نجوم في ذاكرة رمضان.. «3» النقشبندي

نجوم في ذاكرة رمضان.. «3» النقشبنديمحمود عبد الشكور

الرأى12-4-2023 | 14:22

قبل أن يدخل التليفزيون بيتنا الصغير، كنا نتحلق حول الراديو قبل إفطار رمضان فى شبرا، فى انتظار صوت عسكرى المدفع وهو يصرخ :"مدفع الإفطار .. إضرااااب"، وبعده مباشرة نستمع إلى أذان الصوت الملائكى محمد رفعت، ثم نستمع الى صوت ملائكى آخر مذهل هو صوت الشيخ سيد النقشبندي، يصدح بابتهالاته الشهيرة، التى عرفت فيما بعد فى سنوات تالية أنها من تلحين بليغ حمدي، ومن كلمات عبد الفتاح مصطفى.

ما زالت فى سمعى ابتهالات بعينها مثل "مولاى إنى ببابك" و"يارب أمّتي" و"يا كريم"، وما زال صوت الشيخ الفذ يحفر عميقا فى القلب، ويهزنى من الأعماق، وهو ينطلق إلى السماء بندائه الصادر من جواب الجواب :" الله يا الله .. الله يا الله".

كنت تقريبا فى سن السادسة، فى عز أيام الراديو من أوائل سبعينيات القرن العشرين، ولكنى لم أستطع بالطبع فى هذا العمر المبكر أن أتأمل هذه الثورة اللحنية لبليغ حمدى فى تقديم الابتهالات الدينية بمصاحبة الأورج والجيتار، ولا أن أكتشف كيف يضع بليغ بصمته الخاصة، دون أن يمحو الطابع الخاص لصوت النقشبندى الخارق، ودون أن يتجاهل كل مناطق الصوت الفخيم، الذى سرعان ما جعل هذا الشيخ القادم من طنطا، ملكا متوجا لفن الابتهال الديني، وهو أمر ليس سهلا، فلم يكن النقشبندى أول المنشدين، إذ سبقه عمالقة كبار، مثل الشيخ على محمود، والشيخ طه الفشني، ولم يكن التميز والتفرد بعيدا عن هذه الأساطين ميسورا، فما بالك بوضع بصمة لا تنسى بجوارهم؟ وما بالك بأن تصبح ابتهالات النقشبندى جنبا إلى جنب مع أذان الشيخ رفعت، ضمن أهم أيقونات رمضان، فى الراديو وفى التليفزيون، وعلى امتداد مساحة هائلة من دول العالم، التى يعيش فيها المسلمون فى كل قارة؟

فى مرحلة تالية رأيت الشيخ كصورة من خلال برنامج دينى رمضانى أيضا بعنوان "أمسية دينية"، كان يقدم فقرات من تلاوة القرآن فى أحد المساجد، ثم فقرة من الخطابة والوعظ، ثم ابتهال دينى يقدمه النقشبندى أو معاصره الشيخ نصر الدين طوبار.

كان الشيخ بجسده الضخم، وبشاشته البادية، مناسبا تماما لابتهالاته الفخيمة، ذات الجوابات المحلقة فى الفضاء، وكم أدهشنى ذات أمسية دينية من تلك الأمسيات، أن أرى الشيخ يفرغ من ابتهاله، فيجلس فى تواضع بجوار شيخ أزهرى يعرفه، يهمس فى أذن صديقه، ويتبادل الابتسامات دون تكلف، فالذى يبتهل إلى الله لا يجب أن يكون كئيبا أو متجهما، بل هو دوما سعيد مستبشر، وبسيط ومنشرح الصدر، وليس فظا أو غليظ القلب.

عندما قرأت تفاصيل حياة الشيخ سيد النقشبندي، بعد أن فقدناه فجأة فى 14 فبراير فى العام 1976، وكان فى ذروة توهجه، اكتشفت أن حياة الرجل لم تكن سهلة أو سلسة، فقد ولد فى إحدى قرى الدقهلية فى العام 1920، ثم انتقل مع الأسرة إلى طهطا فى الصعيد، وكان عمره عشر سنوات فقط، وهناك حفظ القرآن، وتعلم الإنشاد الدينى وفى العام 1955 عاد ليستقر فى طنطا، وتأخر اكتشاف الإذاعة والتليفزيون له طويلا، وتعثرت محاولاته فى هذا المجال إلى ما بعد العام 1966.

