ناجح إبراهيم يكتب: الخلاف الفقهى .. رؤية حضارية

ناجح إبراهيم يكتب: الخلاف الفقهى .. رؤية حضارية ناجح إبراهيم يكتب: الخلاف الفقهى .. رؤية حضارية

* عاجل28-10-2019 | 22:16

"التعامل الحضارى فى إدارة الخلاف الفقهى،أنتج ثروة فقهية عظيمة لا مثيل لها فى تاريخ البشرية،وأثمر رحمة بين العباد وتعايشًا بينهم فى جو آمن يسوده الحب والرحمة والسلام،ولا زلنا نرث هذا الرقى الحضارى جيلًا بعد جيل،حتى نبتت فى أمتنا نابتة سوء انتهجت منهج الخوارج،وجعلوا من الفروع الفقهية أصولًا عقدية،كفَّروا بها كل من خالفهم".
هكذا بدأ مفتى الجمهورية د/شوقي علام المؤتمر العالمي الخامس لهيئات الإفتاء في العالم والذى يعقد كل عام في القاهرة ليطرح معضلة عالمية عامة تخص الفقه والفتوى والإفتاء. ويتطور المؤتمر سريعاً من عام إلي آخر ليحافظ علي المكانة العالية التي تبوأتها دار الإفتاء المصرية خاصة والإفتاء المصرى عامة طوال مئات السنين والذي نجح مراراً وتكراراً في أن يجمع بين الواجب الشرعى والواقع العملي جمعاً لا يضيع واجبات الدين ولا يصطدم بالواقع أو يجافيه أو يتغافل عنه ، وتمتع بالوسطية مع الفاعلية ، ولم يشدد يوماً علي الناس.
  بدا المؤتمر رائعاً من اختيار عنوانه وهو"الإدارة الحضارية للخلاف الفقهى"وحتى ختامه بالإعلان عن "وثيقة التسامح الفقهى والإفتائي"وهي وثيقة فريدة في عنوانها ومضمونها ولو طبقت لحلت مشكلات عويصة تعانى منها أمتنا منذ زمن.
وعنوان المؤتمر ووثيقته الختامية تعد صياغات نادرة وغير مسبوقة للإدارة الصحيحة للتنوع والاختلاف الفقهى والإفتائي ، بحيث يصب هذا الاختلاف الذي هو سنة كونية وشرعية لصنع منظومة حضارية وأخلاقية وتسامحية رائعة ،وبحيث يدعم هذا الاختلاف الفقهى التماسك الاجتماعي المعاصر،وعمران الكون والإسهام الفعال في الحضارة الإنسانية المعاصرة،وبحيث يكون بابا للبناء لا الهدم ، وقبول التعددية الفقهية ورفض التمحور المرضي حول الذات والأنا .
لقد حث المؤتمر علي تحديد الأصول الحضارية للتعامل مع الخلاف الفقهي ، مع تجديد النظر للخلاف الفقهي ليكون حلاً للمشكلات المعاصرة وليس تعقيداً لها ، وبحيث يكون تعدد الآراء الفقهية موطن ثراء للفقه وإثراء للحياة،وسعة علي البلاد والعباد ، بحيث يختار كل بلد من الآراء ما يناسب واقعه ومجتمعه .
لقد كان من حسنات المؤتمر إعلان اليوم العالمي للإفتاء،وهذا سيعطى دفعة هائلة لعلوم الفتوى التي تغيب اليوم عن إذهان الخواص قبل العوام. كما أعلن المؤتمر عن تدشينه لمركز"سلام" لدراسات التشدد والتطرف.
وأحيا المؤتمر ذكرى الإمام والفقيه العظيم القرافي،وذلك بعمل جائزة كبرى باسمه "جائزة الإمام القرافى للتميز الإفتائي"والتي ستمنح كل عام لكل من تميز في علوم الإفتاء تنظيراً وتطبيقاً . والقرافي لمن لا يعرفه من أعظم فقهاء الإسلام علماً وفكراً وإفتاء ً وقضاءً وهو الذي وضع مئات النظريات الفقهية التي سبق بها عصره وزمانه وصاغها بأروع أسلوب.
ومن أعظم ما اهتم به المؤتمر إعادة ترسيخ فقه المقاصد الذي دشته العلامة الشاطبي بعد أن رسخه من قبل الصحابة والتابعون في كل أقوالهم وتصرفاتهم ،فقد أعاد المؤتمر فقه المقاصد للصدارة لتكون ميزاناً ضابطاً للفقه الإسلامى ومرجعاً منهجياً لإدارة الخلاف الفقهى وحسم الاختيارات الفقهية لكل مجتمع .
كما أعاد المؤتمر الاعتبار لمراعاة فقه المآلات وترتيب الأولويات وقراءة فقه الواقع وكل أصوليات وأخلاقيات إدارة الخلاف الفقهى،والتي غابت عن خواص العلماء والدعاة فضلاً عن العامة والناس الذين تشاتموا وتلاسنوا بل وشرعنوا التفحش ما دام ضد الخصوم السياسيين أو المذهبيين حتى استباح بعضهم بعضاً دون شعور بذنب أو إثم.
لقد بدت كلمات الإمام الأكبر د/أحمد الطيب رائعة كعهدنا به وإن حال المرض دون أن يلقيها بنفسه فتليت نيابة عنه،ومنها:"الاختلاف والتعدد من سنن الله في خلقه وعلينا أن ننظر إليهما نظرة حضارية ترتكز علي التسامح والإفادة وعمران الكون. "نحتاج لجهود حثيثة لتنزيل الأحكام الشرعية علي واقعنا بمعطياته تنزيلاً يليق بقدسية الأحكام دون إفراط يدفع إلي التشدد الذى يقود للتطرف والإرهاب أو تفريط يؤدى إلي الاستهانة بالدين". "التسامح الفقهى لن يتحقق إلا إذا وجد سلام نفسي وتسامح داخلي يعززه".
