عاطف عبد الغنى يكتب: الأب عيروط (1)

عاطف عبد الغنى يكتب: الأب عيروط (1)عاطف عبد الغنى يكتب: الأب عيروط (1)

*سلايد رئيسى9-6-2017 | 16:06

ملهمته الأولى فى حياته الخيَّرة كانت أمه.. وصفها فى أحد أحاديثه الصحفية بـ «الملاك».. وملاكه – رحمها الله – لم ترد سائلًا أو تتوانَ عن مساعدة محتاج حتى فارقت الحياة.. زوجته أيضًا ذكرها فى معرض حديثه عن العطاء، وأضفى عليها صفة العظمة، وقال إن كثيرين أكدوا له أنها تشبه أمه فى عطائها، وقد تحملت الكثير معه ولم تضجر بسبب انشغاله الدائم فى مطاردة جوع البطون.

0000 (١)

.. ولا أعتقد أن مجرد الإلهام أو التقليد يمكن أن يفجرا طاقة الخير الكامنة فى نفوس البشر ما لم يكن صاحب هذه النفس لديه النزعة والاستعداد والنفس الذكية المؤهلة للاضطلاع بهذا الدور. كنت أود أن أخصص هذه المساحة كاملة للكتابة عن د. نيازى سلام مؤسس بنك الطعام.. لولا هذه الإشارة التى نقلتنى إلى الأب عيروط. .. بنك الطعام المصرى يتقدم بجزيل الشكر لكنيسة القديس كيرلس لتطوع مجموعة من الشباب يوم الأربعاء الموافق 7 يونيو 2017 لقيامهم بأعمال التعبئة للكراتين الشهرية (350) كرتونة بمقر بنك الطعام المصرى فى التجمع الثالث.. هذه الإشارة جاءتنى مما نشره بنك الطعام على صفحته بموقع التواصل الاجتماعى، قلت لنفسى: هناك نصيب غير قليل للإخوة المسيحيين فى هذا الوطن نغفل الإشارة إليه عن سهو أو عمد ليس فقط فى رمضان، ولكن طوال العام، وكأن عمل الخير الحقيقى الذى لا يفرق بين البشر ولا يميز بينهم مقصور ومقتصر فقط على المسلمين.. قلت إن هناك بالتأكيد بين الإخوة المسيحيين من تجاوز بعمله التطوعى الخيرى المناسبات العارضة التى تسعى إلى الأضواء أكثر من سعيها للفعل، ونحن نقبلها ونشيد بها فى الإعلام من باب الدعاية التى تقفز على القناعات الحقيقية وتتجاوزها فى زمن الزيف الذى نعيشه. وقادنى البحث فى سيرة الخيرين إلى هذا الشخص شبه المجهول، المغبون حقه إلا عند خاصته والعارفين بصنيعه.

22222

(٢)

الكاهن الثائر ضد الفقر والظلم كان اسمه هنرى، واسم أبيه حبيب، وجده عيروط، والأخير هو الذى نزح مع أسرته إلى مصر بدايات القرن التاسع عشر، أسرة مسيحية كاثوليكية انتقلت فى وطن واحد كان يضم الشام ومصر عام 1818، وتعلم الأب المولود فى مصر الهندسة المعمارية، وبسبب مهارته ذاع صيته فاختاره البارون إمبان ضمن فريق المهندسين البلجيكيين الذين خططوا وبنوا حاضرة هليوبوليس التى عرفت فيما بعد بـ «مصر الجديدة» والتى استلهموا تراثها من معمارنا الشرقى وبيئتنا فجاءت تعبر عن الهوية فى أجمل صورها. اهتم الوالد بتعليم الابن، وتمنى أن يمضى على دربه فى الهندسة، فألحقه بالتعليم المتاح فى عصره، مدرسة العائلة المقدسة للآباء اليسوعيين الجزويت، لكن الابن كان يرى الحياة بعيون أخرى غير عينى أبيه.. عيون حانية، تعاطفت مع العمال الفقراء فى موقع العمل الذى يشرف عليه الأب، وقد اصطحب صغيره فى زيارة له فرأى رئيس العمال يضرب عاملًا بدعوى التقاعس دون مراعاة للهيب الشمس الحارقة التى يعمل تحت وطأتها لأجل قروش قليلة يكتسبها ليقتات بها وأهله. واكتملت الدائرة فى عقل الصبى وهو فى الثانية عشرة من عمره، حين ذهب فى رحلة مدرسية معتادة تنظمها مدرسته إلى الصعيد، ولمس فى رحلته عن قرب حياة البؤس والشقاء كما لم يعرفها من قبل، وهنا قرر أن يهب نفسه للرهبنة وخدمة الدير، ولكن رغبته قوبلت بالرفض من والديه، ويئس من إقناعهما، فلما بلغ التاسعة عشرة هرب من بيت أسرته وذهب دير الآباء اليسوعيين وبمعاونتهم استخرج أوراق السفر وأبحر إلى فرنسا سرًّا على متن سفينة بضائع متخفيًا فى ثوب كاهن حتى لا يقبض عليه البوليس الذى كان يبحث عنه ليسلمه إلى والده.. وبعد عامين كتب إلى أمه وأبيه خطابًا: (الوالدان العزيزان.. لقد حدث ما حدث.. ومنذ هذا اليوم أصبحت فعلًا وإلى الأبد عضوًا فى الرهبنة اليسوعية، لقد تحقق ما كنت أصبو إليه).. وبعد 15 عامًا استغرقها فى الدراسة الدينية والعلمية.. أنجز رسالته للدكتوراه فى علم الاجتماع عن الفلاحين، وعاد الأب عيروط إلى مصر عام 1940.

