طحن العظام وتدمير الأوطان

لم تتوقف عملية اختيار الضحايا عند حد معين فالحروب النفسية من الحروب طويلة الأمد، نظرًا لكونها تعتمد في المقام الأول على السيطرة على عقول العناصر والشعوب المستهدفة؛ لتسير فى الاتجاه المحدد لها دون إدراك أنها مُسيَّرة وليست مُخيّرة.

الأمر الذي جعلها باتت من أخطر الحروب فى ظل تنامي وتنوع الأدوات المستخدمة على مسرح العمليات المستهدَف.

فلم يعد إلقاء المنشورات من الطائرات فى أراضي الخِصم أو عبر أثير الإذاعات الموجهة أو المحطات التليفزيونية هو السبيل الوحيد للوصول إلى الضحايا.

فقد كانت تلك الأساليب والوسائل تواجه مجموعة من التحديات أبرزها عمليات الإعاقة لوضوح إرسال تلك الإذاعات أو المحطات التليفزيونية للجمهور المُستهدَف.

أو عدم قدرة الطائرات المحمّلة بالمنشورات على الوصول إلى سماء الخصم نظرًا لدفاعاته الجوية التي تتصدى لها.

لكن مع التطور الكبير فى وسائل الاتصال بات الوصول إلى جمهور المستهدفين أكثر سهولةً ويسرًا، بل التأثير على سلوكيات الشعوب وطمس هويتها والتأثير على الموروث الأخلاقي لديها أصبح أكثر دقة، فى ظل الذكاء الاصطناعي وما شهده من تطور بلغت قدرته على تحديد السلوكيات المبنية على بيانات الشعور لدى المستخدمين، فإيموشن الحزن أو الفرح أو الاحتفال أو المرض أو السعادة كل منها يتم تحليله للوصول إلى قرارات مناسبة تستهدف الخصم.

فى يونيو عام 2012 قام أكثر من 16 باحثًا أمريكيًا بدراسة حالة حول مراقبة سلوكيات الشباب عام 2011، وجاءت نتائج الدراسة في 166 ورقة استعرضت خلالها المشكلة ومدى تأثر الشباب بمواقع التواصل الاجتماعي وتأثيرها على الحالة النفسية للمستخدمين.

الدراسة رغم أنها لم تأت ضمن الدراسات الخاصة بالحروب النفسية أو دراسات الأمن القومى، لكنها إشارات إلى نقطة مهمة وهي كيفية السيطرة على سلوكيات الأفراد والمجتمعات عن بعد؟! فتستطيع أن تصيب مجتمعًا بأكمله بحالة من فَقدِ الثقة وانهيار الأخلاق بداخله من خلال عدد من الرسائل.

أو تمنحه ثقة فى شخصيات ترفع من الروح المعنوية لديه فتجعله قادرًا على مواجهة أي من التحديات.

لم تكن تلك الدراسة فقط هي التي تعرضت لتلك النقطة بل جاءت ورقة بحثية بعنوان «كيف تختار الضحية» لـ«KLAUS ABBINK» لتكشف جزءًا مهمًا من تطورات الحروب النفسية ودورها فى تدمير الشعوب من الداخل.

إنها أكبر وأقوى عملية طحن لعظام الشعوب وتفكيك الأوطان، وأخطر ما في تلك المراحل من الحروب النفسية هو تدمير الشعوب ذاتيًا دون خسائر بشرية أو اقتصادية لدى الخصم.

في العددين السابقين، تعرضت لعمليات خلخلة الشعوب التي تأتي ضمن تلك المسارات للحروب النفسية وتوقفت عند ما حدث في المنطقة ما بين 2011 و2013 وكيف أن الشعب المصري في يونيو 2013 أعاد المشهد إلى المسار الصحيح بعكس كل توقعات مخططي الحروب النفسية، ليثبت المصريون أن الرهان عليهم دون غيرهم دائمًا غير خاسر.

