لواء دكتور سمير فرج يكتب: نادية

لواء دكتور سمير فرج يكتب: ناديةلواء دكتور سمير فرج يكتب: نادية

*سلايد رئيسى23-1-2019 | 23:30

أعتبر جيلي من المحظوظين حقاً، بالرغم مما قد يدعيه البعض، من أن الأجيال الحديثة أوفر وأسعد حظاً، لما يمتلكونه من أدوات تكنولوجيا العصر الحديث؛ كالحاسبات الآلية، وشبكة الإنترنت، التي تجوب بك العالم في لحظات، وأنت في مكانك.

ولكنني مازلت مُصراً، أننا الجيل المتميز، الذي عاصر عمالقة الأدب العربي، كعميدها طه حسين، والعقاد الذي ملك أركان الأدب العربي، أديباً وشاعراً وصحفياً، ونجيب محفوظ صاحب جائزة نوبل، التي استحقها عن جدارة. وغيرهم الكثيرين من عظماء القصة الرومانسية، أمثال إحسان عبد القدوس، الذي كنت أترقب، في مرحلة شبابي، صدور مجلة روز اليوسف، أسبوعياً، لأتابع، كجميع أبناء جيلي، حلقات قصته الرائعة "الرجل الذي فقد ظله".

كما عاصر جيلي فارس الرومانسية، يوسف السباعي، صاحب أجمل، وأبدع الروايات التي أنتجتها السينما المصرية، "نادية"، و"رد قلبي"، و"إني راحلة"، و"نحن لا نزرع الشوك"، و"اذكريني"، وغيرهم، ولأنه كان واحداً من الضباط الأحرار، في ثورة يوليو 1952، فكانت معظم أعماله الأدبية، تتناول تلك الحقبة من تاريخ مصر. لقد عشقت أدب هذا الرجل، من قبل أن أراه، وزاد عشق وحبي، بعدما التقيته، عندما كنت طالباً بالكلية الحربية، وجاء ليحاضرنا، فقص علينا ذكرياته وهو طالب بالكلية الحربية، ثم وهو مدرس بها، حتى وصل إلى منصب وزير الثقافة.

أعود إلى فترة شبابي، في مدينتي الحبيبة، بورسعيد، عندما صدرت له قصة "نادية"، التي لم أكن أمتلك رفاهية شراءها، آنذاك، فكنت أذهب إلى مكتبة القنصلية الأمريكية، في بورسعيد، كل يوم، لأقرأ ما تيسر لي منها، حتى أنهيتها، وحفظت سطورها وحروفها. وعشت، بخيالي، أدق تفاصيلها، في مدينتي جرونوبل وجاب بفرنسا، اللذان تحيطهما جبال الألب الفرنسية، والبحيرات المنتشرة بينهم، والطبيعة الخلابة، التي أبدع يوسف السباعي في وصفها، حتى رأيتها مرأى العين، وأصبح حلمي، حينها، أن أزور هذه المنطقة الساحرة في يوم من الأيام. وفيما بعد، تم تجسيد الرواية في عمل سينمائي شهير، أخرجه أحمد بدرخان، وكتب الحوار الأديب يوسف السباعي، وقامت بالبطولة، السندريلا سعاد حسني، بمهارتها وإتقانها، حيث أبدعت في تجسيد شخصيتي الرواية؛ نادية وشقيقتها التوأم منى، بمنتهي الاحترافية، وشاركها البطولة فارس السينما المصرية أحمد مظهر، مع نخبة من ألمع نجوم ذلك العصر.

مرت الأيام والسنوات، وسافرت في بعثة دراسية، إلى كلية كِمبرلي الملكية، في إنجلترا، ونظراً لتفوقي، وحصولي على المركز الأول، في نهاية الدورة الدراسية، فقد تم تعيني مدرساً بالكلية، لمدة عام، وهو ما كان تكريماً كبيراً، باعتبارها المرة الأولى، التي يتم فيها تعيين مدرس، بتلك الكلية الملكية العريقة، من خارج دول الكومنولث، وانتقلت للإقامة من سكن الطلبة، إلى فيلا هيئة التدريس. سمح لي فائض راتبي، من الحكومة البريطانية، في نهاية مدة تعييني، أن أشتري سيارة جديدة من إنجلترا، وبدلاً من استلامها من ميناء الإسكندرية، فور عودتي إلى مصر، قررت استلامها في إنجلترا، لأحقق حلمي القديم، بزيارة مدينة جاب الفرنسية، لأرى، على الطبيعة، ما أبدع يوسف السباعي في وصفه في رواية "نادية".

