تحليل: تداعيات إعلان واشنطن الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية

تحليل: تداعيات إعلان واشنطن الانسحاب من معاهدة الصواريخ النوويةتحليل: تداعيات إعلان واشنطن الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية

* عاجل16-11-2018 | 08:21

وكالات
أثارت قضية إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب اعتزام بلاده الانسحاب الأحادى من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى مع موسكو، كثيرا من اللغط والجدل والسياسى، فبعدما كان من المقرر أن يعقد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين لقاء قمة في باريس
وجرى تأجيل القمة الفعلية إلى أواخر نوفمبر الحالى، بعد تغيير وجهتها لتصبح فى العاصمة الأرجنتينية "بيونيس آيرس".
ولعل التزامن بين إعلان ترامب اعتزام بلاده الانسحاب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى، وإعلان فرنسا إنشاء جيش أوروبى مشترك، يحمل الكثير من الدلالات والتفسيرات بشأن الأمن والاستقرار، ليس لدى واشنطن وموسكو فقط، وإنما فى القارة الأوروبية.
وتعد الدعوة التى تبناها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، لإنشاء جيش أوروبى مشترك بمثابة محاولة جديدة لإنقاذ أوروبا من التحديات الكبيرة التى تواجهها، خاصة منذ وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض فى شهر يناير من العام الماضى، حيث تبنت الولايات المتحدة خطابا مختلفا تجاه حلفائها من دول المعسكر الغربى، ليس فقط بسبب حرمانهم من المزايا التجارية التى كانوا يتمتعون بها لعقود سابقة، وإنما امتد الخطاب الأمريكى فى حدته إلى الجانب الأمنى، وهو ما بدا واضحا فى التلويح الأمريكى المتواتر بالتنصل من الالتزامات الأمنية تجاه أوروبا، والتهديد المتواصل بالانسحاب من حلف الناتو.
تداعيات ومآلات
ورغم التبريرات التى تسوقها واشنطن للانسحاب من المعاهدة، والرفض الروسى والأوروبى بل والعالمى لفكرة الانسحاب، إلا أن القضية برمتها لها تداعيات ومآلات بعيدة
واستراتيجية، وربما تعمل على إعادة تشكيل نظام أمنى عالمى جديد، ولن تقتصر تداعيات الانسحاب الأمريكى فى حال حدوثه على الولايات المتحدة وروسيا فقط، فقد تمتد إلى
الصعيدين الأوروبى والعالمى.
أولاً الأمن الأوروبى: بات محل تساؤلات وتشكيك،لأنه فى حال تم إلغاء هذا الاتفاق ستعاود الصواريخ الأمريكية الظهور فى دول مثل رومانيا وبولندا، حيث يعتبر الاتحاد الأوروبى معاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى حجر زاوية الأمن الأوروبى.
وباتت أوروبا تراقب التطورات ولو بشكل خافت ورغم أنها جزء من حلف الأطلسى الذى تتزعمه الولايات المتحدة، إلا أن الخلافات بين الناتو والرئيس ترامب برزت للسطح فى أكثر من مناسبة، خاصة أن واشنطن تريد من الدول الأوروبية الأعضاء فى الحلف زيادة مساهمتهم المالية وهو ما حدث فى القمة الأخيرة فى بروكسل.
ولعل الترقب الأوروبى له حجيته لأن أى تصعيد فى سباق المنظومة العسكرية بين روسيا والولايات المتحدة له تأثير مباشر على الأمن فى أوروبا خاصة أن التماس الجغرافى بين عدد من الدول الأوروبية وروسيا يحمل من النذر الكثير.
فقد زادت الحرب فى أوكرانيا وسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم من مخاوف الأوروبيين لأسباب تتعلق بالأمن الأوروبى، ولذا فإن التشاور الأمريكي الأوروبى يعد مسألة حيوية للتنسيق حول موضوع الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى، ومن جاءت فكرة ماكرون إنشاء جيش أوروبى مشترك.
