"جنائن معلقة".. أمريكا الجنة والنار

"جنائن معلقة".. أمريكا الجنة والنارمحمود عبد الشكور

الرأى12-1-2024 | 22:44

هذا فيلم مثير جدا للاهتمام شكلا ومضمونا، وعلى الرغم من بعض الملاحظات، إلا أننا أمام تجربة جريئة، تطرح تساؤلات مهمة حول نتائج ما مر به العراق من محن وكوارث واحتلال، بالإضافة إلى تحليل ازدواجية وسلبيات المجتمع العراقي، والشخصية العربية على وجه العموم، ومناقشة تابوهات الجنس والدين والسياسة، عبر قصة إنسانية طريفة.

الفيلم بعنوان "جنائن معلّقة" للمخرج العراقى أحمد ياسين الدراجي ، فى أول أعماله الروائية الطويلة، وفى إنتاج عراقى بريطانى مصرى فلسطينى سعودي، حيث يظهر اسم محمد حفظى فى عناوين الفيلم كمنتج مشارك، واشترك الفيلم فى مهرجانات كثيرة، على رأسها مهرجان فينيسيا، حيث أصبح أول فيلم عراقى يشترك فى هذا المهرجان الكبير، كما حصل "جنائن معلّقة" على عدد من الجوائز الهامة فى مهرجانات أخرى مثل مهرجان مالمو فى السويد ، والبحر ألأحمر فى السعودية.

لكن أهم من الجوائز والمشاركات قراءة الفيلم نفسه، الذى يتابع حياة شقيقين هما طه (28 سنة)، وأسعد (11 سنة)، اللذين يعملان فى مجال فرز القمامة فى مكان ضخم لتجميع النفايات فى ضواحى بغداد، يطلقون عليه من باب السخرية اسم " الجنائن المعلقة "، والأحداث تدور فى العام 2021، حيث يعثر أسعد على دمية جنسية من مخلّفات قاعدة عسكرية أمريكية، وبسبب هذه الدمية تتغير حياته، وتتبدل علاقاته مع أخيه طه، الذى يرفض وجودها، فيهرب بها أسعد، ويتفق مع صديقه أمير، بأن يستخدما الدمية فى تنظيم تجارة دعارة متنقلة، لإشباع حاجات مراهقى بغداد، مقابل مبالغ مادية.

هذا هو محور الحكاية، التى تصنع مستويات مدهشة فى تحليل المجتمع العراقى ماضيا وحاضرا، وبالتحديد فى العلاقة مع أمريكا التى احتلت العراق، فبالإضافة إلى التفصيلات الواقعية، باكتشاف عالم النفايات، وأباطرة المهنة، وخاصة رجل يطلقون عليه الحاج، تباع له القمامة، وينتقى من مخلفات الجيش الأمريكى أشياء غالية الثمن، وبالإضافة إلى رصد ما يعانيه الشباب من بطالة وكبت، مع التركيز على حياة أسعد، الذى قتل الأميركان والده، ومحنة شقيقه طه، الذى لم يجد عملا سوى فى مجال القمامة، والذى يتلصص على جارته، دون أمل فى أن تتجاوب معه، بسبب ظروف فقرة وعمله، فإن هناك مستوى مجازيا واضحا للحكاية، لأن ظهور دمية السيليكون الجنسية، يمثل حضورا لافتا ل أمريكا لدى الأجيال الجديدة، فأسعد يرى فيها حاضنة تعوض يتمــــه، وغياب أمــــه، والمراهقون سـعداء بأن يشعروا برجولتهم مع فتاة تشبه الأمريكيات، حتى لو كانت دمية، وكأنه انتهاك مضاد للاحتلال، إضافة الى إشباع رغباتهن، ولكن هذه اللذات المختلسة، سرعان ما تتحول إلى مأساة، حيث يضطر أسعد، الذى لا يعرف للسعادة طعما، بعد مقتل صديقه أمير، الذى عاش ومات مهمشا وصعلوكا، إلى إحراق الدمية، والتخلص منها.

هذا المجاز يترجم معنى " أمريكا الجنة والنار"، وهو بالمناسبة عنوان لكتاب قديم لمصطفى أمين، ويؤكد أيضا بأن أمريكا، ممثلة فى دميتها الجنسية، قادرة على تخريب حياة الأجيال اللاحقة، مثلما قتلت والد أسعد.

ولكن السيناريو الذى كتبه أحمد ياسين الدراجى ومارجريت جلوفر، لا يلقى بالمسئولية على المحتل فقط، ولكنه يشير إلى تناقضات كامنة فى المجتمع العراقي، وفى الشخصية العربية، التى تعانى من الازدواجية، والمعلّقة بين الانفلات والتزمت، وشخصية مثل الحاج نموذج واضح لاستخدام قناع الدين والتقوى، بينما يبدو مستغلا وجشعا، وقادرا على التنكيل والتدمير، كما أن تناقضات التزمت والانحلال، تتضح فى شخصية مراهق متزمت، ينقلب على أسعد وأمير، رغم ذهابه لمكان لقاء الدمية الأمريكية.