بل إن كل النظريات تتحطم على إرادتهم، فعلى الرغم من استمرار عمليات التمهيد لمثل تلك التحركات والأحداث على مدى 38 عامًا للوصول إلى أحداث 2011 إلا أنه في 2013 كانت المفاجأة، أن الشعب كما حقق نصرًا غير متوقع فى أكتوبر 1973 هو من أعاد السفينة إلى مسارها الصحيح رغم انحرافها عن المسار في منطقة مضطربة.

الأمر الذي دفع بأدوات قوى الشر إلى اللجوء للسيناريوهات البديلة عقب ثورة يونيو 2013 لتشمل توجيه الحروب على عدة محاور، فقد تبين أن عدم سقوط الدولة المصرية في الفوضى عقب 2011 كان بمثابة عقبة قوية أمام سيناريو إعادة تقسيم دول المنطقة العربية.

كما كان حجر عثرة أمام توسع سيناريو الفوضى وإسقاط دول جديدة من الدول العربية غير الدول التي سقطت أنظمتها أوائل عام 2011.

تأكد مخططو الحرب النفسية أن الأمر يحتاج إلى تدخل أدوات أخرى مع التركيز على الدولة المصرية التي يصفها العرب بعمود الخيمة للمنطقة العربية، ومحور أمن واستقرار المنطقة، وحائط الصد المنيع أمام أي محاولات للمساس بالأمن القومي العربي.

ففي 2014 ارتفعت حدة العمليات الإرهابية لتقديم صورة إلى العالم بعدم قدرة الدولة على تحقيق الاستقرار والأمن، كما بدأت أكبر عملية ممنهجة لنشر الشائعات.

كما واصلت عناصر تنظيم الإخوان الإرهابي التظاهر في بعض المناطق تحت شعار ذكرى فض اعتصام رابعة تلك الحسينية المكذوبة التي عملوا على استخدامها للترويج لأكاذيبهم وكسب تعاطف الشعب الذي لفظهم وأعاد سفينة الوطن إلى مسارها الصحيح.

عملت عناصر ذلك التنظيم الإرهابي على تدمير بعض مرافق الدولة خاصة فى قطاع الكهرباء عقب الثورة الشعبية في يونيو 2013، وبلغت خسائر ذلك القطاع ما يقرب من 900 مليون جنيه ما بين تدمير أبراج الكهرباء وتدمير المحولات وأكشاك الكهرباء لإرباك الدولة.

كما عملت آلة نشر وترويج الشائعات على إنتاج أكبر كم من الشائعات خلال الفترة من يونيو 2013 وحتى الآن، فعلى سبيل المثال وبحسب تقرير لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات إن حجم الشائعات بلغ فى ثلاثة أشهر أكثر من 53 ألف شائعة، وبلغ عدد الحسابات المستعارة على مواقع التواصل الاجتماعي 10 ملايين حساب، من بين 65 مليون حساب على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر.

حيث تستخدم الحسابات المستعارة كإحدى ماكينات إنتاج الشائعات من أجل وقف تحرك الدولة المصرية فى الاتجاه المحدد لها، فبدأت عمليات التشكيك فى نتائج أول مشروع قومي للدولة المصرية فى 2014 عندما أعلن الرئيس بدء حفر قناة السويس الجديدة، وبدأت أدوات الإعلام لقوى الشر من قنوات فضائية ومواقع إلكترونية وصفحات على مواقع التواصل وحسابات شخصية تشن هجومًا على المشروع، خاصة بعد أن توحد المصريون خلف قرار الرئيس بالبدء في تنفيذ المشروع بأموال المصريين وقدموا صورة أشبه بصورة المصريين عندما اصطفوا لدعم المجهود الحربي خلال حرب أكتوبر، وقدم المصريون 64 مليار جنيه من خلال شراء شهادات قناة السويس خلال 8 أيام، مشهد أعاد للشعب المصري لُحمته الوطنية ووحدته خلف الدولة، بعد أن كانت عمليات استهداف تفتيت الجبهة الداخلية كادت تؤتي ثمارها.

