مفارقة غريبة للغاية أن تنتهي المخرجة الفلسطينية أسماء بسيسو من فيلمها التسجيلي " السبع موجات " في شهر سبتمبر 2023، لتبدأ في الشهر التالي من هذا العام حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ، وما زالت تشنها، على أهل القطاع المحاصر، وليستشهد أحد مصوري فيلمها، كما كتبت في عناوين النهاية، لكن الأهم أن فيلم "السبع موجات" أصبح شاهدا على عشق أهل غزة للحياة، وقدرتهم على صنعها من ثقب إبرة، في مقابل آلة صنع الدمار الصهيونية، لأن أهل غزة يؤمنون فيما يبدو بما قاله محمود درويش بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
ليست المسألة بالتأكيد فى الانحياز لأهل غزة ، ولإنسانية الإنسان، فى مواجهة القتل العشوائى للمدنيين، حتى وصل عددهم الى الآلاف، لكن أسماء نجحت أولا فى التقاط فكرة ذكية، فقد لفتت نظرها حكاية اعتقاد أهل غزة فى قدرة أمواج بحرها على الشفاء من الأمراض، كما أن المرأة التى تنزل سبع مرات إلى الماء، تتزوج وتنجب، فكأنها مياه تصنع المعجزات، وتواجه الموت، وتخلق حياة متجددة.
الفيلم يأخذ فقط هذه الأسطورة الخيالية، ويترجمها من خلال الواقع، باختيار نموذجين يعملان ويحلمان ويتحققان فى ظروف القطاع المحاصر والمعزول عن العالم.
النموذج الأول لشاب يعمل منقذا بحريا على الشاطئ، ويمارس أيضا صيد السمك، والنموذج الثانى لفتاة اسمها بيسان ، تمارس السباحة، وتحلم بالفوز ببطولات كثيرة، وتقوم أيضًا بتدريب فتيات كثيرات على السباحة، واختيار النموذجين ذكي، فهما من عمرين مختلفين، وهما مرتبطان فى حياتهما ببحر المعجزات فى غزة .
هكذا يتم تطوير الفكرة بشكل سلس، حيث يقوم بناء الفيلم على الانتقال من الشاب المنقذ إلى الفتاة التى تحب السباحة، بكل التفاصيل الحياتية والإنسانية المطلوبة، وحيث تلتصق كاميرا أسماء، التى قامت بتصوير بعض الأجزاء، وقامت أيضا بالمونتاج، بشخصياتها لنرى أدق التعبيرات على الوجوه، وبصورة تلقائية ومؤثرة، وحيث ستصبح الشخصيتان عناوين على صنع الحياة والأمل وترويض الواقع الصعب، كما ستنفتح الصورة على جزء من مجتمع غزة، ومن مبانيها المدمرة من اعتداءات إسرائيلية سابقة، وحيث نرى الحالة الاقتصادية الصعبة، التى يعيشها السكان، ومع ذلك مازالوا يحاولون أن يحلموا، وأن يعيشوا يوما بيوم.
كل خط يخص شخصية يكتمل بالتدريج، نتعرف مثلا على مهنة الشاب وهو على الشاطئ، نراه وهو يمسك الميكروفون محذرا النازلين إلى البحر، ونسمعه وهو يتحاور مع زملائه، يتحدثون معا عن ظروفهم الصعبة، عن عدم تثبيتهم فى وظائفهم، وعن المرتب الهزيل الذى يحصلون عليهم، وعن إصابات المهنة وأخطارها، فالمنقذ قد يفقد حياته أحيانا، ويتكلمون بصراحة عن إعالتهم لأسر كبيرة العدد، بطل فيلمنا نفسه ينتمى لأسرة كبيرة العدد، تضم عشرة أخوة، وهو أكبر الذكور، نسمع منه قصة المركب الذى حمل 27 شخصا من أهل غزة ، فى محاولة للهجرة، لكن الأخبار انقطعت تماما عنهم.
بيسان الفتاة الرياضية نراها أيضا بالتدريج كطالبة فى التوجيهية أولا، تردد النشيد الوطنى الفلسطينى مع زميلاتها فى طابور الصباح، ثم تذاكر ضاحكة مع زميلاتها فى البيت، وتصنع المكرونة، وتطلب من مخرجة الفيلم أن تتذوقها، وتغنى بيسان وصديقاتها وترقصن على أغنية مهرجانات مصرية، ثم نراها مع والدها الذى يدربها على التجديف، للمشاركة فى بطولة محلية، تعتبر بيسان نفسها محظوظة لأن والدها يشجعها على السباحة وممارسة التجديف، بل يقوم بتدريبها بنفسه، بينما يبدو ذلك صعبا للفتيات الفلسطينيات، فى مجتمع شرقى ومحافظ.
