د. ناجح إبراهيم يكتب: رجائي فايد .. مفكر مصرى في كردستان العراق 2- 2

د. ناجح إبراهيم يكتب: رجائي فايد .. مفكر مصرى في كردستان العراق 2- 2د. ناجح إبراهيم يكتب: رجائي فايد .. مفكر مصرى في كردستان العراق 2- 2  

*سلايد رئيسى27-4-2019 | 20:39

لم يكن يفكر يوماً في السفر للعراق ولكن الأقدار ساقته لذلك,فقد كان شقيقه الأصغر عماد يعمل مهندساً بالعراق وتزوج كردية وأقام معها في الموصل وعرف حاجة الشركة لمهندس زراعى تخصصه اقتصاد فقال لهم:أخى مختص بذلك فوافقوا  ،ذهب إلي العراق والعلاقات بين النظامين السياسيين المصرى والعراقي في أسوأ حال بعد معاهدة كامب ديفيد ومؤتمر بغداد الشهير والمظاهرات العديدة ضد الاتفاقية في العالم العربي والهجوم علي مكتب مصر للطيران في بغداد ووقف رحلاتها من القاهرة لبغداد وبالعكس.
كان صاحبنا مؤمنا وقتها بأن إسرائيل هي العدو التاريخي وأن السادات أخطأ خطأ تاريخياً بذك ورغم ذلك سافر للعراق,مستجيراً من الرمضاء بالنار,وصل إلي مطار بغداد الذي أصبح فيما بعد مطار صدام,فوجيء باستقباله في المطار بالحلوى والعصائر,علم بعدها أن هذا اليوم هو عيد تأسيس حزب البعث العراقي,في كل الشوارع زينة وورود وأغانى حماسية وكلمات تهنئ المهيب الركن/حسن البكر ورفيقه المناضل الفريق الركن/صدام حسين وكلاهما حصل علي هذه الرتب الرفيعة  رغم أنهما لم يتخرجا من أي كلية عسكرية.
أبدى لشقيقه دهشته من هذا المشهد فرد عليه"اسكت أنت مش في مصر"كان يذهب يومياً للمكتبة العامة بالموصل،ذهب يوماً إلي متحف الآثار الآشورية بالمدينة فقوبل بالدهشة لأنه أول مصرى يزور المتحف رغم كثرة المصريين هناك،تعرض هذا المحتف للسلب والنهب والتدمير مرتين مرة بعد سقوط بغداد بيد الأمريكان ومرة بيد داعش". كتب نقداً لقصة منشورة في جريدة الجمهورية العراقية أرسله لمقر الجريدة فوجئ بالنقد ينشر بعد أيام قارن ذلك بمعاناته في مصر في هذا الشأن,تعرف علي الفلسطيني رئيس القسم الأدبي في الجريدة، بعدها نشر عدداً من قصصه فيها,لم يكن النشر بالمجان كما هو في مصر,راسل عدة مجلات عراقية وكتب فيها. استقر في أربيل كان فيها حكم ذاتى,وهي مدينة صغيرة تطير الأخبار فيها سريعاً,سكن في شقة يستأجرها مهندس صعيدى نذرت أسرة صاحبة المنزل محسن القصاب الكردية أن تطعم كل من الشقة علي نفقتها باستمرار,مشاعر نبيلة,كانت ترسل ابنها"فخر الدين كل يوم بالطعام يضعه في المطبخ.
كان العراقيون ينامون علي أسطح المنازل صيفاً هروباً من الحر,أعياد العراق الوطنية كثيرة كلها احتفالات ومسيرات للمؤسسات إلي مقر حزب البعث في كل محافظة ليقف الرفيق المناضل وحوله المناضلون"أعضاء الحزب"ثم كلمات فمسيرات وتصفيق فإجهاد فعودة إلي المنازل. بعد ثلاثة شهور من حضوره للعراق انقلب صدام علي رفيقه البكر وسجنه وصدرت أحكام بالإعدام علي 48 قيادياً بعثياً حاولوا إقصاء صدام عن السلطة لتهوره،هرب معظمهم ونفذ الحكم بالباقين,وطبقا لتقاليدهم البالية فإن الرفاق هم من ينفذون الإعدام.
