«مثلث الحزن».. مسخرة بطعم المأساة

«مثلث الحزن»..  مسخرة بطعم المأساةمحمود عبد الشكور

الرأى27-12-2022 | 14:54

تصنع تجربة المخرج وكاتب السيناريو روبن أوستلوند نموذجا مدهشا يستحق التأمل، في الجمع بين الشكل الحواديتي الذي يبدو بسيطا، وبين الأفكار العميقة والخطيرة، التي يعبر عنها.

بين الروح الكوميدية المرحة، التي تلامس حدود العبث والمسخرة معا، والجوهر المأساوي للأفكار التي تشغله، والتي تصل إلى مستوى البحث عن المصير، في ظل أوضاع العالم المقلوبة، وفي ظل تناقضات الإنسان الداخلية الأبدية.

بين رسم الشخصيات المتقن، والسرد الممتع والمسلي.

وكلها أمور ليس من السهل الجمع بينها، إلا بفضل موهبة ووعي كبيرين.

هكذا أدهشنا روبن بفيلمه "المربع"، الذى حصد السعفة الذهبية فى مهرجان كان 2017، وهكذا أيضا يواصل التأكيد على أفكاره بطريقة الكوميديا السوداء، فى فيلمه "مثلث الحزن"، الفائز بالسعفة الذهبية فى مهرجان كان 2022، والعلاقة بين الفيلمين قوية وواضحة، شكلا ومضمونا، فنحن من جديد أمام مسخرة تكشف عن خيبات وفشل، وعن مأساة كامنة، ونحن مرة أخرى أمام مأزق العلاقة الصعبة مع الآخر، وسخرية لاذعة من التحضر الشكلي، الغارق فى الحياة الاستهلاكية، والذى تتم تعريته مع أول اختبار.

فى "مثلث الحزن" أيضا تتكشف هشاشة فكرة المساواة المزعومة، وتظهر تناقضات الإنسان العجيبة، وتتغير موازين الملكية والسيطرة، ونصبح من جديد على أعتاب العودة إلى الغابة، وهى البديل الذى يراه روبن، لو استمرت حياتنا على هذا النحو المختل والمجنون والمضطرب.

فى فيلم "المربع" كانت السخرية من الحياة المغلقة، التى يعيشها كريستيان، مدير متحف الفن الحديث، والذى يتعرض لاختبار علاقته مع الآخر، عندما تسرق حافظة نقوده، وبينما يستعد لتنظيم معرض لفنانة تدور أعمالها عن شكل "المربع"، الذى يفترض أن يوفر لكل من بداخله الثقة والمساواة والطمأنينة، يكشف كريستيان أنه يعيش شخصيا داخل مربع مختل العلاقات، ونكتشف أن فكرة المساواة هشة تماما، وتنهار عند أول اختبار.

فى "مثلث الحزن"، يبدو كارل عارض الأزياء، وصديقته عارضة الأزياء يايا، منعزلين فى مربعهما الخاص، تبحث هى عن شخص يساندها لو مرضت أو توقفت عن العمل، ويبحث هو عن المساواة بينهما، حتى عند لحظة دفع النقود فى مطعم.

تأتى لحظة اختبار منطقة الأمان، والمساواة الوهمية، عندما يحصل كارل ويايا على رحلة مجانية على يخت حافل بالشخصيات العجيبة، والتى تؤكد اختلال المساواة، واتساع المسافة بين البشر، وسيطرة المادة، والروح الاستهلاكية، ثم ينهار مربع الثقة، عندما ينفجر اليخت، ويعيش بعض الناجين، ومنهم كارل ويايا، فى جزيرة، ليرتد البشر إلى الحياة الأولى، وتتغير موازين العلاقات، بسيطرة أبيجيل ، مديرة المراحيض فى اليخت، على موارد الطعام والطهي، تصبح بديلة عن قبطان اليخت، وهنا يصبح كارل، الباحث عن المساواة مع يايا، عبدا لاستغلال أبيجيل الجنسي، وتصبح أموال المليونير الروسى بلا أى قيمة، أمام قطعة من الأخطبوط، الذى اصطادته أبيجيل، أى أننا نصبح بوضوح أمام العودة إلى الغابة، وهذا ما يحدث مع كارل، الذى نراه وهو يعدو وسط الأشجار، فى آخر مشاهد الفيلم.