نعود إلى الشاب المنقذ، لكن هذه المرة كصياد للأسماك، يخرج إلى البحر بمركب يضم زملاءه الشباب، نسمع على شريط الصوت شكواهم من أن الاحتلال لا يسمح بالصيد إلا لمسافة ستة أميال بحرية فقط، حصار شامل ودقيق، إذا تجاوزه الصيادون، تطلق عليهم الدوريات البحرية الإسرائيلية الرصاص المطاطي، لكن مركب الصيد ينجح فى العودة بالجمبرى والإستاكوزا، ونراهم أيضا وهم يبيعون ما اصطادوه فى حلقة الأسماك، كما نرى والد بطلنا الشاب والأسرة الضخمة، التى تتكدس فى بيت واحد، وهم يحتفلون بعيد ميلاد أحد أفراد الأسرة، ويقطعون التورتة، ويختلسون لحظة فرح وسعادة صادقتين.
نكتشف على الجانب الآخر أن بيسان معروفة على نطاق أوسع، صنعوا فيلما تسجيليا عن نشاطها بعنوان "عروس البحر"، لم تكسب الميداليات والكئوس فقط، لكنها نجحت أيضا فى تدريب فتيات كثيرات على السباحة، كانت تستيقظ مبكرا، تاخذهن إلى بحر غزة، ثم تعود بهن قبل أن تستيقظ المدينة، نرى فتيات تشاهدن فيلم "عروس البحر"، وتتحدثن عن صعوبة أن تمارس الفتاة الرياضة، بسبب عادات وتقاليد المجتمع.
يجتمع المنقذ البحرى مع بيسان فى مناسبة مهمة، وهى مسابقة محلية ينظمها اتحاد الشراع والتجديف الفلسطيني، بإمكانيات متواضعة، وتفوز بيسان بالمركز الأول، بينما يبقى المنقذ البحرى مراقبا ومستعدا، هكذا يجتمع بطلا الحكاية، ثم ينتهى الفيلم على بهجة وسعادة بيسان مع أختيها وهن تلعبن وسط أمواج بحر غزة، وبينما يعود المنقذ مع صديق له فى نفس البحر، ونسمع صوت امرأة تتحدث من جديد عن معجزة تلك الأمواج فى الشفاء، وفى تزويج الفتيات، وفى منحهن القدرة على الإنجاب.
عمل جيد ومؤثر ومتماسك، عرف كيف يبدأ من أسطورة، ليمزج بينها وبين الواقع، واستطاع أن يقدم ملامح نماذجه الإنسانية، فى إطار مجتمع غزة الذى يعانى من الفقر والحصار، وكان الانتقال سلسا بين بطلى الحكاية، مع حضور قوى للبحر، الذى يرتبط بالأسطورة الخيالية، وبالواقع المعاش، واستعانت المخرجة أيضا بأغنيات وظفت بشكل جيد، مع قطعات مونتاجية فى وقتها، دون تطويل أو قفزات مفاجئة، وبينما نرى الشاطئ والمدارس والمنازل من الداخل والخارج، فإنك لن تنسى لقطات لمبانٍ مازالت مهدمة من فترات سابقة، بسبب اعتداء قوات الإحتلال على قطاع عزة، ظلت المبانى شاهدة على العدوان، وربما تكون الآن قد محيت محوا من وجه الأرض بعد أكتوبر 2023.
أضافت المخرجة فى لوحة مكتوبة فى النهاية وقائع العدوان الأحدث على غزة ، وسجلت عدد الشهداء، ورأينا مصور الفيلم الذى استشهد بعد تصويره فى قصف إسرائيلي، كما شاهدنا صورا ولقطات للقتل الجماعى لسكان غزة، ورغم كل ذلك، ظلت أمواج البحر حاضرة، تعبر بصريا عن تجدد الحياة، واستمرارها، وتحمل حكاية أسطورة السبع موجات، من جيل إلى جيل، وتساعد أهل غزة على الحلم والعيش، سواء بصيد السمك، وإنقاذ المصطافين، أو بممارسة السباحة والتجديف، والحلم بالفوز بأكبر البطولات العالمية.
مجاز البحر فى الفيلم يعبر عن صورة الحياة فى حضورها فى مواجهة الموت والدمار، ويعبر أيضا عن الإنسان الفلسطينى نفسه، الذى يموت ليولد من جديد، والذى يمد جذوره فى أرضه، ويحصل على ماء الحياة والبقاء من أبعد الأماكن، ليستمر بلا توقف فى العيش، وسط أقسى الظروف، وأسوأ الحروب، وفى مواجهة أشرس الأعداء.