ولكن رغم تماسك البناء بشكل عام، والنجاح فى اختيار المعادل الفنى المجازى والواقعي، ورغم جرأة التحليل والانتقاد الساخر، إلا أن هناك ملاحظات أساسية، أبرزها عدم التأسيس الجيد للشخصيات، مما جعل سلوكها متناقضا، فالمنطقى والمتسق مع مراهقة أسعد، أن ينتهك الدمية مثل أقرانه، لا أن يرفض لمسها، وأن يتجاهل فكرة الأم، فى مقابل قوة رغبته فى اكتشاف رجولته، والأقرب

لـ طه ألا يرفض الدمية، أو يطلب التخلص منها، لأنه مكبوت أيضا، ولا يستقيم أيضا وفق شخصيته، أن يبتعد فجأة عن التلصص، وأن يستسلم لسيطرة الحاج غير الواضحة، وعقاب الحاج لأمير يبدو أيضا أقسى مما يحتمل الموقف، وإحراق أسعد للدمية كذلك يظل ملتبسا، مثل موافقته على أن تشبع الدمية حاجات مراهقى بغداد الجنسية، وأن يرتزق من ذلك، فكيف يمكن أن تذكره بأمه ثم يبيعها مقابل المال وإنقاذ نفسه، ثم يحرقها بعد ذلك؟

هناك فوضى حقيقية فى بناء الشخصيات، وضبط دوافعها، يضاف إلى ذلك غموض أنشطة الحاج، وغموض علاقته مع طه وأسعد، ورغم براعة مجاز الدمية تحديدا، إلا أن هناك رموزا أخرى مباشرة وساذجة، مثل وضع علم العراق الملطخ بدماء المتظاهرين على عربة الدعارة المتنقلة، فى إشارة واضحة لانتهاك تضحيات الشهداء، ولا نظن أن تغطية طلاب المتعة بعلم عليه دماء يمكن أن يكون متفقا عليه أو سهلا على مستوى الواقع، ولكنها محاولة لانتقاد السياسة، وللحديث عن استغلال الدين، بتداعيات عبارة "الله أكبر" المكتوبة على العلم، ثم الإشارة إلى التابوه الجنسي، بما يفعله المراهقون مع الدمية. الفكرة جيدة حقا، ولكن رمزية العلم مباشرة للغاية.

يبدو لى كذلك أن علاقة أسعد وأمير هى الأساس، وهى العنوان الأقوى للدراما، ولذلك كان لابد أن تكون فى المقدمة، وتصبح علاقة أسعد مع طه فرعية، بدلا من أن تستأثر هذه العلاقة بالربع الأول من الفيلم.

ولكن الفيلم امتلك كثيرا من الحيوية فى أوقات كثيرة، بالذات فى تقديم مشاهد قوية ومؤثرة، مثل مشهد إحراق جنين عثر عليه أسعد وطه وسط النفايات، وهو مشهد يمهد لمشهد النهاية المميز بإحراق الدمية، فالجنين الميت فى القمامة يعبر عن ثمن البشر الرخيص، بينما الدمية المحترقة تجسد ردا مجازيا على الاحتلال، أحد أسباب انهيار المجتمع، وإهانة البشر.

من المشاهد الساخرة المؤلمة أيضا، طابور المراهقين فى انتظار دورهم أمام عربة الدمية الجنسية، المشهد بأكمله مصوّر فى نهاية اليوم، وعكس نور الشمس، بحيث ظهر المراهقون مثل الأشباح السوداء.

أحمد ياسين الدراجى فى أول تجاربه فى مجال الأفلام الروائية الطويلة، يثبت أنه مخرج واعد، أجاد اختيار ممثليه، وأفضلهم الصبى حسين محمد جليل فى دور أسعد، وهو نجم الفيلم بلا منازع، ثم وسام ضياء فى دور طه، وأكرم مازن فى دور أمير، والمخضرم جواد الشكرجى فى دور الحاج، كما أن الفيلم يضم عناصر فنية كثيرة مميزة، وخصوصا التصوير (دريد المنجم)، والموسيقى والملابس والتصميمات الفنية والإكسسوارات.

هذا حصاد الاحتلال والتناقضات والنفاق والفشل والكبت والبطالة: حدائق بابل المعلقة اختفت لتفسح المجال لجنائن النفايات المعلّقة، وعدة أجيال ممزقة بين الكبت والفساد، ومشاهد الدمية الأمريكية فوق ناقلة جنود قديمة، تذكرنا ببلاغة بأن وصمة الاحتلال وكوارثه، تبقى حاضرة ومؤثرة، على مدى الأجيال، رغم مرور الأعوام والسنين.

أضف تعليق