محمد القصبي يكتب: باندونج كازاخية ..لتحرير ثقافة العالم الأول!

محمد القصبي يكتب: باندونج كازاخية ..لتحرير ثقافة العالم الأول!محمد القصبي يكتب: باندونج كازاخية ..لتحرير ثقافة العالم الأول!

*سلايد رئيسى9-9-2019 | 19:04

كلماتهم تلفحني بدفء ..بل بسخونة الخمسينيات والستينيات ..زمن استعادة الشعوب المقهورة هويتها..والانفكاك من أغلال المعسكرين، الشيوعي والرأسمالي ..زمن عدم الانحياز والحياد الإيجابي ..زمن "باندونج" .. أظنهم ..مئات من أدباء آسيا ..حين التقوا في كازخستان ..الأسبوع الماضي كانت تجري في شرايينهم دماء باندونج ..البحث عن وسائل تعينهم على عتق الأدب الأسيوي من أغلال الثقافة الغربية.

هل تعاني ذاكرة أجيالنا الجديدة شيئاً من أنيميا المعرفة بما جرى في "باندونج" منذ 64 عاما ؟ هذا بإيجاز ماجرى في تلك المدينة الأندونيسية في 21 أبريل عام 1955 حيث اجتمع قادة 29 دولة أفروأسيوية ، يحدوهم الأمل في أن يجدوا طريقاً " ثالثاً" نحو الاستقلال السياسي بعيداً عن المعسكرين القويين اللذين طفحا من حقول ألغام الحرب العالمية الثانية ..فقد كان هذا حال العالم في تلك الفترة ..معسكر رأسمالي تقوده الولايات المتحدة ، ومعسكر شيوعي تقوده موسكو ،ونشبت بينهما ماسُمي بالحرب الباردة.. تلك الفترة شهدت اشتعال روح التحرر من ربقة الاستعمار ، حيث حصلت العشرات من الدول على استقلالها ..لكن الاستقلال لم يكن يعني كل شيء ،فكيف تشق تلك الدول طريقها في عالم مفاتيحه في قبضة العملاقين ..الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ؟ وما كان متاحاً سوى خيارين ..التبعية لهذا المعسكر أو ذاك ..

مبكراً ..مبكراً جداً أدرك الزعيم الهندي لال نهرو مايمكن ان تكون عليه تضاريس العالم عقب انتهاء الحرب ..لذا دعا عام 1943 وخلال أتون الحرب العالمية إلى مؤتمر في نيودلهي، تشارك فيه الدول الأسيوية في محاولة لإيجاد طريق مستقل نحو المستقبل من خلال إنشاء منظمة تجمعها .. إلا أن المؤتمر لم يحقق نجاحاً كبيراً..بسبب تباين توجهات الدول المشاركة ..

مما حال دون الانتهاء إلى رؤى مشتركة..

لكن زعماء الهند وباكستان وأندونيسيا أعادوا المحاولة مرة أخرى ،خاصة مع وضوح المشهد العالمي ،بانقسام الكوكب إلى معسكرين .. لاثالث لهما .. فكانت الدعوة لمؤتمر باندونج في أبريل عام 1955 ..واتسعت دائرة المشاركة لتشمل دول آسيا وأفريقيا .. وهو المؤتمر الذي انبثقت عنه بعد ذلك حركة دول عدم الانحياز ، وانبثقت عنه زعامة قادة على المستوى العالمي ، مثل نهرو وجمال عبد الناصر وتيتو ..الذين لعبوا دوراً عظيماً في تفعيل حركة عدم الانحياز ،

بما يخدم طموحات الشعوب في التحرر والحفاظ على استقلاليتها بعيداً عن أتون الحرب الباردة. الآن تنطلق من كازخاستان دعوات من كبار أدباء آسيا لانفكاك الأدب الأسيوي من هيمنة التأثير الثقافي الغربي ..

فهل يمثل ملتقى كازاخاستان باندونج جديدة ..ثقافية ؟ في كلمته الافتتاحية دشن الرئيس الكازاخي قاسم زومارت توكاييف مشروع التحرر الثقافي لآسيا حين دعا إلى ضرورة تعزيز الصناعة الإبداعية الأسيوية ..بما يظهر للعالم أوجه الثراء في التراث الروحي للقارة .. وقدم "قاسم" العديد من المقترحات التي تسهم في تحقيق هذا الهدف ، مثل إطلاق "جائزة آسيا الكبرى" ، وتأسيس مكتبة إليكترونية لأعمال كتاب القارة..وترجمة أبرز أعمالهم.

