السؤال الذي دفعت به إلى عنوان مقالي هذا الأسبوع، يتردد فى أذهان الكثيرين منا نحن أولياء الأمور، ممن فرغت جيوبهم من نزيف أموال عُبئت بها خزائن البعض ممن استفادوا من صناعة ذلك «البعبع» المدعو « الثانوية العامة » والذي بات رعبًا يسكن البيوت ممن لهم آمال فى أن يصبح أبناؤهم يومًا من الملتحقين بمسارات جامعية محددة، مثل المسار الطبي أو الهندسي أو الذكاء الاصطناعي الذي أصبح مؤخرًا أحد أهم المسارات أو العلوم الإنسانية، وهو المسار الذي يتجه إليه الأبناء من الحاصلين على الثانوية العامة بمجموع اعتبره التنسيق لا يؤهلهم للمسارات الثلاثة الأولى، فدفع بهم إلى المسار الرابع مجبرين وقليل منهم من يختارونه عن رغبة حقيقية.
وما دعاني للكتابة فى تلك القضية عدة أسباب منها:
استعداد وزارة التربية والتعليم لإطلاق حوار مجتمعي حول الثانوية العامة بعد أن قدمت مقترحًا جديدًا يستهدف إلغاء التشعيب (الأدبي والعلمي) واستبداله بالمسارات الأربعة.
كما أعلنت الوزارة أنها ستقدم للبرلمان قانونًا خاصًا ب الثانوية العامة وحال الموافقة عليه سيتم تطبيق النظام الجديد مع الاستمرار فى النظام الحالي وهو ما يعد رسالة طمأنة للأسر المصرية.
لكن الأمر الذي دفعني بقوة لمناقشة القضية هو بدء امتحانات الثانوية الأزهرية فى الأول من يونيو الجاري على مستوى الجمهورية (السبت قبل الماضي) فى هدوء شديد ودون حالة من الصخب والتوتر الذي تُحدثه الثانوية العامة، ونعيش أحداث كل لحظة على صفحات الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية وصفحات السوشيال ميديا والقنوات التليفزيونية.
أكثر من 156 ألفًا و392 طالبًا وطالبة موزعين على 590 لجنة من طلاب الثانوية الأزهرية مقسمين إلى قسمين العلمي والأدبي؛ القسم العلمي 32319 طالبًا، و27927 طالبة، وبلغ عدد المتقدمين من القسم الأدبي 59169 طالبًا، و36977 طالبة.
كما أن عدد المواد الدراسية لدى طلاب الثانوية الأزهرية يقترب من ضعف عدد المواد الدراسية لطلاب الثانوية العامة، نظرًا لأن طلاب الأزهر يدرسون المواد الشرعية بالإضافة إلى ما يسمونه بالمواد الثقافية، وهي المواد التي يدرسها طلاب الثانوية العامة بقسميها العلمي والأدبي، ورغم ذلك تجد أن الثانوية الأزهرية تمر دون ضجيج.
بل إننا نجد طلاب الثانوية الأزهرية يتفوقون فى تحصيل الدرجات وتبلغ النسب المئوية لدى الأوائل منهم إلى نسبة 99,8% فى القسم العلمي.
إذًا فما السبب وراء بعبع الثانوية العامة الذي يرعب البيوت ويرهق الجيوب ويرفع درجة الطوارئ فى المنازل وتمنع الزيارات بين الأسر والعائلات ؟!
حالة أشبه بحالة استنفار غير مسبوقة تجدها فى المنازل التي يكون قدرها أحد أبنائها فى الثانوية العامة، وهنا أقصد الصف الثالث الثانوي، لأن طلاب أولى وثانية يكون الأمر أقل حِدة فى الإجراءات عن السنة النهائية.
لكن دعونا لا ننسى أن السنة الأولى والثانية تكون بمثابة استعداد تام للصف الثالث بدءًا من الغياب عن الحضور بالمدارس واستبدالها بالسناتر وانتهاءً بحالة الاستنفار العام لدى الأسرة.
(1) على مدى ما يقرب من نصف قرن والأزمة تزداد شراسة والأوضاع تتفاقم والوزارات المتتالية تبحث عن حل، لكننا فى النهاية نجدنا أمام بعبع يزداد تغولاً لأن معظم الحلول يهدم كل منها الآخر وهي فى الحقيقة ليست سوى تجارب يدفع ثمنها المواطن.
نهاية السبعينيات من القرن الماضي كان المشهد أكثر هدوءًا فى الثانوية العامة، إلا أن الأمر بدأ يأخذ منحنى آخر فى الثمانينيات خاصة بعد أن تحولت الدروس الخصوصية من مسار يتجه إليه الطلاب ممن يحتاجون إلى رفع مستواهم العلمي، إلى حالة مجتمعية ساهم فيها بشكل كبير مجموعات من المدرسين من ضعاف النفوس الذين كانوا يستخدمون أعمال السنة كإحدى أدوات الضغط على الطلاب فى الصفين الأول والثاني الثانوي.
