تحل علينا اليوم، ذكرى وفاة الشيخ محمد مصطفى المراغي، بالتقويم الهجري، والذي توفي ليلة الرابع عشر من رمضان ، فهو هو الإمام المصلح المجدد المستنير، رائد الإصلاح في الأزهر والقضاء الشرعي، صاحب فكرة إنشاء الجامعة الأزهريَّة، فضيلة العلامة محمد بن مصطفى بن محمد بن عبد المنعم المراغي شيخ الجامع الأزهر.
نشأة الشيخ المراغي
وُلِدَ الشيخ مصطفى المراغي في 7 ربيع الآخر 1298هـ/ 9 مارس 1881م بمدينة (المراغة)، بمديريَّة جرجا (محافظة سوهاج حاليًّا) بصعيد مصر وإليها يُنسب، وهو من أسرة عريقة لها إسهامات جليلة في خدمة العلم والقضاء، تَوَارُثُت القضاء فيما بينهما خلفًا عن سلف؛ لذا كانت تُلقَّب بأسرة القاضي.
وقد نشأ الشيخ المراغي في بيئة علميَّة؛ وعرف والده بالتقوى والورع والعلم، وكان للأسرة مكانتها ومنزلتها، وكانت دارهم دار كرم، ومنتدى أفاضل القوم، بل كانت تعرف لدى الجميع بأنَّها مقصد أهل الخير وذوي الحاجات – من المسلمين وغيرهم- الذين كانوا يريدون حلًّا لمشاكلهم على يد الشيخ مصطفي المراغي؛ وذلك لما له من تقدير خاص ومكانة ممتازة في نفوس القوم؛ ولذا كان الحي الذي تقع فيه داره يعرف بحي القاضي أو الشيخ.
أرسله والده إلى كُتَّاب البلدة لحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وقد ظهر نبوغه ونجابته خلال حفظه للقرآن الكريم، فقد وهبه الله قلبًا واعيًا وحافظة قوية فأتم القرآن ولم يكمل العاشرة، فأرسله والده إلى الأزهر ليدرس الدراسة الدينيَّة التي وهبت الأسرة نفسها لها، فاندمج في غمار طلبته وهو في سن الحادية عشرة، فدرس الكتب التي كانت تقرأ في تلك الفترة على يد مشاهير العلماء، وكانت طريقة الدراسة في الأزهر إذ ذاك هي الطريقة التي ألفها الناس في جميع مدارس الشرق ومساجده، فليس ثمة نظام يقيد الشخص في اختيار الأستاذ وتخير الكتاب الذي يناسبه.
وكان الإمام محمد مصطفى المراغي معروفًا بين أقرانه وزملائه من الطلبة بالأخلاق الكريمة والحِرص على طلب العلم وقوة التحصيل، واعتاد هو ونخبة من زملائه أن يقرؤوا الدروس قبل إلقاء المدرسين لها، ويقرؤوا معها كتبًا أخرى، وكلَّ مصادر المعرفة.
وقد أخذ العلم عن كثير من علماء عصره وفي مقدمتهم الشيخ علي الصالحي – من شباب علماء الأزهر المستنيرين المحققين – الذي درس عليه علوم العربيَّة وتأثر بأسلوبه في التوضيح والبيان، والشيخ دسوقي العربي، والشيخ محمد حسنين العدوي، والشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي، كما اتصل بالشيخ محمد عبده فانتفع بمحاضراته العامَّة في التفسير والتوحيد والبلاغة، وتفتحت على يديه مواهبه العقليَّة، وصار من تلاميذه النابغين، وتأثر بمنهجه السلوكي ودعوته الإصلاحيَّة، وظلَّ وثيق الصلة به وسار على نهجه في التجديد والإصلاح.
وقد تقدم لامتحان شهادة العالميَّة في 12 ربيع الأول 1322هـ/ 28 مايو 1904م فنالها من الدرجة الثانية، وكان الشيخ محمد عبده أحد أعضاء لجنة الامتحان، وقد رأى المراغي وهو يُؤدي الامتحان مريضًا مرتعشًا من الحمَّى، ومع ذلك أجاد في الامتحان، بل كان الأوَّل على زملائه، فدعاه الشيخ محمد عبده إلى منزله تكريمًا له، والملاحظ أنَّ المراغي نال شهادة العالميَّة (الدكتوراه) وهو في سن الرابعة والعشرين من عمره، وهي سن مبكرة بالنسبة للعلماء المدرسين بالأزهر.