"ينبغى علينا نبذ التعصب المقيت والتقليد الأعمى حال التعامل مع القضايا الفقهية القديمة منها والحديثة ومراعاة الدرس المقاصدى في الاجتهاد وصناعة الفتوى".
وعاب فيها علي طائفتين إحداهما"جماعات التشدد والعنف التي أوقدت نار الفتن والاحتراب بين المسلمين بآرائها الشاذة،والثانية التى بحثت عن كل رأى ساقط أو فكرة شاذة ملقاة علي قوارع الطرق فقدمتها للناس علي أنها من الدين وهو منها براء. أما قائد هذا العرس الفقهى د/شوقى علام المتواضع الودود فقد نوه إلي القواعد الذهبية التى صاغها الأئمة الأعلام لرسم المعالم الحضارية للاختلاف الفقهى والتى نأت به عن الجمود والجحود والفتنة وسلكت به مسالك المرونة والسعة واليسر ومنها"لا إنكار في المختلف فيه","الخروج من الخلاف مستحب"وغيرهما. وذكر الحاضرين بعبقرية الإمام مالك الذى رفض عرض الرشيد المغري بحمل الناس علي مذهبه.
وأزيد علي قول المفتى الجليل :"والله لو عرض هذا علي الذين يهاجمون الدين والإسلام والفقهاء لرحب بذلك فوراً ولكنها روح الفقيه العظيم التى تعشق التعددية ولا تخاف منها وترى فيها السعة والمرونة والتيسير ، وعلي كل الذين يشتمون الفقهاء بأنهم ديكتاتوريون أن يبحثوا عن الديكتاتورية الكامنة في أنفسهم والتي تلبستهم طوال حياتهم ، وكيف أنهم لا يقبلون رأى المخالف" .
وأردف المفتى قائلاً"ما زالت أمتنا ترث هذا الرقي الحضارى حتى ظهر الخوارج فحولوا الفروع الفقهية أصولاً عقدية كفروا بها من خالفهم,فتحول التفكير إلي تكفير,لا يعترف إلا بذاته,ولا يعتقد إلا في نجاته وتطور التكفير إلي تفجير فسفكت الدماء الحرام,وانتشرت الفتن.
ثم ختم ختاماً رائعاً"هاهي أمة الإسلام اليوم تصغي إليكم إصغاءها إلي ما يقوله الإمام أحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن"وحقاً نحن في حالة فتنة ولا ابن حنبل لها ، وانتكاسة ولا أبا بكر لها ، وفوضى ولا ابن الخطاب لها،وفرقة ولا صلاح الدين الأيوبى لها.
أما أروع الكلمات فقالها الشيخ الهميم رئيس الوقف السنى العراقي"قراءة الكلمات في مصر لها مذاق مختلف ففي الزمن الاستثنائى لابد من ابتكار كلمات استثنائية,نحتاج لعزف منفرد علي ضفاف القلب,وثورة معرفية بحجم زلزال ينقلنا من الفوضى والحرب إلي السلام"وأردف"لا يتحقق أي منجز حضارى إلا بالثنائيات سالب وموجب,ذكر وأنثى,خير وشر،والإشكالية ليست في التعددية لأنها حاكمة للمجتمع والتاريخ ولكن الإشكالية في إدارة التعدد والتنوع. أما مفتى الأردن د/الخلايلة فهتف غاضباً"متى كان في فقهنا أن من يحرق نفسه أو يقتل نفسه شهيداً"وقال"ليست فوضي الفتاوى إنها فوضى أخلاقية وصراع تيارات أعمت العقول عن إدراك أدب الاختلاف.
ولخص القضية الحبيب الجفرى"لب الإشكال هو نفوس أعيت أصحابها ونحن جميعاً سنسأل أمام الله عن صياغة ما نقدمه لهذا الجيل".
وأبرز ما صدره المؤتمر هو وثيقة التسامح الفقهى والإفتائي"وأوكل مهمة إلقائها لمفتى فلسطين الشيخ محمد حسن تكريماً له ولفلسطين الجريحة ،وأهم ما فيها :- تعترف الوثيقة بالمذاهب المعتبرة فهي مدارس علمية لها مراجعها وأصولها ولا ضير من تبنى أحدها أو التخير منها فقهاً وإفتاءً.
  الاختلاف سنة الله في خلقه وهو باب للتنوع الثقافي والدينى والمعرفى يحترم ويستثمر لتطوير الاجتماع الإنسانى.  نبذ التعصب المذهبي المهدد للمجتمعات الإنسانية والدول. جعل التجربة المذهبية معيناً للإفادة وعوناً للتقدم  القانونى والاجتماعى والأخلاقي.  مواجهة استغلال الاختلاف الفقهي لنشر الكراهية. تحية لفقهاء الإسلام العظام الذين فهموا النص الشرعى فهماً صحيحاً وفهموا واقعهم فهماً دقيقاً وأدركوا كيف يحققون المناط فينزلون الحكم المناسب علي الواقع المطابق له مستخدمين فقه المقاصد والمصالح والمفاسد والمآلات والنوازل والأولويات في عبقرية نادرة .
أضف تعليق

المنصات الرقمية و حرب تدمير الهوية

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2