تطور المشهد بعد ذلك فى نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات وأصبحت الأسر تعتبر أن الدروس الخصوصية ضرورة، بعد أن بدأت تظهر أخطر مراحل التسويق للمدرسين، فى ظل شغف الأسر وأحلامهم المرسومة للأبناء لأن يكونوا من الملتحقين إما بكلية الطب أو الهندسة، ومن أجل الوصول إلى ذلك عليهم الدفع بأبنائهم نحو مدرس قام خلال مراجعته للطلاب بطرح بعض الأسئلة والإجابة عنها ثم يتصادف بأنها جاءت إليهم فى ورقة الامتحان فى اليوم التالي، ليصبح ذلك المدرس حديث الجميع ويُقبل عليه الطلاب الجدد ويتحول إلى نجم وكأنه هو من يضع امتحانات نهاية العام ويصبح طابور الحجز لا ينتهي.
فى تلك المرحلة تحولت الدروس الخصوصية من ضرورة لرفع المستوى العلمي لبعض الطلاب من ضعاف المستوى إلى عادة أو تَكئة تدفع إليها الأُسر أبناءها بحثًا عن درجات أعلى فى نهاية العام.
وبالطبع ارتفع التنسيق مع ارتفاع الدرجات لطلاب الثانوية العامة ، ولأن المدرسين ذاقوا طعم الأموال المتدفقة من جيوب المواطنين فى ظل تدني الأجور خلال نهاية التسعينيات من القرن الماضي والسنوات الأولى من القرن الحالي.
أصبحت المدارس الثانوية خاوية، واكتظت ما سميت بالمراكز الخاصة بالدروس الخصوصية، وغابت قدرة الحكومة عن مواجهة الأزمة ووأدها فى مهدها بل تركتها لتزداد تغولاً.
وكان رد المدرسين خلال تلك المرحلة أن الدروس الخصوصية هي حل لرفع المستوى العلمي للطالب نظرًا لعدم كفاية الوقت فى المدرسة أو لكثافة الفصول التي تَحول دون ذلك.
ولم تنتبه الأسر أو الحكومة إلى أن عدد الطلاب فى الدروس الخصوصية لدى المدرس فى الفصل الواحد يفوق ضعف عدد الطلاب فى الفصل المدرسي، ورغم ذلك ليس هناك مشكلة فى تحصيل المواد العلمية.
فلنا أن نتخيل أن عدد الطلاب فى بعض المراكز يصل إلى أكثر من 200 طالب فى الفصل الواحد ويقف مدرس المادة ليشرح لهم الدرس على مدى ساعة أو ساعتين تقريبًا، دون أن نسمع «الكثافة عائق أمام جودة العملية التعليمية».
لكن الفارق هنا أن حصيلة تلك الحصة سوف تتجاوز العشرين ألف جنيه يحصل صاحب المركز على نسبة منها والباقي للمدرس ومعاونيه.
يزداد غول الثانوية العامة قوة فى ظل غياب قدرة وزارة التربية والتعليم على ضبط انتظام العملية التعليمية فى الفصول بالمدارس؛ فى الوقت الذي انتعشت فيه مراكز الدروس الخصوصية خلال العقدين الأخيرين.
لتتنوع إعلانات المدرسين «عملاق الرياضيات ونيوتن الفيزياء وأبوالتاريخ وسقراط الفلسفة» وغيرها من الألقاب التى ما أنزل الله بها من سلطان وتنتشر على الجدران فى الشوارع والأحياء معلنة عن موعد حجز الدروس الخصوصية للعام الجديد.
(2) تذكرت عندما كنا فى المرحلة الثانوية خلال الثمانينات لم يجرؤ طالب منا على الغياب حتى قبل الامتحانات بأسبوعين أو عشرة أيام وذلك فى الصف الثالث، أما فى الصفين الأول والثاني فكان الانتظام فى الحضور بالمدرسة حتى قبل الامتحانات بعدة أيام لا تتعدى أسبوعًا.
نعم كانت ظاهرة الدروس الخصوصية موجودة لكنها لم تصل إلى هذا الحد من نقل المدرسين للعمل خارج المدارس وفى المواعيد الدراسية.
فتجد الآن مواعيد حصص الطلاب فى (السناتر) مراكز الدروس الخصوصية هي نفس مواعيد المدرسة، لأن المدارس فى المرحلة الثانوية باتت خارج نطاق الخدمة.
وبعيدًا عن الوزير الحالي الدكتور رضا حجازي والذي كان نائبًا لوزير التعليم السابق الدكتور طارق شوقي الذي أطلق مشروع تطوير التعليم.. فالمشهد الخاص ببعبع الثانوية العامة يزداد عنفًا، فهناك مستفيدون منه بقوة وعن قصد، والوزارة لا أدري إن كانت ترى ذلك أم لا تراه؟!
فـ مافيا الدروس الخصوصية التي ذاقت طعم أموال أولياء الأمور لن يتم ردعهم إلا بإرادة قوية وقرارات حاسمة، لا أن تكون الوزارة مُعينًا على الخطأ بالترخيص لتلك المؤسسات غير التعليمية لأننا بذلك لا نتجه نحو تطوير التعليم، فمثل تلك المشروعات الوطنية مكانها المؤسسات التعليمية المرخصة لذلك (المدارس) وليست السناتر.