وكانت شهادة العالميَّة من الدرجة الثانية التي حصل عليها الشيخ المراغي هي نفسها التي حصل عليها أستاذه الإمام محمد عبده، وهذه الدرجة تُؤهِّله للتدريس في الأزهر والمدارس التابعة له، ومن أجل هذا عقد الشيخ المراغي لنفسه حلقةً، وراح يُلقي فيها الدروس؛ ولأنَّه كان جميل العبارة ولطيف الإشارة، غوَّاصًا في بحور المعاني، فقد اشتدَّ الإقبال عليه، وتزاحم عليه الطلاب والعلماء لسماعه، وأصبح حديث أهل العلم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وفي التاسع من سبتمبر 1907م تم اختياره مفتشًا للدروس الدينيَّة بديوان نظارة الأوقاف بمصر، وقد تولى التدريس ب الأزهر في هذه الفترة، فاكتظت حلقته بالطلاب، وجمع بين الوظيفة والعمل الذي يهواه وهو التدريس بالجامع الأزهر.
غير أنَّه لم يبقَ في حلقات درسه غير ستَّة أشهر غادَر بعدها إلى السودان، ليتولَّى فيها القضاء، بأمر الخديوي سنة 1908م، وفي السودان أصر الشيخ المراغي على أن يختار المذاهب والآراء والاجتهادات الفقهيَّة التي يحكم بموجبها القضاة، ولا يترك هذا الاختيار للسكرتير الإنجليزي، وكانت تلك بدايات إنجازاته في إصلاح القضاء الشرعي بالسودان، وفيه كان أستاذًا ومعلمًا ومرشدًا للقضاة.
كما عمل على تكوين جيل من القضاة السودانيين حيث أشرف على القسم الشرعي بكليَّة (غوردون) وزوده بأساتذة من العلماء المصريين من الأزهر ودار العلوم، فكان بذلك المؤسس الحقيقي للقضاء الشرعي السوداني الحديث.
وعاد إلى مصر عام 1919م، وعُيِّن رئيسًا للتفتيش بالمحاكم الشرعيَّة لمحكمة مصر الكليَّة، ثم عضوًا في المحكمة العليا الشرعيَّة، ثم رئيسًا لها.
توليه مشيخة الأزهر
نال الشيخ محمد مصطفى المراغي عضويَّة هيئة كبار العلماء في أكتوبر 1924م بالقرار الملكي (62) لسنة 1924م وشمل القرار كلًّا من: الشيخ حسين والي، والشيخ محمد الحلبي، والشيخ سيد علي المرصفي، ثم عُيِّن شيخًا للأزهر بالأمر الملكي رقم (27) عام 1346هـ/ 1928م، وتَولَّى مشيخة الأزهر للمرة الثانية عام 1354هـ/1935م، وأُنعم عليه بالوشاح الأكبر من نيشان إسماعيل، ثم تَولَّى رئاسة الجمعيَّة الخيرية الإسلاميَّة عام 1360هـ/ 1941م.
وتم تعيين الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخًا للأزهر عام 1346هـ/ 1928م وهو في السابعة والأربعين من عمره، وبذلك يكون أصغر من تَولَّى المشيخة، وقد كان لتلمذة الشيخ المراغي على يد الإمام محمد عبده أثرها في أفكاره الإصلاحيَّة، فكان أول ما دعا إليه هو ضرورة الاجتهاد في الدين والعلم، ومواكبة العصر في نظم التعليم وطرق الفهم؛ لذا أعلن صراحة أنَّه يريد للأزهر إصلاحًا يشمل جميع جوانبه.
أُعيد الشيخ المراغي إلى مشيخة الأزهر مرة أخرى في المحرم 1354هـ/ أبريل 1935م على أثر المظاهرات الكبيرة التي قام بها طلاب الأزهر وعلماؤه للمطالبة بعودته لمشيخة الأزهر لتحقيق ما نادى به من إصلاحات، وباشَر أولًا تنفيذ ما استقرَّ عليه رأيه من وجوه الإصلاح في الأزهر، وما رآه في فترته الأولى، وقد حدَّد مهمَّة الأزهر بأنَّه هو المعهد الإسلامي الأكبر، وأنَّ الغرض منه:
1- القيام على حفظ الشريعة؛ أصولها وفروعها، واللغة العربيَّة، وعلى نشرهما.
