دار المعارف
من منا لم يستمع إلى تتر مسلسل "رأفت الهجان"، حتى يتذكر صانعها عمار الشريعى، والتى تحولت إلى نغمة أساسية فى كل الأعمال المتناولة للجاسوسية، بسبب تميزها وجمعها بين الحماس والشغف وحب الوطن.
ولد عمار الشريعى فى مركز سمالوط بمحافظة المنيا فى أبريل من العام 1948، لأسرة تمتد جذورها إلى عائلة هوارة بالصعيد، ودرس بمدرسة المركز النموذجى لرعاية وتوجيه المكفوفين، وهناك تلقى علوم الموسيقى الشرقية فى إطار برنامج أعدته وزارة التربية خصيصًا للطلبة المكفوفين.
وعلى الرغم أن الراحل ولد كفيفا ولم ير نور الدنيا، إلا أنه نبغ في الموسيقى وتألق في سمائها، فتلقى عمار علومه الموسيقية ودرس التأليف الموسيقي عن طريق مدرسة "هارلي سكول الأمريكية " لتعليم المكفوفين بالمراسلة، كما تلقى علوم الموسيقى الشرقية على أيدي مجموعة من الأساتذة الكبار بمدرسته الثانوية، في إطار برنامج مكثف أعدته وزارة التربية والتعليم للطلبة المكفوفين الراغبين في دراسة الموسيقى، ثم التحق لفترة وجيزة بالأكاديمية البريطانية للموسيقى.
أخذ الطفل الكفيف الموهبة وحب الموسيقى من والدته، التي وصفها بـ"الفلكلور المتنقل"، لغنائها في جميع الأحوال، عند الفرح وعند الحزن، بل إنها حكت له أنه كان يتجاوب معها عندما كان رضيعا وخلال سنواته الأولى، وعلى الرغم من حب والدته للموسيقى إلى هذا الحد، إلا أنها أول من اعترضت طريقه، خاصة بعد وفاة والده، لإصرارها على أن يسلك طريق عميد الأدب العربي طه حسين، واتفق معها أعمامه وأخواله، فلم يكن من الفتى الطامح، إلا أن التحق بكلية الآداب، وأحضر لها الشهادة الجامعية بعد 4 أعوام، وتركها عندها، ليبدأ مشواره الحقيقي الذي صاغته له الأقدار.
تنقل عمار في بداية حياته العملية بين عدة فرق متواضعة، كعازف أوكورديون، قبل أن تعرفه الشهرة، حتى جاء العام 1975، عندما لحن أغنية "امسكوا الخشب" للمطربة الراحلة مها صبري، ثم انتقل إلى الفرقة الذهبية بقيادة صلاح عرام، وبعد هذا اللحن لم يطلبه سوى المخرج الراحل نور الدمرداش، الذي أسند إليه ألحان مسلسلى "بنت الأيام" و"السمان والخريف"، لتلتقطه المطربة الكبيرة المعتزلة شادية، ليصوغ لها ألحان أغنية "أقوى من الزمن"، وربما كانت تلك الأغنية صاحبة الفضل الأكبر في شهرته.
تعلم عمار العزف على الآلات بمفرده، الأورج والأكورديون والعود، فحكى فى حوار له كيف أن أحدهم سرق الأورج، الذى كان يعزف عليه فى أحد ملاهى شارع الهرم، فحرمه من الفرصة الوحيدة التى كان ينتظرها، لقاء أم كلثوم، كان خارجًا من الملهى واستقل تاكسى وضع فى شنطته جهازه الموسيقى، وأنزله الرجل عند بيت الست، لكنه رحل بالأورج، فلم يذهب للموعد الذى حددته له.
علاقة الأصوات بعمار الشريعى مدهشة جدا، فعلم نفسه التعامل مع الكمبيوتر لأنه كان يريد ألا يتعطل وهو يمل النوتة لآخرين، وأنه يريد تسجيل «حروف جملته الموسيقية» أولا بأول، وساعده الكمبيوتر على ملاحقة خياله، فكان يقوم بإصلاح ما يتعطل من أجهزة فى الاستديو الخاص به بمنطقة الدقى فى شارع على إسماعيل تحديدا.
على مدار سنوات عمره أنتج الشريعى أكثر من 150 أغنية و50 فيلمًا و150 مسلسلًا و30 عملًا إذاعيًا و10 مسرحيات، وكلها أعمال جمعته تقريبًا بأجيال مختلفة من المطربين والشعراء، وشكلت نقاطًا مضيئة لا تُنسى فى مسيرة كل من تعاون معه، بدءًا من وردة ومها صبرى وعفاف راضى وعلى الحجار ومحمد منير ومحمد الحلو ومحمد ثروت، مرورًا بأنغام وهدى عمار ولطيفة ونيللى ولبلبة وحتى آمال ماهر وغادة رجب وطارق فؤاد وأحمد سعد، وغيرهم كثيرون.
