يقدم الفيلم التونسى " بنات ألفة " سيناريو وإخراج كوثر بن هنية قراءة سينمائية جيدة، مهمة ومؤلمة، لظروف سيدة عادية، صارعت ظروفها الصعبة وحاولت أن تغير حياتها وحياة بناتها الأربع، غفران ورحمة وآية وتيسير إلى الأفضل ولكنها فشلت، ووصلت رحلة التخبط إلى ذروتها بهروب ابنتيها غفران ورحمة من تونس إلى ليبيا والتحاقهما بتنظيم داعش في صبراته في ليبيا، بل إن غفران تزوجت من قائد التنظيم، وأنجبت منه طفلة عمرها اليوم 8 سنوات، وحكم على غفران ورحمة بالسجن لمدة 16 عاما.
ولكن حكاية داعش ليست سوى الجملة الأخيرة فى الحكاية، الفيلم يتجاوز ذلك إلى تحليل ظروف المرأة الفقيرة والمعيلة فى تونس، والنظرة عموما إلى المرأة فى المجتمعات الذكورية الشرقية، وهى من الموضوعات التى تهتم بها المهرجانات الأوربية والعالمية، وعرض الفيلم فعلا فى المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2023، كما ترشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبى، ووصل بالفعل إلى القائمة القصيرة، وفاز بجائزة سيزار لأفضل فيلم تسجيلى، لأن فرنسا مشاركة فى الإنتاج مع ألمانيا و السعودية .
ولكننا نظلم كوثر بن هنية إذا قلنا إنها تصل إلى مهرجانات وجوائز كبيرة؛ لأنها تختار فقط موضوعات يهتم بها الغرب، فالأهم أنها مخرجة جيدة، تتمتع بجرأة فى اختيار معالجة موضوعاتها، وتبحث عن معادل فنى مختلف وطموح، وفيلمها " بنات ألفة " مثلا يقدم نموذجا لفيلم الدكيودراما، حيث يقوم السيناريو على الجمع بين ألفة وبنتيها آية وتيسير، وبين ممثلات تؤدين أدوارا أخرى، مثل ألفة نفسها، التى تلعبها هند صبرى، وتلعب ممثلتان شابتان دورى غفران ورحمة السجينتين الآن فى ليبيا، كما تظهر مشاهد تمثيلة أخرى لزوج ألفة، ولرجل أحبته اسمه نسيم، ولرجل أمن لجأت إليه ألفة لإنقاذ بنتيها من الإنتماء الى الدواعش.
يحقق هذا المزيج بين التمثيل وحديث ألفة وبنتيها آية وتيسير بشكل مباشر إلى كاميرا المخرجة، أكثر من هدف، أولها بالطبع كسر الإيهام على طريقة بريخت، وإتاحة الفرصة للتأمل، بينما يؤدى التمثيل إلى التأثير العاطفى والافتعالي، بدعم من موسيقى أمين بوحافة، التى أجيد توظيفها بشكل محدد فى مشاهد بعينها، أى أن كوثر بن هنية أرادت الجمع بين العاطفة والتأمل، ومنذ أول لقطة تظهر لوحة الكلاكيت، وطوال الوقت تتناقش هند صبري والممثلات والممثل الرجل مع ألفة الحقيقية وبنتيها، فكأن الحكاية صارت تخص الممثلين والممثلات أيضا باعتبارهم أبناء المجتمع التونسي، ونشاهد هند صبرى وهى تبكى مع ألفة الحقيقية وتشاطرها محنتها، مما خلق حالة من الحميمية، وأذاب الفوارق بين التمثيل والحقيقية، خصوصًا أن ألفة وبنتيها يمثلن بأنفسهن أيضا بعض المشاهد اللاتى عاشوها، بالإضافة إلى سردهن المباشر فى مواجهة الكاميرا.
هنا مغامرة فنية لامعة ومدهشة، تريد أن تجعل المتفرج يتأثر ويفكر فى نفس الوقت، وقد تحقق ذلك إلى حد كبير، كما أن التفاعل الطبيعى بين ألفة وبنتيها وبين الممثلات المحترفات خفّف كثيرا من قتامة الحكاية، بمشاهد عفوية ومرحة وضاحكة، وتحكمت كوثر بشكل جيد فى الجو العام، وفى الانتقال من المرح إلى الشجن ثم إلى البكاء وبالعكس، وتحكمت كذلك بشكل معقول فى المحافظة على التأثير العاطفى من ناحية، وعلى تلك المسافة التى تجعلنا نفكر ونتأمل فى الظروف والأحوال، وكان الحوار بين الممثلات والشخصيات الحقيقية فى جوهره ترجمة ذكية لهموم وأحوال المرأة وأحلامها وظروفها، رغم اختلاف المهنة والظروف والطبقة الاجتماعية والاقتصادية.
لم يخدش هذا الطموح الفنى سوى ذلك التفاوت الهائل بين ألفة الحقيقية وبنتيها آية وتيسير وحيويتهن وصدقهن وبساطتهن وبين الممثلات المحترفات بمن فيهن هند صبرى، فرغم اجتهاد هند وتأثرها واجتهاد الممثلات اللاتى لعبن دورى غفران ورحمة، إلا أن ألفة وبنتيها كن أفضل من كل الوجوه، وهى ملاحظة مهمة وأساسية وواضحة.
