ما كان أصدق الحسن البصري رحمه الله حين قال: "مسكينٌ ابن آدم: محتوم الأجل، مكتوم الأمل، مستور العلل، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورا".
هذا المخلوق الفاضل الناطق المفكر، هذا المخلوق الذي استخلفه ربه في أرضه، وسخَّر كل ما في الكون لخدمته، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورا، وما هو إلَّ منفذٌ لإرادة الله في كونه.
هذا المخلوق ذو العقل النابه والحس المرهف والبصيرة النافذة، يعجز في كثير من الأحيان عن الحكم على ما ينفعه أو يضره، وعن الاختيار بين ما فيه خيره أو شره.
وقد يمقت المرءُ أمرًا أشد المقت، وينفر منه أشد النفور، وهو لا يعلم أن هذا الأمر الذي يمقته وينفر منه هو أولى الأمور بالاستمساك به، وأحق الأمور بالسعي إليه.
وقد كان الغلام " باخوم " نافرًا من صنعة البناء أشد النفور، مبغضًا لها كلَّ البغض، لا يرى فيها إلَّا عملًا شاقًّا اضطر إليه اضطرارًا ودُفِع إيه دفعًا، لا لشيءٍ ألا لأنه فقير يتيم، لابد له أن يعمل حتى يحصل على ما يسد جوعه ويقيم أوده.
وليس كالفقر ما يسلب النفوس رفاهية الاختيار.
وليس كاليتم ما يكسو القلوب بسياج الانكسار.
ومهما يكن من أمرٍ فقد أخذ الغلام "باخوم" يتنقّل بين البنَّائين، يحول نفوره من تلك الحرفة الشاقة بينه وبين أن يستمر مع أحدهم أكثر من أيامٍ قليلة.
وفي كل مرةٍ كان يترك العمل مختارًا، ويعود إليه مضطرًا بدافع الجوع والحاجة ومحاولة الترفع عن أن يعيش على إحسان الموسرين وعطف القادرين.
إلى أن كانت تلك الليلة التي قادته فيها قدماه إلى دير قريته، فجلس أمام بابه مطرقًا حزينًا.
ولا يدري " باخوم " كم مكث على جلسته تلك المطرقة الحزينة، ولكنه بعد وقت طويلٍ أو قصيرٍ شعر بيدٍ حانية تربت على كتفه، فالتفت فرأى وجهًا مشرقًا يغمر حزنه وبؤسه ببسمةٍ رقيقة.
ورأى عينين صافيتين تبعثان إلى قلبه ونفسه أملًا وليدًا.
وقد امتدت تلك اليد الحانية إلى يد " باخوم " تُنهضه؛ فنهض طائعًا.
وقد فاضت تلك البسمة الرقيقة على نفس " باخوم " تطمئنه؛ فاطمأن واثقًا.
وقد تمكن هذا الأمل الوليد من قلب " باخوم "؛ فاستسلم له سعيدًا راضيا.
وما كانت تلك اليد الحانية وهذا الوجه المشرق، وهاتان العينان الصافيتان إلا للأب "يوحنا"، قسيس القرية.
قام "باخوم" مع الأب "يوحنا" دون أن ينبس ببنت شفة، ودخل معه إلى الدير هادئًا مستسلما، وما كان من الأب يوحنا إلا أن هيَّأ له طعامًا طيبًا، وبعد أن طعم أشار إليه أن يخلد إلى الراحة ويؤجل الحديث في كل الأمور إلى الصباح.