أذكر أن الدكتور رضا عبد السلام ، محافظ الشرقية الأسبق، خلال عام 2015 شن حملة موسعة على مراكز الدروس الخصوصية وأغلق عددًا منها بمدينة الزقازيق وأحال أصحابها للنيابة فكان الرد على ذلك من أولياء الأمور، الذين تظاهروا مدفوعين بحالة شحن وتوجيه قام به مدرسو تلك الـ «السناتر» للتظاهر أمام ديوان عام محافظة الشرقية من أجل إعادة فتح تلك المراكز.
وهنا قد يقول البعض: لديهم حق فى ذلك لأن المدرسة لا تقوم بدورها فى العملية التعليمية خلال المرحلة الثانوية.
فالفصول خاوية من المدرسين قبل الطلاب، وحال وجود الطلاب يكون حديث المدرس لهم «إيه اللي جابكم روحوا ذكروا فى البيت أو شوفوا حصصكم فى السنتر» وهذا واقع للأسف الشديد.
(3) إن الأمر جد خطير فى ظل تنامي بعبع الثانوية العامة والذي ساهم فى صناعته غياب الوزارة عن القيام بدورها فى ضبط العملية التعليمية بالمدارس، فى نفس الوقت غياب الوعي لدى بعض الأسر الذين يسقطون فريسة لرؤية بعض المستفيدين من مراكز الدروس الخصوصية فيصبّون جام غضبهم على الحكومة والمناهج وضرورة تخفيفها، وتم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كأحد أوراق الضغط من جروبات الماميز وغيرها، وتناسينا جميعًا أن هذا الأمر لن يكشف التفاوت فى المستوى التعليمي لدى الطلاب وهو الأمر الطبيعي فى العالم أجمع.
فليس من المنطق أن يكون كل خريجي الثانوية العامة أطباء ومهندسين وصيادلة فالمناهج التعليمية فى كل دول العالم يعتمد واضعوها على كشف التفاوت بين المستوى العلمي والقدرات الذهنية لدى الطلاب ليكون التوجيه بعد ذلك لدخول المسار الذي يستطيع أن يحقق فيه الإنجاز الحقيقي.
إن بعبع الثانوية العامة صنعته مافيا الدروس الخصوصية وغياب العملية التعليمية فى المدارس وسقوط العديد من الأسر تحت سيطرة السوشيال ميديا، ووسائل الإعلام الباحثة عن الترند والمثير.
لمَ لا نسأل أنفسنا للحظة واحدة لماذا تمر امتحانات الثانوية الأزهرية بهدوء؟! أليست نفس المواد الدراسية؟!
إننا صنعنا بأنفسنا أكبر بعبع، لكن للأسف ساهمت معنا فى ذلك جهات أخرى على رأسها وزارة التربية والتعليم التي تركت المنصات التعليمية دون مراجعة حقيقية لتتأكد من اكتمال وجود المواد التعليمية عليها من عدمه، أو تراجع العملية التعليمية فى المدارس بشكل حقيقي لا من قبيل كله تمام وهو فى الواقع لا يعرف عن التمام شيئًا.
كما ساهمت فيه أيضًا وفى المقدمة مافيا الدروس الخصوصية.
لماذا ألغت الوزارة من «تابلت» طلاب الثانوية تحليل درجات الطلاب فى الصفين الأول والثاني الثانوي؟! والتي كان من الممكن ان تسترشد بها الأسر فى توجيه أبنائها نحو المسار الصحيح.
حكومة الدكتور مدبولي الجديدة بين الثقة والطموحات جاء تكليف الرئيس عبد الفتاح السيسي للدكتور مصطفى مدبولي بتشكيل الحكومة الجديدة ليعبر عن ثقة القيادة فى قدرة الدكتور مدبولي ونجاحه فى إدارة العديد من الملفات ومواجهة التحديات خلال الفترة القادمة، كما نجح فى العديد من الملفات خلال الفترة الماضية رغم الأوضاع الإقليمية المضطربة وتأثيرها على الدولة المصرية وكذا تطورات الأوضاع الدولية، وما كان لها من آثار سلبية على اقتصاديات الدول الناشئة.
كما أن تشكيل الحكومة الجديدة لا بد أن يراعي الملفات التي تلبي طموحات المواطن، فبعض الحقائب الوزارية فى حكومة الدكتور مدبولي المستقيلة لم يكن وزراؤها موفقون فى إدارتها بالشكل الذي يلبي طموح المواطنين مما ساهم فى زيادة حدة الأزمات.
الحكومة الجديدة التي سيشكلها الدكتور مدبولي بالتأكيد سيكون عليها عبء إصلاح بعض الملفات لتخفيف حِدة الأزمات التي تحملها المواطن، كما أن عليها امتلاك حلول خارج الصندوق لمواجهة الأزمات.