ومن الجوائز والأوسمة التي حصل عليها الشريعي: جائزة مهرجان فالنسيا، إسبانيا، عام 1986، وجائزة مهرجان فيفييه، سويسرا، عام 1989، وجائزة الحصان الذهبي لأحسن ملحن في إذاعة الشرق الأوسط لسبعة عشر عامًا متتالية، وجائزة الدولة للتفوق في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة، عام 2005.
في ديسمبر 2012، توفى الشريعي، تاركًا ثروة موسيقية تضم عشرات الأغنيات والأعمال الموسيقية فى الأفلام منها "الشك يا حبيبي" وحب في الزنزانة" و"كتيبة الإعدام" وأفلام أخرى، أما أعماله الموسيقية التليفزيونية فضمت مسلسلات "دموع في عيون وقحة" و"رأفت الهجان" و"عصفور النار" و"أرابيسك" و"الراية البيضا" و"الشهد والدموع" و"حديث الصباح والمساء" وغيرها، أما من أشهر أعماله الموسيقية المسرحية فهناك "رابعة العدوية" و"الواد سيد الشغال" و"إنها حقًا عائلة محترمة" وغيرها.
"دار المعارف" يرصد العديد من الحقائق حول الكفيف، الذى لُقب بـ"ملك الموسيقيين"، وذلك فى ذكرى ميلاده، الذى يتوافق فى شهر أبريل، وتحديدا فى يوم 16.
ظلم نانسي عجرم..
غادر عمار الشريعي حفلا كانت تحييه الفنانة اللبنانية نانسي عجرم، لرفضه أن تغني لأم كلثوم، ولكنه ندم على هذا التصرف بعدها بعامين، بعد أن استمع لنانسي وهي تغني في أحد الحفلات، وأعجب كثيرا بخامة صوتها.
وأصبح عمار الشريعي ونانسي عجرم أصدقاء مقرّبين، بل وتعاونا فنيا في أغنية قدّمتها في مهرجان القاهرة الدولي للأغنية في 2007.
كيف يعمل؟
تكشف الإعلامية ميرفت القفاص زوجة عمار الشريعي عن طقوسه اليومية، ومنها أنه كان قليل الخروج بعد انتقاله للإقامة في فيللته المطلّة على نيل القاهرة، في منطقة المنيل، وأنه كان حريصا على أن تسمع هي وابنهما مراد أعماله الموسيقية فور أن ينتهي منها.
هاجم أبو الليف..
عند ظهور المطرب نادر أبو الليف للمرة الأولى في 2010، بألبوم "كينج كونج"، نال انتقادات شديدة من جانب عمار الشريعي، ما جعل أبو الليف يبكي، فيرى الشريعي أن صوت أبو الليف يشبه صوت المطرب اللبناني جورج وسوف.
ولكن أكد عمار الشريعي فيما بعد أنه كان قاسيا في نقده على أبو الليف، وأعلن عن تعاونه معه في تتر مسلسل "بيت الباشا"، من بطولة صلاح السعدني، ولكنه مشروع لم يرى النور.
سرقة لحن رأفت الهجان..
صرح الناقد طارق الشناوي أن عمار الشريعي استوحى جزء من موسيقى مسلسل "رأفت الهجان" من مؤلف وملحن يهودي ألماني، ولكنه لم يعلن هذا، ووضع اسمه فقط على اللحن، وأشار أن هذه كانت هي نقطة الخلاف الوحيدة بينهما.
ويقول طارق الشناوي: "من حق عمار الشريعي طبعا أن يقتبس جملة لحنية ما من موسيقي آخر، وهذا يحدث كثيرا وبشكل طبيعي، ولكن المفروض أن يكتب هذا بشكل واضح".
الإبداع وإضافة الجديد..
لم تكن موهبة عادية بشهادة كل من حوله، فقد شارك عمار الشريعي بالتعاون مع شركة ياماها فى استنباط الربع تون الشرقي من الآلات الإلكترونية، شارك بالتعاون مع شركة "إميولتور" الأمريكية فى إنتاج عينات من الآلات التقليدية والشعبية المصرية والعربية.
كما أضاف تطويرًا للعود، وابتكر العديد من الإيقاعات والضروب الجديدة، وأعاد صياغة وتوزيع العديد من المقطوعات الموسيقية والأغنيات، وتناولت العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه العديد من أعماله فى كلية التربية الموسيقية، جامعة حلوان، وكلية التربية النوعية، جامعة القاهرة.
المكفوفين..
ساهم عمار الشريعي مع مؤسسة Dancing Dots الأمريكية فى إنتاج برنامج Good Feel، والذى يقدم نوتة موسيقية بطريقة برايل للمكفوفين، وقدم وأعد برنامجا إذاعيا لتحليل وتذوق الموسيقى العربية بعنوان "غواص فى بحر النغم" عام 1988، وأعد وقدم "برنامج سهرة شريعي"، على قناة دريم الفضائية.