بعدها قامت آلة إنتاج الشائعات من أجل الوصول إلى الهدف بإحداث انقسام داخل المجتمع فبدأت عملية التشكيك في أهمية المشروع وجدواه وأثره البيئي وكذا الحديث عن انهيار المشروع وفق دراسات مزعومة لمراكز بحثية ليس لها وجود سوى فى أذهان صانعي الشائعات.

ليكتمل المشروع خلال العام المحدد له وتظهر نتائجه خاصة أن تأخير تنفيذ المشروع كان سيكلف الدولة المصرية ثلاثة أضعاف التكلفة التي تمت، كما سيجعلها غير قادرة على الاستفادة من إعادة إحياء طريق الحرير البحري، في ظل تنامي التجارة الخارجية للصين وصولاً إلى دول جنوب أوروبا عبر قناة السويس، وهو ما ظهر من خلال عائدات قناة السويس والتي كان متوقع أن تصل إلى 10.5 مليار دولار في عام 2023/ 2024 لولا ما يحدث فى منطقة مضيق باب المندب (المدخل الجنوبي للبحر الأحمر) عقب الحرب الإسرائيلية على غزة وانخفاض حجم عبور السفن للبحر الأحمر.

لقد بلغت إيرادات قناة السويس بسبب التفريعة الجديدة وتقليل زمن العبور وقدرة القناة على مواجهة التحديات فى العام المالي 2022/2023 أكثر من 9,4 مليار دولار لتقترب من ضعف حجم إيرادات القناة قبل المشروع.

كما تم استهداف الدولة المصرية بزيادة حِدة التوترات واشتعال كل الاتجاهات الاستراتيجية الجنوبية والغربية والشمالية الشرقية، بالإضافة إلى عملية إحداث حالة من التوتر فى الاتجاه الشمالي بعد نجاح مصر فى ترسيم الحدود البحرية بينها وبين اليونان، وبينها وبين قبرص، وكذا ترسيم الحدود البحرية في البحر الأحمر بينها وبين السعودية، واكتشاف غاز شرق المتوسط وأيضًا إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، لتصبح مصر مركزًا إقليميًا للطاقة، خاصة بعد البدء فى مشروع مد خط أنابيب نقل البترول بين العراق والأردن ومصر، الأمر الذي جعل عملية استهداف الدولة المصرية هدفًا لقوى الشر من أجل تركيعها، وهو الأمر الذي حال دونه الرؤية التي اتخذتها الدولة خلال برنامج الإصلاح الاقتصادي وكان المواطن المصري وقدرته على التحمل واصطفافه خلف الدولة أحد أهم نقاط القوة فى مخطط التركيع الاقتصادي لمصر.

كما تم العمل من جانب قوى الشر على استهداف زعزعة أمن واستقرار الدولة ووقف مسيرة البناء من خلال العناصر الإرهابية من جانب، ورفع حدة التوتر فى المحيط الإقليمي للدولة المصرية وما نتج عنه من آثار، منها زيادة أعداد اللاجئين الذي تحرص الدولة المصرية على وصفهم بـ(الضيوف) فقد بلغت أعدادهم ما يزيد على 9 ملايين شخص، جميعهم رغم ما تتحمله موازنة الدولة المصرية من تبعات نظرًا لأنهم يتمتعون بما يتمتع به كل المصريين؛ إلا أن الدولة لم تنشئ أو تقيم مخيمًا واحدًا للاجئين كما تفعل العديد من الدول الكبرى.

