عاطف عبد الغنى يكتب: قصة «عيد الأم»!
عاطف عبد الغنى يكتب: قصة «عيد الأم»!
مثل كثير من الأيام والمناسبات التى نحتفل بها، بعد أن أخذناها عن الغرب، ولا نعرف أصلها، تأتى مناسبة «عيد الأم».. الأم التى أوصت بها أديان السماء، وكرمها الإسلام ورفع شأنها بما يكافئ دورها فى عمار الكون وحكمة الله من الخلق.. لم ينبع الاحتفال بها من مجتمعاتنا الإسلامية، ولكن المبادرة جاءت من الغرب الأمريكى.
(١)
القصة بدأت قبل ما يزيد على 150 عامًا، فى وقت كانت قد استعرت فيه الحرب الأهلية الأمريكية، وأصبحت العواقب الإنسانية والاقتصادية كارثية بشكل متزايد، خاصة بالنسبة لبعض النساء، الأمهات، وصاحبات القلوب الرحيمة، والعقول الحكيمة اللواتى رأين أحباءهن يأكلهم غول الحرب فإذا ما نجوا من الموت عاشوا يعانون الدمار النفسى والروحى الذى يأتى من قتل البشر، ورأوا أحبائهم يعودون إلى منازلهم من ميادين القتال وقد تغيروا، والبعض منهم أصيب بجروح جسدية فقط ولكن جميعهم ماتوا روحيا.
وفى عام 1865 انتهت تلك الحرب بانتصار ولايات الشمال الأقوى على ولايات الجنوب، لكن المنتصرين لم يشعروا بالسعادة بسبب الانتصار الأجوف، خاصة وأن دعاة الحرب والمتربحين منها كانوا يمارسون الدعاية المؤيدة للحرب الموجهة بالأساس إلى الرجال الفقراء.
فى هذا الوقت وهذه الظروف بزغ نجم جوليا وارد هاو، صاحبة فكرة وإعلان عيد الأم، وكان ذلك عام 1870 .
ولدت جوليا فى أسرة تنتمى للطبقة العليا طفلة عطوفة تعلمت جيدا، وقرضت الشعر، وكانت متحمسة للحرب، وكتبت فى الأيام الأولى من الحرب الأهلية «ترنيمة معركة الجمهورية» مستخدمة العديد من كلمات الكتاب المقدس، واتخذها دعاة جيش الاتحاد أغنيتهم الحربية الأكثر إلهامًا، لكنها أسفت، عندما تم توظيفها فى الحرب الأهلية، التى بدأت للتو ولم تكن قد تحولت بعد إلى مذبحة بالجملة بفضل التقدم التكنولوجى فى الأسلحة التى تحصد الأرواح بالجملة مثل المدافع والبنادق.
ومع اكتمال المأساة أصبحت جوليا من دعاة السلام، إنسانية تهتم بمعاناة الناس. وناشطة نسوية وناشطة فى مجال العدالة الاجتماعية، وبسبب التزامها المناهض للحرب ، كتبت «إعلان عيد الأم» الشهير بعد خمس سنوات من نهاية الحرب الأهلية، التى خلفت 600000 جندى أمريكى قتيل، ومع عدم وجود إحصاء دقيق فالعدد الحقيقى أكبر بكثير من هؤلاء الجنود الذين أصيبوا أو فقدوا فى الحرب أو انتحروا بعد انتهائها.
(2)
وتحدد ٧ مارس عام١٨٧٠ يوم عيد للأم الثكلى، ويوم سلام مناهض للحرب، وصدر بيان يندب القتلى والجنود المنكوبين العائدين من ميادين القتل.
(٣)
كان إعلان عيد الأم بمثابة رثاء للوفيات، ودعوة لوقف الحروب المستقبلية، ولم تكن تلك الدعوة موجهة للرجال، بقدر ما كانت موجهة للنساء، والأمهات فى القلب منهن، أما الرجال فكان معظمهم يرفض الاعتراف، بسبب كبريائهم الذكورى ، بأن رفاقهم القتلى ماتوا فى الحرب دون جدوى، ومن هنا رأت جوليا دعوتها بالأساس إلى النساء اللواتى كن أكثر تفكيرًا وإنسانية ورأفة من الذكور .
(٤)
لقد خرجت الدعوة الأصلية موجهة للأمهات للاحتجاج على الحرب، وبعد سنوات، فى يوم ٩ مايو عام ١٩١٤ أعلن الرئيس الأمريكى ويلسون عيد الأم، عيدًا رسميا ويوم عطلة فى أمريكا.
ومع الوقت تحولت المناسبة فى وعى وسائل الإعلام الرأسمالية التى تسيطر عليها الشركات التجارية، والمجمع العسكرى الذى يقتات على إشعال الحروب، إلى مناسبة تجارية و «بيزنس» ويوم للبيع وجنى الأرباح، لكنه بقى يعكس ظلا باهتا لدعوة نبيلة فى عالم أنهكته الحروب، وفقد إنسانيته، على مذبح الطمع والغرور.