كنا صغارا فى المدرسة الابتدائية، نتسابق للحصول على هذا الكائن الصغير الذى يبيعه لنا هذا البائع المتجول والذى يحمل بين يديه كرتونه صغيرة، ينتظرنا بها يوميا فى ميعاد انصرافنا من المدرسة، لنرجع بها إلى أنها المنزل، ويراها الجميع ويستمتع بشكلها وهى تأكل من ورقة التوت ببطء شديد، وننتظر بلهفة نبوءة المعلمة التى قالت لنا سيخرج لكم هذا الصغير الحرير الناعم الأبيض كضوء القمر.
أنها دودة القز يا سادة، الكنز الحقيقى ولكنه مدفون في طى النسيان حتى ظهرت بارقة أمل مؤخرا بعد أن نشرت الجرائد اليومية عدة أخبار وتصريحات من رئيس الوزراء تكشف عن توجه من الدولة مؤخرا للنهوض بصناعة الحرير الطبيعى وهى صناعة من أرقى الصناعات التى أحترفتها مصر يوما ما وقد آن الآوان لهذه الصناعة أن تعود بأضعاف الإنتاج السابق وهنا يلتقى المهتمون بالصناعة والمتخصصين من العلماء أو الباحثين للنهوض بعهد الصناعة العالمية، وفى دراسة علمية أعدها مركز البحوث الزراعية ، أوضحت أن مصر أفضل مكان فى العالم لزراعة "التوت"، و أشجار التوت تعد من الأنواع قصيرة العمر، سريع النمو، ومن زراعة شجر التوت إلى خيط حرير، هناك أنامل ذهبية تشارك فى هذا التحقيق لتروى لنا حكاية عمل شاق بدأ بزراعة شجرة التوت لتتغذى عليها دودة القز حتى انتاج السجاد الأغلى والأفخر نوعا عالميا.
يقول المهندس عبد العاطي، صاحب مشروع ومصدر للأقمشة و الحرير ، دودة القز سلالات وأفضلها اليابانى وشجر التوت أيضا أنواع وأفضله الياباني، وأول خطوة للحصول على الحرير الطبيعى هو زراعة شجره التوت، ولابد وأن تكون بعيده عن الأتربة والملوثات ويفضل أن يكون من النوع الياباني وهو الأفضل لتغذية الديدان، لأن أوراقه سميكة ومغذى ويشبه ورق الخروع فى الشكل لكنه غير عريض، وتزرع الأشجار بنظام عديم الساق لسهولة جنى الأوراق، وعند جنى الأوراق تنبت مكانها أوراق جديدة خلال أسبوعان، وللورقه عمر مثل الإنسان، فتبدأ صغيرة لا تصلح للتغذية ثم تكبر وتصير فى طور شبابها وهنا تصلح للتغذية ثم تشيخ ولا تصلح للتغذية ثم تسقط، ولذلك لابد من وضع نظام لجنى الأوراق وأفضل نظام هو الزراعة بدون ساق.
وأضاف أنه لشراء بيض دودة القز مضمون فيجب التوجه إلى مركز بحوث الحرير الطبيعي، وتستغرق دورة التربية ٤٠ يوما ويمكن أن تتم فى السنة ٦ دورات، وأوضح المهندس عبد العاطى، أن دوده القز تأكل ورق التوت وتنتج شرانق، أما إذا فرض عليها نوع آخر من المزروعات فستأكله كى لا تموت ، ولكن لن تنتج حرير، وأى خطأ فى التربية ينتج عنه شرانق ضعيفة ليس لها فائدة أو سعر.. وأشار إلى أن لون دوده القز عند الفقس اسود وحجمها صغير بالنسبة لرأس عود الكبريت ، وبعد ٣5 يوم يكون لونها ابيض وحجمها يقارب حجم الأصبع، ثم يبدأ دود القز ينسج حول نفسه خيط واحد متواصل طوله ١٥٠٠ متر خلال ثلاث أيام متواصلة ليل مع نهار ويسمى شرنقة ونحصل على الحرير بحل هذا الخيط ، قبل تحولها إلى فراشه اى بعد ٤ أو ٥ أيام من صنع الشرنقة ، يتم افتراش الشرانق بالشمس فتجف اليرقات وتموت قبل تحولها لفراشه لأنه إذا خرجت الفراشة من الشرنقة لا يمكن حل الشرنقة وتتلف.