صدام كان يحب المصريين وله مقولته المشهورة"أي تجاوز عليهم هو تجاوز علي شخصياً"هذه الكلمات رفعت شأن المصريين في العراق وجعلتهم يتوافدون بالملايين وينالون الحظوة التي لن تتكرر بعده"الآن العراق ليس فيها عمل لمصرى ولا لغيره""العراق فتحت في عهد صدام ملايين البيوت المصرية وأغنتها ووسعت عليها والآن هي تحت الوصاية الإيرانية الكاملة ". اندلعت الحرب العراقية الإيرانية وهي أطول حرب بين بلدين إذ استمرت ثماني سنوات وأكلت الأخضر واليابس في البلدين،مشكلة السيادة على شط العرب كانت سبباً رئيسياً في اندلاع الحرب العراقية الإيرانية,وقد رسمت الحدود العراقية الإيرانية بموجب ميثاق سعد إياد سنة 1937 ويقضى بوقوع الخط الحدودى الفاصل بين الدولتين شرق شط العرب أي يقع ضمن السيادة العراقية بالكامل. حاول شاه إيران تعديل الخط الحدودى ليقتسم السيادة علي الشط مع العراق دون جدوى,فقام بدعم الأكراد والمتمردين وأقام لهم معسكرات داخل إيران وأمدهم بالسلاح والمال لشن عمليات عسكرية داخل العراق. والغريب أن إيران دعمت أكراد العراق للاستقلال ومنعت أكراد إيران من ذلك ووقفت في وجههم،إنه ازدواج المعايير المقيت في السياسة"فعلت ذلك إيران الخوميني حينما دعمت الأكراد ضد صدام،فلما آل حكم العراق إليها فعلت العكس وضربت أكراد العراق وإيران ضربات قاصمة مع إعدامات متواصلة للأكراد اليوم بإيران".
عندما وصل البعث إلي سدة الحكم حاول صد هجمات الأكراد دون جدوى فلم يجد بداً من الرضوخ للمطالب الإيرانية واقتسام السيادة على شط العربي بينهما وذلك بمعاهدة الجزائر التي وقعها صدام نفسه. فلما قامت ثورة الخوميني رافعة شعارات"تصدير الثورة ونصرة المستضعفين" شجعت شيعة وأكراد العراق علي الثورة,فقامت انتفاضة شيعية في الكاظمية,وحاول الشيعة اغتيال طارق عزيز وشجعوا الأكراد علي الثورة  فألغي صدام اتفاقية الجزائر التي وقعها بنفسه،واستأثر بشط العرب كله فقامت أسوأ الحروب بلا معنى ولا هدف ولا فائدة وصبت في مصلحة إسرائيل والغرب. من تقاليد أكراد أربيل ألا يسكن الأعزب في المناطق السكنية للأسر,أحضر زوجته وأولاده وسكن في مجمع سكنى خاص بالأسر. عين صدام ابن عمه علي حسن المجيد حاكما للمنطقة الشمالية وأقسم بشوارب صدام وهو قسم لو تعلمون عظيم أنه خلال عام سيتجول الرئيس دون حراسة في المنطقة الحدودية حتى الحدود الإيرانية والتركية. وفي عام 1987 تعرض وادى باليسان الواقع بمحافظة أربيل لهجوم بالأسلحة الكيماوية لأول مرة قتل فيه"103"وأصيب 346 نقلوا إلي مستشفي أربيل المركزى ومنه إلي السجن،وبعدها بدأ الفلاحون يبيعون أغنامهم بثمن بخس فلا طعام للأغنام ولا مأوى لأصحابها,ومنع وصول الغذاء إلي هذه القرى المحظورة المتمردة.