وبالطبع مثل هذه المشاريع لا يمكن أن ترى النور بجهد دولة واحدة..بل بالتعاون بين دول القارة كلها وهذا ماألح عليه الرئيس الكازاخي في كلمته. الكاتب الكوري الجنوبي "كويون" الحائز على جائزة نوبل أعاد إلى الأذهان خلال كلمته بالمؤتمر بعضاً من طفح الحرب العالمية الثانية ، خاصة هذا المصطلح القميء ..مصطلح "العالم الثالث"..للانتقاص من أهمية وقيمة تلك الدول ، ومن بينها بالطبع الدول الأسيوية ،وشدد على ضرورة أن تبدأ البلدان الأسيوية رحلة السعي لاستعادة مكانتها الثقافية والأدبية..بينما طالب الكاتب المنغولي " ماند أوويو" بالحد من انتشار الثقافة الغربية..والسعي لنشر الثقافة الأسيوية ..

في حين شدد الكاتب "كيبلينج " على أن الغرب هو الغرب، وعلى الشرق أن يبقى شرقاً..وأنه لاينبغي السماح بهيمنة الثقافة الغربية .. وقال إن أحد السبل لبروز الثقافة الأسيوية على مستوى العالم إنشاء صندوق مهمته دعم تلك الثقافة ونشرها. ولاأظن أن الثقافة الأسيوية وحدها التي تعاني من تغول الثقافة الغربية.. أتذكر حديثاً صحفياً للمترجمة الأسبانية ميلا جروس توين أدلت به منذ عدة سنوات حول العقبات التي تواجه ترجمة الأدب العربي نوهت خلاله إلى إن دور النشر الكبرى تفرض على المترجم أعمالا تخوض في موضوعات بعينها ..وفي الغالب تتعلق بوضع المرأة العربية والجنس والاضطهاد السياسي والفساد ..وزادت :دور النشر تدرك أن القاريء الغربي ينظر إلى العالم العربي كشيء مغلق ..وتقوم بترجمة أعمال على هذه الشاكلة وتقدمها إلى هذا القاريء كمفاتيح للعوالم العربية ..

هذا الذي تفعله دور النشر الغربية مع الأدب العربي تفعله أيضاً مع الأدب الأسيوي والأفريقي .. إنها مؤامرة تنتهي برسم صورة ذهنية مشوهة للانسان" غير الغربي" في العقل الجمعي عبر ضفتي الأطلنطي..والمشكلة أنه أمام إغراء الانتشار العالمي قد يسيل لعاب بعض الكتاب فيكتبون كما يريد الآخر أن يرانا ..شعوب متخلفة .. مهووس ذكورها بالجنس ..والمرأة مجرد آلة للمتعة ..وخارج هذا الإطار فهي مخلوق لاحول له ولاقوة .. وأعمال مثل تلك تبدي دور النشر الكبرى في الغرب حماساً فوق العادة لترجمتها .. فيحقق صاحبها الانتشار خارج موطنه اللغوي ..وقد يحصد الجوائز ويجري تكريمه في منتدياتهم ومهرجاناتهم ..دون أن يعبأ بالفاتورة الباهظة التي يدفعها الوطن ..مكانته وسمعته ! هل دعا الرئيس الكازاخي قاسم زومارت توكاييف في افتتاح الملتقى الأول لأدباء آسيا إلى تأسيس جائزة آسيا الكبرى تمنح للكتاب الأسيويين المتميزين؟

أظن دعوته تلك رد منطقي على مايلحق بكتاب آسيا ونظرائهم في أفريقيا وأمريكا اللاتينية من ظلم بيِّن من قبل الأكاديمية الملكية باستكهولم المانحة لجائزة نوبل ..فمنذ انطلاق الجائزة العالمية عام 1901 ،وهي تُمنَح في الغالب لأدباء ينتمون عرقياً للغرب ..وكل عشر أو عشرين عاماً تلقى مرة واحدة لغيرهم !

فمن بين الـ 111 مرة التي مُنِحت فيها الجائزة ..حصل عليها 99 كاتباً غربياً..أي بمعدل يتجاوز ال 93%.. لذا يبدو تنفيذ مقترح الرئيس الكازاخي الخاص بإطلاق الجائزة الأسيوية أمراً حتمياً ..وحتمي أيضاً تطوير الاقتراح بإطلاق جائزة عالمية لأدباء "العالم الأول" ..وما أعنيه ب"العالم الأول" ..ليس الغرب..بل آسيا وأفريقيا ،حيث كان مولد الاختراع الأهم في تاريخ البشرية ..القلم ،والورق ، والكتابة .. مع فتح المجال أمام كتاب أمريكا الجنوبية ..شركائنا في المعاناة .. ككاتب مصري أشعر بالرضا لطرح مؤتمر باندونج الكازاخي ..وأراه منعطفاً مهما لانعتاق أقلامنا وكلمتنا من الهيمنة الغربية ..

أضف تعليق

خلخلة الشعوب وإسقاط الدول "2"

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2