وتابع، يطلق العلماء على دودة القزّ اسم ملكة الأنسجة بلا منازع، وتُصنّف الخيوط التي تفرزها دودة القز إلى نوعين: خيوط الحرير المزروعة؛ التي تؤخذ من اليرقة التي تُربّى وتتغذى على أوراق التوت، وخيط الحرير البري؛ الذي يؤخذ من دودة القز، التي تتغذى على أوراق البلوط، وتمر دودة القز بمراحل نمو، وهي، البيضة بحيث تضع الفراشة ما بين 300 إلى 400 بيضة دفعة واحدة، اليرقة، فقس البيض التي وضعت بأيام، وتبقى في سبات ليأتي فصل الربيع، وهو الفصل الذي تنمو فيه أوراق الشجر، وخصوصاً أوراق التوت، وتخرج اليرقات من البيض مع حلول الربيع، الشرنقة، وهي المرحلة التي تقوم فيها اليرقة بنسج الحرير من حولها، وتعيش داخل الشرنقة مدة أسبوعين، ثم تتحول إلى فراشة، وتحتاج تربية دودة القز إلى عناية وصبر من المربّي، حيثُ إنها تُربى بحرص شديد، والدودة قوية جدا أثناء دورتها ولكن تحتاج لدرجة حرارة ١٥ إلى ٢٥ وأعداؤها النمل والعصافير الفئران والزواحف وروثها مفيد لمزارع الأسماك.
وأشار إلى أن مشروع الحرير الطبيعى ليس فقط تربيه دوده القز وإنتاج الشرانق ، بل وأيضا تصنيع خيوط وإنتاج أقمشة للسوق الأجنبى والمحلى، والمشروع مربح بشرط توافر أوارق التوت واتباع تعليمات وإرشادات التربية السليمة، ويتميز المشروع بقصر المدة الزمنية ٣٥يوم وسرعة دوران رأس المال، ومن شروط نجاحه، مزرعة خاصة ، عنبر مكيف، ماكينة حل ميكانيكى.
وتقول الدكتورة رحاب حسنى ، بقسم بحوث الحرير بمعهد بحوث وقاية النبات التابع لمركز البحوث الزراعية بوزارة الزراعة ، أن قسم بحوث الحرير يقدم دورات تدريبية نظرية و عملية على التوت و تربية الدود و حل الشرانق و بالطرق التكنولوجية الحديثة، تلك البرامج تدربية شهرية لتنمية صناعة الحرير الطبيعى من خلال التوسع فى إنشاء مشاتل وحقول أشجار التوت من الأصناف عالية الإنتاجية ، والتقنيات الحديثة فى تربية دودة القز وسلالاتها وطرق إنتاجها ، واستخدام طرق التفقيس الصناعى لتربية ديدان الحرير وإنتاج الحرير، وأضافت دكتورة رحاب ، أن المعهد يقوم بدورات عملية فى مناطق الإنتاج، والتى تضم إنشاء مشاتل وحقول التوت التى تقيمها وزارة الزراعة ، وتربية ديدان الحرير وسلالاتها وإنتاج الشرانق، كما يتم خلال الدورة عرض تجارب شبابية لتنمية صناعة الحرير، ودورها فى تدوير مخلفات ديدان الحرير وإحياء القرى المتخصصة فى صناعة الحرير، فضلا عن إحياء المشاريع الشبابية لإنتاج الحرير، وأكدت دكتورة رحاب، أن القسم يعمل على تسويق منتجات المربين سواء كانت خيوط حرير أو شلل حرير.
وأشارت إلى أن في الوقت الحالي باليابان لا يوجد فلاحين أو عمالة نظرا لارتفاع مستوى معيشة الفرد هناك، و بالتالي إذا نجحنا فى مصر بإنتاج الحرير ستكون هناك فرصة للتعاون معهم وهذا لمحاولتهم التعاون مع دول أفريقيا، والجدير بالذكر أنه لا يوجد حصر لأشجار التوت فى مصر لأنها زراعة عشوائية عل حواف الترع والمصارف ، وتدرس وزارة الزراعة حاليا عمل خريطة بمواقع لحصر لأشجار التوت وإعداد برامج تنفيذية للتوسع فى إنشاء مشاتل وحقول التوت، وتربية ديدان الحرير "دودة القز" وسلالاتها وطرق إنتاجها.
