا.. وحتبقى قد الدنيا» وكنا نتعجب، كيف يقولها فى ظل ظروف طاحنة آنذاك؟!
ويومًا بعد يوم اخضرت شجرة الوطن وأصبحت باسقة شاهقة..وعادت مصر على يديه فتية.. قوية.. وانطلقت المسيرة فى كل المجالات.
تراكمات من الإهمال وغض الطرف عن مواجهة الأزمات المزمنة للمصريين، واجهها هذا الرجل بكل حزم وقوة وطموح! وكان الجيش ساعده الأيمن فى هذه المواجهة، وسيكتب التاريخ للقوات المسلحة المصرية بأحرف من نور، موقفها من معركة البناء والتنمية هذه فى كل المجالات.. وأما الساعد الآخر له فكان المواطن الذي آمن فتحمل ما تحمل من ظروف اقتصادية لم يكن منها بد حينها!!
ولولا أن المواطن رأى نتائج ملموسة على الأرض ما تحمل وما امتثل بحب وتجرد.. وهذا حال الجيل الذي بنى الأهرام والجيل الذي حفر قناة السويس والجيل الذي واجه نكسة 67 وصمد فى مصر ولم يهاجر أو يسافر، بل أعاد بناء جيشه حينها ولم يكن هناك صوت يعلو على صوت المعركة!
لكن الآن مع الأسف هناك أصوات مأجورة تحاول أن تعلو بصوتها على صوت معركة الحياة والبناء والأجندة الحقيقة للمواطن المصري، تأتي عبر منصات إلكترونية من الخارج، تستهدف خفض الروح المعنوية للشعب المصري، تستهدف إرباكه.. تشكيكه فى كل منجز للوطن، وتستغل الظروف العالمية لأزمتين عالميتين، أحداهما أزمة كورونا، التي أجلست شعوبا فى بيوتها دون عمل لمدة سنة أو اثنتين وقطعت أوصال العالم فلم يكن يخرج أحد من بلده أو حتى من مدينته إلى المدن الأخرى وتوقفت عجلة الإنتاج فى أغلب الدول فتحمل الاقتصاد حينها تبعات هذه الأزمة.
وأما الأزمة الثانية فنتيجة العمليات العسكرية الروسية الأوكرانية، فتعطلت سلاسل إمداد الغذاء لنصف الكرة الأرضية تقريبًا من القمح والذرة والأسمدة، ما جعل أسعار الغذاء تقفز إلى أرقام غير مسبوقة وأيضًا أسعار الطاقة من الغاز والبترول!!
وقفز هدف تأمين الغذاء والطاقة إلى أولويات الدول كلها وخاصة ونحن على أعتاب شتاء لا يرحم!
وهنا أعود لصاحبي الذي كان يحاورني فى موضوع العمليات النفسية الرهيب الذي يتعرض له الشعب المصري الآن وحرب الشائعات التي تواجهها الدولة المصرية والتي أصبحت نموذجًا ملهما لكثير من دول العالم، للدولة الوطنية ذات السيادة والتي تسعي لبناء قدراتها ذاتيا وتنمية شعبها وتوفير حياة كريمة له وللأجيال القادمة!
لقد بدأت المنصات المعادية تستخدم كل أساليب التشكيك وخفض الروح المعنوية وإرباك الرأي العام المصري، عبر آلاف الشائعات وإغراق المعلومات والواقع بها فى كل المجالات.. ومع اشتداد الرياح العاتية أمام سفينة الوطن وربانها.. يبقى الحق حقًا والباطل باطلاً!!
ولا يمكن للشعب المصري الواعي الذي عركته الحياة والأزمات والأحداث، أن يقع فريسة مرة أخرى بعد 25 يناير2011.. فلقد كان الدرس موجعا.. مؤلمًا، دفعنا جميعًا ثمنه ومازلنا، لولا عناية الله ولطفه.