فضلاً عن أن الصواريخ الباليستية الموجهة من قاعدة دومباروفسكى فى جنوبى روسيا بإمكانها ضرب غالبية العواصم الأوروبية، ومن الطبيعى أن تستهدف روسيا أى دولة ينطلق منها اعتداء أمريكى، ما سيُجبر بعض الدول الأوروبية على تحسين علاقاتها مع روسيا حفاظا على أمنها، وهو ما سيؤدى إلى تحول الأوضاع لصالح روسيا المحاصرة أوروبيا بعد أزمة أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم.
ثانياً: تعدد وتنوع الحروب مع الصين: فلم تعد الحرب والمنافسة بين واشنطن وبكين قاصرة على التجارة والاقتصاد وإنما امتدت إلى الجانب السياسى والأمنى، ويبدو أن التلويح الأمريكى بالانسحاب من المعاهدة هدفه الدخول فى حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية مع الصين عملاق آسيا والتى تنطلق بقوة خاصة على صعيد النمو الاقتصادي ووجودها المتزايد فى مياه المحيط الهادى جنوب شرق آسيا والتجاذب الاستراتيجى سواء حول معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى سوف يستمر على الأقل خلال إدارة الرئيس الحالى ترامب والذى يريد انتهاج استراتيجية جديدة فى العالم على صعيد أمريكا أولا.
ثالثاً: العودة مجدداً لسباق التسلح: فبعد خروج الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية عام 2002، وعدم رغبة واشنطن في تجديد اتفاقية ستارت التي تنتهي عام 2021، والتصريح الأمريكي بالخروج من معاهدة الصواريخ المتوسطة؛ تكون بذلك كافة المعاهدات التي تحد من التسلح والتي أُبرمت لإنهاء الحرب الباردة قد ألغيت، وهو ما يعني عودة سباق التسلح من جديد.
ووفقاً لخبراء الأمن والتسلح، فإن أحد الأسباب الرئيسية التى حملت أمريكا على الإقدام على مثل هذا القرار، يكمن فى استجابتها لرغبة أصحاب ومصانع تجارة السلاح، والذى لا يناسبه ثبات اتفاقيات الحد من التسلح التى تُقلّص من حجم الطلب على شراء الأسلحة على الصعيدين المحلى والعالمى.
ناهيك عن أن الانسحاب الأمريكى سوف يدفع مناطق بأكملها إلى سباق تسلح جديد، ولأمريكا مصلحة من وراء ذلك، خصوصا أن أحد أهم أسباب انهيار الاتحاد السوفيتى السابق يتمثل فى الموازنات الضخمة التى كانت تُصرف لتمويل مشاريع التسلح خلال الحرب الباردة، وسوف يؤدى أى سباق تسلح جديد إلى إرهاق منافسى الولايات المتحدة الأمريكية اقتصاديا.
رابعاً: نُذر وقوع حرب نووية: إذ يخشى بعض المحللين من أن يؤدى التحلل من اتفاقيات التسلح إلى دورة من التصعيد التدريجي لن يتم السيطرة عليها إلى درجة تُفضى إلى اندلاع حرب نووية، لا سيما مع تزايد التوترات بين روسيا وحلف شمال الأطلسى فى أوكرانيا وبحر البلطيق، وإعلان الولايات المتحدة لعقيدتها النووية فى مطلع عام 2018، والتى تنص على تطوير قدراتها النووية المنخفضة.
وهنا لن تقف الدول الأوروبية مكتوفة الأيدى، وربما تشرع فى تأسيس الجيش الأوروبى المشترك، مع العمل على تفعيل حلف الناتو، خاصة وأن الناتو وتوسعاته تمثل أحد وسائل الردع الغربية التى طالما استخدمها الغرب لتطويق النفوذ الروسى فى مناطق تنظر إليها موسكو باعتبارها عمقا استراتيجيا لها، إلى جانب كونها محيطها الجغرافى.
وبالنظر إلى حساسية العلاقات بين فرنسا من جانب وكل من الولايات المتحدة أو روسيا من جانب آخر، فإن مواقف واشنطن وموسكو تجاه العديد من القضايا الدولية لا تروق لإدارة ماكرون، وفى مقدمتها نظرتهما السلبية للاتحاد الأوروبى، وهو الأمر الذى يبدو مناوئا للتوجهات الأوروبية عامة والفرنسية خاصة.
يبقى القول إن الفترة المقبلة من خلال ممارسة كل واشنطن وموسكو لوسائل الضغط التى يراها مناسبة ومحققة لغاياته، ربما يكون الحل الأمثل وعلى ضوء تصريحات العسكريين من الطرفين أن يكون ثمة نقاشاً جاداً حول مراجعة المعاهدة وإمكانية تعديل بعض بنودها على ضوء المتغيرات الاستراتيجية والتطور النوعى فى الصناعة العسكرية فى البلدين.
أضف تعليق