ويقول دكتور محمد سالم بقسم بحوث الحرير ، خصصت الهند يوم لتشجيع الحرفيين وصانعى خيوط الحرير والأقمشة وأطلقوا عليه عيد ( النول اليدوي)، وأضاف، "أتمنى أن نكون أفضل منهم وهذا ليس بالأمر الصعب ، مصر بها عمالة ماهرة في الحرف اليدويه بجميع أشكالها، وبأمكاننا النجاح بشرط زراعة التوت الجيد ثم تعلم التربية بشكل صحيح ثم تعلم حل الشرانق للحصول على خيوط حرير عالية الجودة ثم النسج على الأنوال اليدوية" ..
ولقد وجد برأس دودة القز التي لها 11 دماغ زوج من الغدد اللعابية ، وتقوم الغدد بإفراز ألياف طويلة تتكون من مادة الفبرويين البروتينية ترتبط ببعضها بواسطة صمغ السيريسين وتخرج من خلال فتحات تسمى المغازل، وعندما تحتك بالهواء فإنها تتصلب، و بذلك يتشكل ما قد يصل إلى 900 متر من خيوط الحرير الذي تُصنع منه أغلى الألبسة في العالم.
أما عن الصعوبات التى تواجه الشاب فى بداية المشروع، فيقول الأستاذ يحيى عبد الجليل، صاحب مشروع ويمد يد العون لكل شاب مبتدئ، "اسخر وقتى دائما فى تقديم المعلومات ومساعدة كل المجتهدين والحريصين على معرفة و تعلم صناعة الحرير الطبيعي، وأوضح أن كل شاب بدأ فى المشروع ولديه شرانق ويريد تحويلها لخيط حرير خام ولا يعرف ، فمن السهل التوجه إلى قسم بحوث الحرير والذى به ماكينات الحل البلدى والميانيكي ، وهذا يتوقف على جودة الشرانق، أو صناعة ماكينة حل بلدى بالمنزل وسأعلمه كيفيه استخدامها لوجه الله دون مقابل، ومن المهم للحصول على خام الحرير خضوع الخيط لعملية الفتالة لاستكمال مرحلة تجهيز الخيط.".
ويوضح سامح أحمد، المدير التنفيذي لرابطة منتجي ومسوقي الحرير، والخبير فى تربية دودة الحرير، أن الرابطة عبارة عن مجتمع من المتخصصين والباحثين والمسوقين والمربيين والماليين والإداريين المدركين لأهمية المشروع ومدى قدرته على حل مشكلة البطالة وتحسين الدخل، ومن خلال الرابطة يقيم دورات مجانية بالتعاون مع الجمعيات الأهلية لتدريب مربين جدد، كما يعلن عن تلك الدورات عبر صفحتهم بالفيس بوك ، لكل راغب في الالتحاق بها.