من اختبارات عروض أزياء، يرتدى فيها كل عارض تعبير الحزن أو الابتسام أمام الكاميرا، ننتقل إلى يخت يجمع بين قبطان أمريكى ماركسى سكير (وودى هارلسون فى دور مميز للغاية)، ومليونير روسى يتاجر فى الفضلات، ويحولها إلى أسمدة للزراعة فى دول أوربا الشرقية، وزوجين عجوزين يعملان فى مجال تصنيع القنابل اليدوية، ويقولان إنها تساعد على تحقيق الديمقراطية، ومليونير وحيد يعمل فى مجال البرمجيات، وامرأة قعيدة مصابة بسكتة دماغية، لا تردد سوى كلمة واحدة، وطاقم من مضيفى ومضيفات وعمال اليخت، ينتظرون النقود فى نهاية هذه الرحلة العجيبة، ثم ننتقل أخيرا إلى الجزيرة فى رحلة تشبه فيلم "البداية" لصلاح أبو سيف، حيث تتكون من جديد آليات الخضوع والسيطرة، وتتكرر فكرة الاستغلال، اعتمادا على وجود حاجات الإنسان الأولية.

هو إذن عرض أزياء، يتحول إلى عرض تناقضات، نتحول فيه من الجسد العارى للعارضين، إلى الأطماع البشرية العارية من كل تزويق، والفوارق الطبقية الواضحة، وتبادل مشاعر الغيرة الساذجة، من كارل تجاه تصرفات يايا على اليخت، ومن يايا تجاه تصرفات كارل مع أبيجيل على الجزيرة.

يتبدد مربع المساواة الافتراضى القديم، لنصبح أمام "مثلث الحزن"، وهو الاسم الذى يطلق على المسافة بين الحاجبين: انبساط هذه المثلث على وجه عارض الأزياء، يعطى تعبير الارتياح ، وتجعّد هذا المثلث، يعطى مظهر التجهم والحزن، والفيلم فى جوهره عن تلك اللعبة، وعن ذلك التناقض الذى نعيشه كبشر، والذى يجعل وجوهنا مرايا، تعبر عن اصطناع صورة ما، بينما نبدو من داخلنا فى حالة مختلفة.

لا يوجد مشهد تقريبا لم يكتب بعناية، بل إن تتابعات مشهد فوضى ليلة العشاء فى ضيافة القبطان الأمريكى الماركسى المخمور، والتى تتحول بسبب دوار البحر إلى فاصل من المرض والتقيؤ، ثم قيام المليونير الروسى بالادعاء عبر الميكروفون بأن اليخت يغرق، هذا المشهد يذكرنا بفوضى أفلام الأخوة ماركس، وبسخرية المخرج الفذ لويس بونويل من البرجوازية، وسحرها الخفي، كما يذكرنا بمشهد الإنسان الذى يقلد قرد الغابة فى فيلم "المربع"، حيث تتحول الحضارة الأنيقة، إلى فوضى بدائية عارمة.

من مشاهد الفيلم البديعة أيضا، مشهد إصرار المليونيرة العجوز، زوجة المليونير الروسي، على أن تقوم مضيفة بائسة بالعوم فى حمام السباحة على اليخت، ثم قيام كل عمال اليخت، ومضيفاته، وخادماته، بارتداء مايوهات السباحة، والنزول إلى البحر، بناء على طلب المليونيرات، النقود هى الهدف، وكل مطالب الضيوف يجب تنفيذها، وهى وصية رئيسة طاقم الضيافة لمرءوسيها، فى بداية رحلة اليخت.

ربما طالت بعض مشاهد الجزيرة، وربما كانت الدراما تحتمل شخصيات إضافية أعجب وأغرب، ولكن الفكرة وصلت عبر مواقف وتحولات ومفارقات مذهلة، وبدا كما لو أن الواقع والعبث وجهان لنفس العملة، وأن غرابة وجود مصعد وسط الغابة، متسق مع غرابة وجود مليونر روسى يحب الرأسمالية، وقبطان أمريكى يؤيد الشيوعية، ومتسق مع غرابة ارتداد البشر إلى مرحلة قتل حمار لأكله، أو غرابة صناعة قنابل يدوية، تتسب إحداها فى تفجير اليخت.

روبن أوستلوند لا يرى فى حياتنا الراهنة إلا شعارات كاذبة وهشة، لا مربعات ولا مثلثات ولا حتى أيديولوجيات، نجحت فى أن نشعر بالمساواة والثقة بالعيش معا فى مساحة واحدة.

الوحش ما زال كامنا داخل الإنسان المتحضر، والغابة انتقلت معنا حتى ونحن فى عز التقدم والرفاهية، والعودة إلى الغابة تتم فى لمح البصر.

وتبقى فى الذاكرة امرأة قعيدة تردد نفس الكلمة، تشهد على المأساة المتنكرة فى صورة مسخرة، معنى كلمتها المتكررة هو " الأعالى بجوار السحب".

لعله الحلم المستحيل، الذى لن نصله أبدا، ونحن نتعايش مع هذه التناقضات، ونرفع شعارات لا تتحقق، ونمارس الاستهلاك والاستغلال، ونصطنع الحزن والابتسام حسب الطلب، من أجل حفنة دولارات.

أضف تعليق

وكلاء الخراب

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2