ركبت سيارتي الجديدة، ومعي زوجتي وابنتي الكبيرة، الصغيرة حينها، رانيا، وعبرنا بحر المانش، بالعبارة، من إنجلترا إلى فرنسا، ثم إلى باريس، فقضينا بها ليلتنا، قبل أن نتوجه في صباح اليوم التالي، جنوباً إلى مدينة ليون، ووصلنا إلى جرونوبل، وبعدها إلى مدينة جاب في منتصف اليوم، فتركت زوجتي وابنتي في أحد مطاعم القرية الصغيرة، العامرة بألذ الأطباق الفرنسية الأصيلة، وانطلقت أتجول في جنبات المدينة، لساعات طويلة، استعيد خلالها تفاصيل وصف يوسف السباعي، التي حفظتها عن ظهر قلب ... فها هي البحيرة التي تمتلئ بالمياه من جبال الألب الفرنسية، وها هي الصخرة، ولابد أن تلك هي المدرسة التي عملت بها نادية، وهذه طرقات المدينة الجميلة النظيفة.

لم انتبه للوقت، إلا على صوت زوجتي تنبهني أن الليل يقترب، ونحن على موعد لعبور الحدود الفرنسية إلى إيطاليا، فبدأنا التحرك، وأمامنا جبال الألب، تكسو قمهها الثلوج البيضاء، في مشهد مبهج أسعد صغيرتي. كنت استخدم خريطة للطرق، لا تحتوي هيئات الطبيعة، فلم أدري أنني أصعد جبال الألب بالسيارة، حتى رأيت منحنيات الجبال، وشيئاً فشيئاً بدا الطريق كله مغطى بالثلوج، ولا يظهر منه سوى علامات إطارات السيارات، التي تسير أمامنا. ورغم أن المسافة كانت ٢٠٠ كم، إلا أننا قطعناها في ٥ ساعات، حتى وصلنا إلى نقطة الحدود الفرنسية-الإيطالية، وكان الليل قد أحكم ظلامه علينا، وتعذرت الرؤية تماماً، فمكثنا على نقطة الحدود أكثر من ساعة، وقام ضابط الجوازات بتفتيش السيارة، قبل أن يسمح لنا بالمرور، ووجدها ممتلئة بالمراجع الدراسية التي حملتها معي من إنجلترا، وبعض الأغراض الشخصية لعائلتي.

دخلنا أول استراحة صادفتنا في إيطاليا، في أحد قرى التزلج على الجليد المنتشرة في تلك المنطقة الحدودية، لنتناول شيئاً من الطعام وشراب ساخن، وأثناء حديثي مع ابنتي، تقدم نحوي شاب، وسألني بالعربية، "أنت مصري؟"، فأجبته بالإيجاب، وتصافحنا، وعلمت أنه مصرياً يعيش في إيطاليا، ومعه زوجته في رحلة للتزلج. وعندما علم بنيتي للاتجاه إلى إيطاليا، أفاد باستحالة القيادة ليلاً، لخطورة الانزلاق من على مرتفعات جبال الألب الإيطالية، وبكرمه المصري، أصر أن نقضي ليلتنا معه، هو وزوجته، التي رحبت بنا بشدة، في ذلك الكوخ الخشبي، الذي طالما رأيناه في الأفلام الأجنبية، حيث تناولنا العشاء حول نار المدفأة، وخلدنا إلى النوم، واستيقظنا في السادسة صباحاً، فإذا بهما قد أعدا لنا وجبة الإفطار، ولم يكتفيا بذلك، ولكن بشهامة المصري الأصيل، خلع سلاسل حديدية يستخدمها فوق إطارات سيارته، لتعينه في المناطق الثلجية، وقام بتركيبه على إطارات سيارتي، لتأمينها ضد مخاطر الطريق.

غادرنا جبال الألب الإيطالية، وأعتقد أنه لولا فضل من الله، ثم هذه السلاسل، لم وصلنا إلى نابولي، في قلب إيطاليا، لنصعد إلى السفينة المصرية، التي أقلتنا إلى الإسكندرية ... وهكذا انتهت مغامرتي بالوصول إلى جاب، وحققت أحد أحلام شبابي، بعدما قرأت رواية "نادية" للأديب الكبير يوسف السباعي.

Email: [email protected]

أضف تعليق

المنصات الرقمية و حرب تدمير الهوية

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2