ولقد بدأت الرابطة فى تقديم خدماتها منذ مايو 2009، مهمتها جمع وتوثيق أكبر قدر ممكن من المعلومات والتجارب والأبحاث عن المشروع وبدائله، وتقديم كافة أنواع الدعم الممكن لأى شخص يريد عمل المشروع بداية من التدريب العملى وتأسيس متطلبات المشروع وتوفير بدائل منه تناسب أى شخص مهما كانت قدراته أو إمكانياته، وتوفير السوق الملائم له حسب موقعة الجغرافى وإمكانياته وأولوياته، وحجم الاستثمار الذى يطمح فيه، وتتولى الرابطة تزويد المتدرب بالأدوات التى يحتاجها لعمل المشروع بدءاً من الرفوف الخشبية والشباك وغيرها، التى تشتريها الرابطة بكميات كبيرة للحصول على خصم مع تطوير هذه الأدوات لتناسب كافة أحجام الاستثمار، وأضاف سامح ، يأتى دورالرابطة فى توفير يرقات دودة القز في أعمار كبيرة، فبدلا من قيام المربى بشراء البيض في دورة الأنتاج من بدايتها البالغة 35 يوماً، يتم توفير يرقات في منتصف العمر صحيحة ومحصنة ضد الأمراض، كما أن دورة الأنتاج بالنسبة لصاحب المشروع ستكون في حدود 15 يوماً بدلاً من 35 يوماً، مما يجعل المربي يربي عدد دورات يصل الي 12 دورة في السنة وتزيد من فاعلية أداء المشروع، شرط أن يكون لديه مصدر لورق التوت الذى يعينه على توفير الغذاء لهذه الكمية، بالإضافة إلى أن فى الرابطة متخصصين يقومون بالعمليات الزراعية الضرورية لخدمة حقل التوت تحديدا،ً بالتالي انتدابهم بعض الأيام لخدمة الأرض، وسيكون أسهل من الحصول على عمالة خارجية غير متخصصة، ولفت إلى أن انتشار زراعة شجر التوت من السلالات عالية الجودة بدلا من شجر الزينة مثل الفيكس يعود بالنفع ليس فقط لدعم مشروع الحرير، بل يجب على غير المهتمين بالمشروع زراعة شجر التوت لفوائده العظيمة، حيث يعالج شرب أوراقه مرضى السكر وتحتوى ثماره على مضادات أكسدة أكثر من الفراولة، لذلك نجد انتشار الأمراض الخبيثة نتيجة عدم تناول جرعة سنوية من ثمار التوت، كذلك تعالج الثمار الأنيميا وتقوى الجهاز المناعى ويصنع منها مربى التوت المناسبة لمرضي السكر لما فيها من سكر طبيعي، فضلاً عن أن شجر التوت لا تنمو عليه الحشرات والعناكب بكثرة كما تنمو على شجر الفيكس وغيرها، موضحا أن المشروع مربح وبإمكان المربي الحصول على صافي 1500جنيها في الشهر، من خلال تربية حوالي ( 3 علب بيض) لعدد 6 دورات في السنة على شجر التوت، ويحكى أنه بدأ وهو شاب فى جمع أوراق التوت من أشجار الأحياء الراقية ليتغذى عليه بيض دودة الحرير الذى كان يحصل عليه من مركز بحوث الحرير، التابع لمركز البحوث الزراعية.
وأضاف، السوق المصري يحتاج إلى 350 طن سنويا من الحرير، بينما تنتج مصر واحد طن فقط، ويتم استيراد الباقي، وختم كلامه قائلا "أكثر ما يضايقني هو أن نضطر لاستيراد منتج يمكن إنتاجه محليا".
ويقول الدكتور أسامة غازي، رئيس قسم بحوث الحرير بالمركز القومي للبحوث الزراعية سابقا، أن الهدف من وراء إنشاء القسم بحثى وتدريبى وهدف إرشادى وتوجيهى، ولكن من المؤسف تعرض صناعة الحرير للتدمير في السنوات الأخيرة، خاصة أيام ثورة يناير بسبب قطع أشجار التوت بشكل مستمر وتدمير إرث محمد على باشا من أشجار التوت، لاستخدامه فى الفحم والآثاث مما أدى إلى تراجع إنتاج مصر من الحرير إلى طنًا واحدًا سنويًا، بينما نقوم على استهلاك 250 طنا سنويا، وهذا يرجع إلى عدم الوعى والبحث عن الربح السريع بمنتجات لا يقوم عليها الاقتصاد، ووجه رسالته إلى الإعلام بأهمية رفع وعى المستثمرين والشباب للعمل فى مجال الحرير.
وأوضح" غازي" أن الصين هى من أكبر الدول المنتجة له، ولكنها توقفت عن التصدير وهذه فرصة أمام مصر لنتبوأ مكانة عالمية، مؤكدا أنه رغم الجهد ولكنه مشروع مربح ويحول الشاب إلى رجل أعمال ذو قيمة ومستثمر ناجح يرفع من قيمة اقتصاد بلده، حيث يصل سعر كيلو الحرير من 2000إلى 3000 جنيها .