جاء يحمل فى عقله أفكاره التى وضعها فى رسالته العلمية عن تحرير الفلاح من الفقر والجهل والمرض، ويملأ قلبه إحساسه الصادق فى التوجه لعمل الخير التطوعى، ومع قيام الحرب العالمية وتوقف التمويل الخارجى لأجل تعليم التلاميذ الفقراء فى المدارس التى أسسها الآباء الفرنسيسكان والآباء اليسوعيين دعت الحاجة إلى تأسيس جمعية أهلية لإدارة أمور تلك المدارس والاعتماد فيها على التبرعات المحلية لأهل الخير، ولم يجد أصحاب هذه الفكرة خيرًا من الأب عيروط اليسوعى للقيام بهذه المهمة.

4444444

(٣)

من طين الأرض التى انغرس فيها الأب عيروط إلى جوار الفلاح، ومن عيشته وعاداته وتقاليده وفقره وبؤسه انطلق الراهب الشاب يعالج المرض وليس العرض، وفى كتابه المرجعى «الفلاحون» قال عيروط عن الفلاح المصرى تحت عنوان (بؤس الفلاح): يتمثل بؤس الفلاح فى صورتين، الأولى بؤسه المادى وحرمانه من مقومات حياته الجسيمة، فهو فقير لا يكاد يجد القوت والملبس والمسكن، أما الصورة الأخرى لبؤسه فهى معنوية تتمثل فى حرمانه من التعليم وجهله وذلته وهوانه على نفسه وعلى غيره حتى أصبح دون المستوى الإنسانى من هذه الناحية.. أى ظلم أفدح، وأى وضع أنكى من وضع الفلاح؟ ومن التعليم بدأ الأب عيروط التحرك، فعمل على إنشاء مدارس جمعية الصعيد، وهى مدارس للتعليم المجانى، وكان ذلك عام 1940، وقد بدأت الجمعية عن طريق التبرعات واعتمدت على عدد من المتطوعين لإصلاح مدارس الفصل الواحد وإنشاء مدارس جديدة بالقرى الفقيرة. ودعا عيروط المؤسسات الدينية فى مصر لإدارة بعض هذه المدارس والخدمات الريفية، حيث وصل عدد المدارس إلى 122 مدرسة فى عام 1950.

000000000000000000000000000

(٤)

وفى سيرة الأب عيروط ما يصلح للتجسيد الدرامى الذى يبنى ويعلم ويهذب المشاعر والأخلاق، هناك فصول عديدة لا تتسع المساحة لذكرها.. خلاصتها أن الراحل رأى ببصيرته أن المشكلة المجتمعية يبدأ حلها بالتعليم وأن المهمة التعليمية تتطلب المزيد من التفاهم والعناية الشخصية والاهتمام والحب أكثر من اللجان والخطب والقرارات الرسمية. كان تركيز الأب عيروط على العقول وزرع المحبة فى القلوب، بينما ذهب صاحب بنك الطعام إلى ميدان الجوع والعوز ليحارب ويفوز برضا الله ودعوات الناس.. مستلهمًا ملاكية أمه وزوجته.. وهذه قصة أخرى.

أضف تعليق