2- تخريج علماء لتعليم ما سبق في مختلف المعاهد والمدارس، وتقلُّدهم الوظائف الشرعيَّة.
ولقد أُقيم احتفال كبير لتكريمه لعودته مرَّة ثانية للأزهر، وخطب فيه كثير من الزعماء، وذكروا مواهبه وفضائله، فوقف الشيخ قائلًا: إنما يُنسب الفضل إلى أستاذي محمد عبده، وذكر أنَّه هو المصباح الذي اهتدى به.
وقد بدأ الشيخ المراغي تنفيذ وجوه الإصلاح التي بدأها، فأصدر القانون رقم 26 لسنة 1936م، وقد ألغى به القانونين الصادرين في سنة 1923 و1930م، وكان يهدف إلى جعل الدراسة ب الأزهر ابتدائيَّة وثانوية وعالية ومرحلة تخصص، وطوَّر المناهج الدراسيَّة على النحو الذي يجمع فيه بين الأصالة والتجديد، بإعادة صياغة مضمون المؤلفات القديمة بأسلوب معاصر.
وكانت الحجة في ذلك أن يسهل على الناس الانتفاع بالعلم، فضلًا عن حرصه على أن تكون سياسة التعليم منسجمة مع سوق العمل، وإلا كان حظ خريجي الأزهر هو التقاعد المبكر والبطالة الدائمة؛ ولذا حرص على أن يضم فقرة إلى قانون الأزهر نصها: «أن خريجي كليَّة اللغة العربيَّة وكليَّة الشريعة صالحون للتدريس في المدارس الحكومية»، كما حدد منهجًا علميًّا دقيقًا لدراسة المنطق، والفلسفة، وآداب البحث والمناظرة، وعلم النفس، وعلم الأخلاق في كليَّات الأزهر، وكانت كليَّة أصول الدين منبعًا لهذه الدراسات، وبذلك لبَّى الأزهر روح العصر واتصل بالعلوم الأخرى.
وأسهم الشيخ المراغي في إنشاء العديد من الهيئات الجديدة ب الأزهر ومنها: قسم الوعظ والإرشاد، ولجنة الفتوى، وأدخل تعديلات على جماعة كبار العلماء واشترط لعضويتها أن يكون العضو من العلماء الذين لهم إسهام في الثقافة الدينيَّة، وأن يقدم رسالة علميَّة تتسم بالجرأة والابتكار، وهو صاحب فكرة إنشاء الجامعة الأزهريَّة، وتطوير مجلة (نور الإسلام) تحت اسمها القائم حتى وقتنا الحاضر (مجلة الأزهر)، وعُني بإنشاء مكتب لترجمة الكتب وتعريبها والترجمة للمجلة الدينيَّة باللغات الأخرى، إلى جانب ما كان يقوم به من الرد على ما يكتب ضد الدين باللغات الأخرى.
المواقف الوطنية
تنوعت المواقف الوطنية لدى الشيخ المراغي؛ إذ كان مفهوم العمل اوطني عنده أعمق من كلمة تُلقَى ثم يمضي صاحبها لا يلوي على شيء؛ ولذا لأن الشيخ المراغي نصح للحاكم، أو من يعملون معه في سبيل خدمة الوطن، وأعلى كلمة الحق التي تحتاج الأمة إلى سماعها في الوقت الذي صمت كثيرون ، ومن أبرز المواقف الوطنية للشيخ المراغي ما يأتي:
قيادته حملة بالسودان لمناصرة ثورة عام 1919م ولإعانة ضحاياها، فأصدر نشرة عنوانها
(اكتتاب لمنكوبي الثورة بمصر)، ولم يكتف بذلك بل أرسل وفوده لقضاة الشرع في شتى الأقاليم ومعهم منشورات تثبت فظائع الإنجليز، وقاد مظاهرة كبرى بالخرطوم، وأخذ بجمع التوقيعات من المصريين والسودانيين تأييدًا لزعامة سعد زغلول للثورة.