إن ما تواجهه الدولة المصرية من استهداف لم تشهده دولة على مستوى العالم، لم تكن هناك دولة تواجه توترًا على كل اتجاهاتها الاستراتيجية الأربعة، في ظل أزمات اقتصادية متلاحقة عالميًا استخدمتها قوى الشر من أجل تركيع الدولة المصرية بعد أن تم استهداف موارد العملة الأجنبية، ومنها السياحة التي تأثرت بشكل كبير عقب حادثة سقوط الطائرة الروسية أكتوبر 2015، لينخفض حجم السياحة الوافدة بشكل كبير خلال الأعوام 2016 وحتى 2018، وما لبثت أن تتجه ناحية التعافي حتى جاءت جائحة كورونا لتعيد التأثير عليها من جديد ثم الحرب الروسية الأوكرانية.

فى الوقت ذاته انخفضت تحويلات المصريين فى ظل تنامي غير مسبوق للسوق الموازية للعملة الأجنبية، وكان الهدف هو تركيع الدولة لكن القرار جاء فى الوقت المناسب بتحرير سعر الصرف الذي التهم السوق الموازية وأعاد الاستقرار إلى سوق الصرف رغم التحديات.

وقد ارتفعت خلال السنوات الماضية حِدة الشائعات وجاء القطاع الاقتصادي فى مقدمة القطاعات المستهدفة، فما بين شائعات نقص المواد الغذائية أو التلاعب بأسعار السلع الأساسية من أجل خلق حالة شعبية يمكن من خلالها الدفع بالشعب باتجاه الهدف غير المعلن وهو الفوضى للوصول إلى الهدف المحدد، هو طحن عظام الشعوب وانهيار وتدمير الدولة.

الأمر الذي يظل وعي الشعب المصري هو حجر العثرة أمامه.

لقد حظى القطاع الاقتصادي بأكثر من 54% من حجم الشائعات، وهو ما يكشف حجم استهداف قوى الشر للدولة المصرية من أجل خلخلة الكتلة الصلبة التي تعد بمثابة الأمان الحقيقي للحفاظ على الدولة.

فما دام الشعب على قلب رجل واحد خلف قيادته في مواجهة التحديات تظل التحركات باتجاه تفكيك الدولة من الداخل ليست سوى تحركات شيطانية.

كما أن تطورات الأوضاع فى قطاع غزة على الحدود الشمالية الشرقية للدولة يستوجب علينا أن ندرك أنها أحد محاور التحرك لقوى الشر خلال الفترة الحالية، من أجل التشكيك في قدرة الدولة المصرية على حماية أمنها القومي ونشر الشائعات.

الأمر الذي يستلزم منا جميعًا الانتباه لخطورة السير وراء الشائعات أو ترويجها خلال الفترة الحالية، ولنتذكر ما حدث في الأول من يوليو 2015 من محاولة لهزيمة الشعب المصري معنويًا، وكان الرد القاطع في بيان المتحدث العسكري مساء ذلك اليوم الذي كشف حجم المعركة التي خاضها الأبطال من رجال القوات المسلحة، قضى فيها على أكثر من 100 عنصر إرهابي، كما قضى على حلم إعلان ولاية سيناء من قبل قوى الشر وعناصرها الإرهابية.

إنها قوة الدولة المصرية وقوة سيفها ودرعها الواقية (القوات المسلحة) التي حطمت كل الأطماع في النيل من هذا الوطن أو المساس بأمنه واستقراره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رجل صناعة
من طراز رفيع
أهداني الدكتور مهندس نادر رياض نسخة من كتابه «محطات فى حياة رجل صناعة» والذي أعتبره بمثابة كتالوج ومسار يمكن أن يتخذه شباب الأعمال طريقًا للوصول إلى تحقيق الحلم.

تفاصيل ما جاء فى الكتاب من حياة الدكتور نادر رياض تجعلك تتوقف عند محطات كثيرة لهذا العملاق من عمالقة الصناعة المصرية ممن لهم بصمة واضحة، فصنعوا تاريخًا ذاخرًا بالفعاليات والأحداث ليضعوا علامة مضيئة في تاريخ الصناعة.

أضف تعليق

الاكثر قراءة

تسوق مع جوميا
إعلان آراك 2