ليس صحيحا أن بليغ هو أول من لحّن للنقشبندي، فقد لحّن له ملحنون كبار وعمالقة مثل محمود الشريف ومحمد الموجى وسيد مكاوي، ولكن ابتهالات النقشبندى الإذاعية بألحان بليغ هى الأشهر والأهم والأنجح، والرواية المعروفة عن تكليف بليغ بالتلحين للنقشبندى بأمر من الرئيس السادات صحيحة ومعروفة، فقد كان السادات من عشاق صوت النقشبندي، ولاشك أن هذه الابتهالات العظيمة قد ساهمت فى تخليد ذلك الصوت السماوى الفريد فى أذهان الجمهور، وما زالت تلون لحظات إفطار رمضان فى كل عام.

حياة النقشبندى وشخصيته لم تقدم دراميا رغم ثرائها، ولكن الكاتبة رحمة ضياء كتبت رواية مستلهمة من صاحب الصوت العظيم تحمل اسم "النقشبندي". قرأت الرواية وكتبت عنها، وأسعدنى أنها وجدت حلولا سردية ممتازة، لاكتشاف الشخصية، واكتشاف المعانى التى تترجمها مسيرتها وكفاحها.

جعلت المؤلفة بطولة الرواية مشاركة بين النقشبندي، وامرأة على مشارف الأربعين، تدعى نصرة، وهى زوجة وأم، تعمل محاسبة فى هيئة الصرف الصحي، ولكنها تقرر أن تكتب رواية عند النقشبندي، بعد أن وصلت حياتها إلى طريق مسدود، فصارت سجينة حياة عادية، آلية، مخاوفها وآلامها ورطتها فى المزيد من الخوف والألم، فأخذت تسأل عن معنى حياتها.

تعود نصرة الآن إلى حلم الكتابة القديم، وقد اختارت النقشبندى تحديدا لأن صوته كان ملاذ طفولتها البائسة، ولأنها تظن أن الرجل يمتلك إجابات لأسئلتها، كما أنها تعتقد أن حياة الشيخ كانت عنوانا على سلام واستقرار لم تعرفه أبدا.

نصرة هى التى تسرد الحكاية كلها، ولكن روحها الهائمة، إثر حادث فى مدينة طنطا، تحاور روح النقشبندى العائدة اشتياقا إلى الأرض، صوته حاضر فى الحوار مع روح نصرة، ورحلتهما تمتد من طنطا إلى الإسكندرية فالقاهرة.

تفضفض نصرة عن علاقتها المؤلمة مع أبيها العصبي، التى أورثتها الخوف، ونكتشف أحزان النقشبندي، لأن والده كان مشغولا عنهم بالتصوف، ولأنه انفصل عن أمه، فأخذت طفلها إلى بلدها فى طهطا، وتزوجت شخصا آخر.

تسأل نصرة الشيخ عن معنى السعادة فى الأشياء الصغيرة، وتعرف أن حياة الشيخ لم تكن دوما هانئة وميسرة، ذاق الخذلان مثلها، وذاق الإحساس بالظلم، عندما رفض الشجاعى اعتماده منشدا فى الإذاعة، بدعوى أن صوته لا يصلح إلا للموالد، رفضوا أيضا لفترة طويلة أن يعترفوا به قارئا للقرآن.

لم تكتشفه الإذاعة إلا وهو على مشارف الخمسين، حياته كانت شاقة ومليئة بالمصاعب، ذهب إلى طنطا إثر حلم دعاه أن يكون فى جوار السيد البدوي، وهناك بدأ من الصفر مع زوجته وأولاده، ظل دوما وراء حلمه، حتى هوايته فى كتابة الخط العربي، استعاد دراستها بعد أن تجاوز سن الشباب.

نرى النقشبندى بالعمق وليس من السطح، كإنسان مكافح انتصر على نفسه، وليس كرجل خارق، أو كامل الأوصاف، وهذا أيضا اختيار فنى جيد يتناسب مع المعالجة، لأنه يقرب بين الرجل وبين نصرة، بل ويبدو مع نهاية النص، كما لو أن الشيخ قد صار أبا بديلا لنصرة.

تكتب عنه ببساطة آسرة، تجد فى حياته العائلية مع أولاده، ما افتقدته مع أسرتها، ويعترف لها بدور شيخه محمد سليمان فى إنقاذه من الغرور والكبرياء، وتعالج الرواية كذلك علاقة الشيخ بزوجته الثانية هنية بكل جرأة.

اختار النقشبندى التصوف والذكر، عرف موهبته، وعمل عليها، رغم أنه لم يدرس المقامات الموسيقية، كان فى قلب الحياة الواقعية، وفى قلب الحياة الروحية معا.

أما نصرة المهزومة فقد انتصرت أخيرا بأن واجهت نفسها وضعفها، وبأن أدركت حتمية الاختيار، وقهر الخوف.

رواية مميزة حقا، لعلها تدفع صناع الدراما إلى تحويلها لمسلسل أو فيلم، فالرجل حياته ملهمة وشيقة، تماما مثل أعماله وابتهالاته الخالدة.

أضف تعليق

إعلان آراك 2