عرف بعد مغادرته العراق أن"علي الكيماوى"اقتاد كل الرجال البالغين فوق 15 عاماً ويبلغ عددهم بحسب بيانات الحركة الكردية 182 ألفاً إلي جهات مجهولة ولم يعودوا،وبعد سقوط نظام صدام وجدوهم في مقابر جماعية. قدمت زوجته كأمينة مكتبة أربيل صورة جيدة عن المرأة المصرية غير التي ترسخت في أذانهم عبر الافلام والمسلسلات المصرية التي تصورها سكيرة ولعوب وراقصة . كانت الحكومة تلزم أئمة المساجد"ملالي"بالدعاء لصدام حسين في الوقت الذي دعت فيه الحركة الكردية لقتل كل إمام يدعو لصدام,فوقعوا بين شقي الرحى,بعضهم قتل وبعضهم امتنع ففصل. طلبوا من مؤسسة ارسال عشرة منتسبين،كان صاحبنا منهم,كان حظه العاثر أنها حفلة إعدام للهاربين من الحرب العراقية الإيرانية,أوقفوا 15 شخصاً تم جرجرتهم علي الأرض أوقفوا وقيدوا بصعوبة,كان بعضهم من أربيل,انطلقت الرصاصات لأجسادهم هتف الرفيق مصفقاً"يحيا العدل عاش الرفيق البطل صدام"وردد الجميع الهتاف رعباً وخوفاً,بعد إعدام مجموعات منهم اتصل صدام وعفا عن الباقين،تمثيلية مكررة بين الحين والآخر،مازالت هذه الواقعة تعتمل في عقله حتى اليوم. بعدها بأيام تعرض محافظ أربيل لمحاولة اغتيال رداً علي ذلك,قبض علي الجناة بعدها وأعدموا أيضاً. يمكنك أن تستخرج من طيات مذكراته حقيقة مرة مفادها:أن الأكراد استخدمهم الآخرون ثم غدروا بهم,فإيران الشاه استخدمتهم ضد البكر وصدام العراق,ثم غدرت بهم,وإيران الخوميني استخدمتهم لإسقاط صدام ووعدتهم بالاستقلال زوراً ثم غدرت بهم بعد أن تمكنت مع أتباعها من العراق كله واستخدمتهم تركيا ثم غدرت بهم وأمريكا غدرت بهم مراراً.
لم يتفكر الأكراد يوماً في كيفية تشجيع إيران وتركيا لأكراد العراق علي الانفصال وهم كانوا يقمعون الأكراد في بلادهم,واستقلالهم عن العراق سيشجع إضافة دول كردية علي حساب هذه الدول الثلاث تركيا وسوريا وإيران. الأكراد رغم أنهم من أذكى الشعوب لكن استخدمهم الجميع لتحقيق أغراضهم حتى إذا حققوها ألقوا بالأكراد مرة أخرى إلي الجحيم,الأكراد ورقة يريد الجميع أن يلعب بها ثم يلقيها متى شاء,لم يتعلم الأكراد أنه لم يصبح لهم كيان حقيقي محترم ومعظم عند الجميع إلا عندما ذابوا في أمتهم وأخرجوا أمثال صلاح الدين الأيوبي وسادوا العرب جميعاً. تحولت الحرب العراقية الإيرانية في عامها الأخير إلي صواريخ علي المدن اشترى صدام الصواريخ  من كوريا الشمالية الشيوعية وسماها بأسماء إسلامية"الحسين والعباس"وفعلت إيران مثل ذلك فاشترت من روسيا وكوريا الشمالية. سمي صدام عملياته ضد الأكراد العراقيين"الأنفال"وتم فيها تدمير وحرق وسلب مئات القرى الكردية وطمر كل عيون الآبار وذلك لإعادة الأمن إلي هذه المنطقة المتمردة. ويذكر أ/رجائي أن طالباً كردياً أعطي صورة صدام ليرفعها في إحدى المناسبات القومية فألقاها علي الأرض فإذا بالرصاص ينطلق من أحد الأشاوس لترديه قتيلاً علي الفور.