ومنها رفضه فكرة اشتراك مصر في الحرب العالميَّة الثانية (1939- 1945م)، وهاله وروَّعه ما أحدثته غارات دول المحور على مدن مصر من دمار وخراب وتقتيل وتشريد، وأعلن موقفه صراحة في أثناء خطبته في مسجد الرفاعي بمقولته الشهيرة:" نسأل الله أن يُجنبنا ويلات حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل..."، فكان لمقولته كبير الأثر على الحكومة الإنجليزية التي أصابها القلق والإرباك، إلا أنها لم تستطع فعل شيء؛ لعلمها بما يمثله شيخ الأزهر من مكانة في العالم الإسلامي.
وبعد إعلان الحرب ساءت الأحوال الاقتصاديَّة في البلاد، وأمام هذه الأوضاع وجه الشيخ المراغي بيانًا إلى الأمة داعيًا فيه إلى الهدوء والنظام، وأن يقوم بين الشعب تعاون وثيق ورحمة وعطف، وطلب الاقتصاد في استعمال السلع الغذائيَّة، كما حذر من استعمال الأسلحة المدمرة في قتل الأبرياء، ومن نشر الإشاعات في وقت الحرب وتصديقها، ووجه إدارة الوعظ والإرشاد ب الأزهر لتوزيع أعمال الوعظ وتنظيم المحاضرات للمحافظة على الأمن العام، وتوعية الناس بما يجب عليهم فعله.
ومنها جهره بموقفه كشيخ للأزهر بالرأي الإسلامي والوطني من المخطط الصهيوني المتحالف مع بريطانيا لاغتصاب أرض فلسطين، وبعث برقيَّة احتجاج إلى المندوب السامي البريطاني في القدس بسبب الأحداث الدامية في فلسطين، وفي جمادى الأخرى 1357هـ/ أغسطس 1938م تحرك الشيخ المراغي ودعا العلماء إلى اجتماع من أجل فلسطين نددوا فيه بالسياسة البريطانيَّة، ووجهوا دعوة لزعماء البلاد للتعاون من أجل مقاومة الاستعمار البريطاني والمحافظة على الآثار المقدسة من الأخطار الموجهة إليها، وعندما عقد المؤتمر البرلماني العالمي بشأن القضية الفلسطينية في شعبان 1357هـ/ أكتوبر 1938م، شارك فيه وأعرب عن تأييده للقرارات التي اتخذها المؤتمر.
وفي عام 1945م، طلَّق الملك فاروق زوجتَه الأولى الملكة فريدة، وطلب من الشيخ المراغي إصدار فتوى تحرم على الملكة فريدة الزواج مرة ثانية، فرفض الشيخ ذلك، وأصر الملك على إصدار الفتوى ووصل به الأمر إلى زيارة الشيخ آنذاك خلال علاجه بمستشفى المواساة بالإسكندريَّة، فقال له الشيخ عبارته الشهيرة: "أما الطلاق فلا أرضاه، وأما التَّحريم فلا أملكه، وإنَّ المراغي لا يستطيع أن يُحرِّم ما أحل الله".
وأمَّا جهود المراغي الاجتماعيَّة فقد تعدَّدت وتنوَّعت، وجاء في مقدمتها اهتمامه بقضايا المرأة، وكان موقفه منها موقفًا وسطًا، فقد دعا المرأة إلى الاعتدال في الحياة بالحصول على حقوقها في حدود الشريعة، وقاد حربًا على تغلغل البدع والخرافات في حياة العامَّة من المسلمين، وكذلك أسهم الشيخ المراغي إسهامًا كبيرًا في مجال العمل التطوعي الخيري، وتقديم الرعاية الاجتماعيَّة للفقراء العاجزين، كما تولى رئاسة الجمعيَّة الخيرية الإسلاميَّة في الفترة من1360 إلى 1364هـ/ 1941- 1945م، وهي الجمعيَّة التي أنيط بها العمل في هذا الميدان.
وفاة الشيخ المراغي
لقي الإمام المراغي في حياته متاعب عديدة؛ سواء من الأحزاب والاستعمار أو من بعض ذوي النُّفوذ، وتغلَّب على كلِّ ذلك بقوَّة إيمانه بالله، وكان حريصًا على الأمانة، صادقًا لا تأخذُه في الحق لومة لائم، ولو كلَّفَه ذلك حياته، وقد تُوفي رحمه الله في ليلة الأربعاء 22 أغسطس 1945م- 14 رمضان 1364م وشُيِّعَ إلى مثواه الأخير، في جنازةٍ مهيبة، وحزن عليه العامَّة والخاصَّة رحمه الله رحمة واسعة، وأنزله منازل الأبرار.