بالمقابل، نجح السيناريو فى تحليل شخصية ألفة وبناتها، فقد نشأت ألفة فى أسرة فقيرة ومنذ طفولتها، أدركت مشكلة أن تكون أنثى، فتعمدت أن تقص شعرها وأن تلعب الكرة مع الأولاد، وصارت شخصية قوية، ولكنها تزوجت بشكل تقليدي، وفى ليلة زفافها ضربت زوجها، ونراها وهي تتحدث بكل صراحة عن تفصيلات حياتها الزوجية الجافة الخالية من العواطف والرومانسية، التى اقتصرت على إنجاب أربع فتيات، وتتحدث بنتا ألفة عن معاملة الأب وشتائمه، ثم انفصاله عن أمهن، التى قررت أن تعمل كخادمة، حتى تنفق على البنات، حتى لا تضطر بناتها للعمل.
تمنت ألفة ألا تنجب بنات، فلما أنجبتهن، صارت تعاملهن بالشدة والمراقبة، بالذات فى مرحلة المراهقة، وبدايات ظهور أنوثتهن الواضحة، لم يخل الأمر من الضرب والشتائم، ولكن الظروف القاسية لم تمنع لحظات كثيرة مرحة بين ألفة وبناتها، مثل لحظات توهم البنات للوجبات الفاخرة، بينما أطباقهن فارغة لضيق الأحوال الاقتصادية.
جزء أساسى من نجاح الفيلم صراحة ألفة وبنتيها آية وتيسير فى حكى كل شيء، بالذات عندما وقعت ألفة فى غرام جزار يدعى نسيم، كان مدمنا واتهم فى جريمة قتل، ومع ذلك عاش مع ألفة فى البيت، وتحرش ببناتها، ثم جاءت مرحلة انخراط البنات فى الحفلات الراقصة، وظهور التيارات السلفية بعد ثورة تونس ، واستهدافها تحجيب الفتيات، ونجحوا فعلا فى تحجيب ألفة وبناتها الأربع، وبدأت غفران ورحمة تحديدا فى التطرف، إلى درجة أن رحمة كانت تجلد شقيقتيها الأصغر إذا تغافلتا عن أداء الصلاة، ومع ذهاب ألفة للعمل كخادمة فى ليبيا، أخذت بناتها معها، وهناك هربت غفران ورحمة، وانضمتا إلى داعش، وفشلت ألفة فى استردادهما، وفوجئت بالقبض عليهما، وسجنهما، كما فوجئت بانجاب بنتها الكبرى غفران من زوجها أمير داعش فى صبراته لبنت صغيرة اسمها فاطمة.
يمكن أن نقرأ الفيلم باعتباره فشلا للأم فى تربية بناتها، وفى تكرار مأساتها الشخصية، بسبب ظروف اجتماعية واقتصادية قاسية، نتيجة وضع المرأة عموما، رغم المكاسب التى تحقق لها فى تونس بالذات، ولكن الفقيرات لا يزالن سجينات العادات والتقاليد والفقر والقهر.
ولكن يمكن أن نقرأ مأساة ألفة أيضا باعتبارها غيابا لدور الزوج أو الأب أو العاشق، ومن الأمور الذكية اللافتة إسناد أدوار الزوج والعاشق ورجل الأمن التونسى لممثل واحد، فكأن الرجل يلعب دورا سلبيا فى حياة ألفة وبناتها مهما تعددت الوجوه والوظائف، ولا تغيير أبدا فى صورة الرجل السلبية، فإذا أضفنا إلى ذلك دور رجال داعش، وخطباء السلفيين الرجال فى تطرف غفران ورحمة، فإن مأساة ألفة هى محصلة ظروفها ونتيجة التربية ونتيجة الدور السلبى للرجال فى حياتها ونتيجة ظروف المرأة الفقيرة على وجه العموم، وإن كان الفيلم يتهم أيضا المسئولين، وحكومة حزب النهضة الإخوانية بالسكوت عن التطرف، وعن الأئمة فى المساجد، ورجل الأمن التونسى يلمح إلى أوامر متغيرة يتحرك بموجبها، سواء بمطاردة المتطرفين أو بالصمت إزاء نشاطهم، ونراه يهدد رحمة كرجل بمنتهى العنف الجسدى.
ومع ذلك، فإن آية وتيسير أنقذتا من خلال مركز لإعادة التأهل، بعد أن كن تسيران على طريق التطرف مثل غفران ورحمة، وكان ذكيا أيضا أن ينتهى الفيلم على وجه فاطمة الصغيرة ابنة غفران، كيف سيكون مستقبل هذه الطفل وأمها وخالتها رحمة فى السجن، بينما تعيش أمها وخالتيها الأصغر سنا آية وتيسير فى تونس ؟
نجح " بنات ألفة " فى إثارة الأسئلة التى ستطاردك حتى بعد مشاهدته، نقل المأساة والروح المرحة والحميمة لبطلاته، وجعلنا لا نستطيع إدانة ألفة تماما، بل نتعاطف مع قوتها ورغبتها فى أن تخلق بنات قويات، ولكنها تبدو فى النهاية مثل بطلة تراجيدية، تحملت فوق طاقتها، سواء مع ظهور الدواعش فى ليبيا، أو مع أى ظروف أخرى، فإن المشكلة فى الطريقة التى يتعامل بها المجتمع مع النساء، بالذات من الطبقات الفقيرة، والمشكلة فى الثقافة الذكورية البائسة، التى جعلت من الزوج والعشيق ورجل الأمن وجوها متعددة لنفس النذالة الذكورية.
ربما يكون سؤال الفيلم الضمنى الأخطر لا يتعلق بحالة ألفة وبناتها، ولكن بالظروف القائمة والمتكررة، وبالإنكار والتجاهل للمرأة ومكانتها، مما خلق وسيخلق ألف مأساة مثل حكاية ألفة، ومما سيخلق ألف فتاة تعرضن للتقلبات والتحولات والمعاناة مثل بنات ألفة.
وأظن أن أسئلة كوثر عن تونس تنطبق مع الأسف على كل المجتمعات العربية، رغم محاولات الإصلاح والثورة والتحديث والتغيير.