كان تعداد العراق عشرين مليوناً وتواجه إيران ذات الخمسين مليوناً فتفتق ذهن صدام إلي حملة"تناسلوا تكاثروا" لسد النقص العددي أثناء الحرب،كانت الحملة مهزلة مضحكة . وحول زيارات صدام للأسر في البيوت واستطلاع أحوالهم, شهد أ/رجائي وهو من يكره صدام بأن هذه الزيارات كانت حقيقية ومفاجئة ولم تكن تمثيلية وأن صدام كان يدخل مطبخ الأسرة ويتذوق الطعام بنفسه. بذل صاحبنا جهداً كبيراً ليدرس اللغة الكردية في آداب عين شمس ونجح في ذلك بعد محاولات مضنية بالاتفاق بين جامعتي عين شمس وصلاح الدين في أربيل,كما ساهم بقدر كبير في تأسيس جمعية الصداقة المصرية الكردية,كما رتب زيارات كردية للأزهر والكنيسة معاً. ودعت كردستان العراق شيخ الأزهر لزيارتها فأوفد الشيخ محمود عاشور الذي استقبل بحفاوة كبيرة وعلي إثر ذلك أقيم معهد أزهرى في أربيل مع منح مجانية للأزهر للعشرة الأوائل في الاقليم. ورغم عدم حصول أ/رجائي علي الدكتوراه إلا أن غزارة علمه وتبحره في الشأن الكردى رشحه لكي يشرف علي 15 رسالة أكاديمية في العلوم السياسية"ماجستير ودكتوراه"لطلاب من العراق وفلسطين والمغرب عن الشأن الكردى كما شارك في مناقشة الكثير من رسائل أخرى. هل استطاعت إيران استقطاب بعض الأكراد أثناء حربها مع صدام؟؟نعم وبكل تأكيد,فبعض قادة الأحزاب الكردية وخاصة اليسارية كانوا يضعون صور الخوميني في مكاتبهم. هل انتقل بعضهم من اليسار إلي التشيع نعم,ولكن لم تستطع إيران اقتلاع الفكر السني الوسطي,فالأكراد تأثروا فترة بالفكر اليسارى ثم انتقل بعضهم إلي التشيع والآن يميل أكثر قادتهم إلي الفكر الديمقراطي الليبرالي ويرحبون بالدولة الديمقراطية وليست القومية التي تنصر قوماً علي قوم وهذا آخر ما وصل إليه أهم زعمائهم عبد الله أوجلان الذي ينشر مراجعاته باستمرار من سجنه بتركيا.
زار صدام أحد المدارس الثانوية ودخل"وهو الديكتاتور الشهير"في درس أخلاقي طويل في أحد الفصول وتحدث عن القدوة التي يجب الاقتداء بها في كل مكان وذكر صفاتها،وطلب من الطلاب اختيار قدوة لهم فوقع اختيارهم علي أحدهم وسبب الاختيار"وكان بالطبع"أنه بدرجة نصير متقدم في الحزب القائد,ولما أذيع هذا المشهد في التلفزيون أصبح تكليفاً ذاتياً لاختيار الطالب القدوة علي مستوى الفصل والمدرسة. "درجات العضوية في حزب البعث من الأدنى للأعلى مؤيد،ونصير،ونصير متقدم,عضو متدرب,عضو,عضو فرقة,عضو شعبه,عضو فرع,عضو قطرية,أمين سر قيادة قطرية وهو صدام نفسه". والغريب أن صدام لم يدرس في أي كلية عسكرية وأعطى نفسه رتبة المهيب الركن"أي المارشال"في حين أن هذه الدرجة في الغرب لا تمنح إلا للقادة العسكريين الذين انتصروا في عدة معارك كبرى(وهذا يذكرنا بكلمة مونتجمري عندما طلب عامر مقابلته:فاستغرب رتبته ماريشال"مشير"قائلاً:كم حرباً كبرى خاضها,قالوا:ولا حرب,قال كيف حصل علي هذه الرتبة ففي تاريخ بريطانيا كله ستة مارشالات فقط). شهد الأوامر الصدامية لكبار موظفي الدولة"مدير عام فما فوق"بانقاص وزنهم ومنحهم مهلة 6 شهور فإن فشل في ذلك تخفض درجته الوظيفية مع احتفاظه بمنصبه ويتكرر ذلك بعد 6 شهور. تاريخ الدول العربية الحديثة طويل وعجيب وغريب، وفيه من المآسي والأحزان أكثر من الأفراح ، شكراً للأستاذ /رجائي فايد علي المتعة الكبيرة التي ساقها إلينا ومعها الآلام الشديدة علي أوضاع أمتنا.
    أضف تعليق

    إعلان آراك 2