د. قاسم المحبشى* يكتب: كورونا.. العالم في سفينة واحدة

د. قاسم المحبشى* يكتب: كورونا.. العالم في سفينة واحدةد. قاسم المحبشى* يكتب: كورونا.. العالم في سفينة واحدة

*سلايد رئيسى16-4-2020 | 13:41

تعد أزمة الحضارة العالمية الراهنة التي تسبب بها فيروس كورونا توفيد19 هي الأخطر في التاريخ الإنساني العام منذ آدم حتى الآن. إذ رغم ما شهده التاريخ من كوارث طبيعية وجوائح وبائية وشرور سياسية واجتماعية ومنها الحروب التي بدأت منذ أن قام قابيل باغتيال أخوه هابيل واستمرت عبر التاريخ في كل مراحله المتعاقبه إذ لم يعرف التاريخ لحظة واحدة من لحظاته خالية الحروب وقد حصدت أخر حرب عالمية شهدها القرن الماضي أكثر من ٨٠ مليون ضحية. وفي العام 1348 إلى العام 1352، ضرب الطاعون أوروبا وشمال إفريقيا، وقضى على نصف سكانها وكل الماشية التي كانت قاعدة إقتصادية للنظام الإقطاعي في غرب أوروبا ونظام الخماسين في دار الإسلام كتب ابن خلدون في وصف الجائحة" وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة (هجري) فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة ، هذا الى ما نزل بالعمران شرقا وغربا، من الطاعون الجارف، الذي تحيّف الأمم وذهب بأهل الجيل وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر، كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة . وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره ، وكأن خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث، فاحتاج لهذا العهد من يدوّن أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت أهلها" ( تاريخ العلامة ابن خلدون، المجلد الأول 1 ، بيروت ، دار الكتاب اللبناني 1960 ص 53) وفي ذات السياق قتلت الأوبئة الناس قبل زمنٍ طويل من ظهور العولمة؛ ففي القرن الرابع عشر لم تكن ثمة طائرات أو سُفن تجوب القارات، ومع ذلك انتشر الطاعون الأسود من شرق أسيا إلى أوربا، وقتل ما بين 75 و200 مليون شخص (أكثر من ربع سكان أوراسيا Eurasia: أربعة من كل عشرة أشخاص في إنجلترا، وما يقرب من 50.000 من جملة 100.000 شخص في مدينة فلورنسا). وفي مارس من سنة 1520 ضرب مرض الجدري المكسيك، ولم تكن ثمة قطارات أو حافلات أو حتى حمير في أمريكا الوُسطى وقتئذٍ، ومع ذلك، وبحلول شهر ديسمبر من السنة ذاتها، كان الجدري قد دمَّر أمريكا الوسطى بأسرها، وقتل وفقًا لتقديرات بعض المؤرخين ما يقرب من ثلث سًكانها! وفي سنة 1918 تمكنت سًلالة من الأنفلونزا الخبيثة من غزو أبعد بقاع العالم انطلاقًا من أوربا، لتقتل ما يقرب من مائة مليون شخص في أقل من عامٍ واحد، (ينظر، يوفال نوح هراري، الإنسان العاقل: تاريخ موجز للبشرية). وقد كتب قبل ظهور فيروس كورونا بأيام دراسة بحثية عن الصحة الاجتماعية والتنمية المستدامة قلت فيها" يعد خطاب الصحة الاجتماعية من أهم الخطابات التي أخذت تزدهر في الدوائر الثقافية والإعلامية والأكاديمية المعاصرة ، إذ شهد المجال الصحي اهتماما منقطع النظير، لا سيما منذ منتصف القرن العشرين بما جعلنا نتوافر اليوم على خطاب غني بالدوال والدلالات وبالفاعلين والأفعال والقوى والعلاقات والمؤسسات والممارسات.. الخ ( الصحة والمجتمع ، الصحة العامة ،الصحة والمرض، الوقاية والعلاج الصحي، الوعي الصحي، الثقافة الصحية، الحياة الصحية، صحة المرأة ، الصحة الانجابية، صحة الطفل، التغذية الصحية، الصحة المدرسية، صحة العائلة، السياسة الصحية، التأمين الصحي، الاقتصاد الصحي، الادارة الصحية، العلوم الطبية، الطب الشعبي، الطب البديل، الطب الحديث، حقوق الإنسان الصحية، علم اجتماع الصحة، الديمغرافيا الصحية ، السكان والصحة ،علم اجتماع الجسد، علم الأوبئة، فلسفة الصحة ، علم النفس الصحي ، الانثروبولوجيا الصحية، علم التربية الصحية، الصحة المدرسية، الخدمة الاجتماعية الصحية، سوسيولوجيا المستشفى ، علم الاجتماع الطبي ، علم اجتماع الجريمة ، علم اجتماع الإدمان، والانحراف. فضلا عن مجالات التطبيب والعلاج والأدوية والأدوات والأجهزة والتشريعات الصحية والمؤسسات الرسمية والمدنية( منظمة الصحة العالمية، والهلال الاحمر، وأطباء بلا حدود، وزارات الصحة ، والنقابات ، والإعلام الصحي المكتوب والمسموع والمرئي .. الخ). على هذا النحو اضحت الصحة وخطابها تتخلل مختلف مجالات وصعد حياة الإنسان والمجتمع المعاصر (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية والجمالية والدينية والمعرفية ..الخ) فعلى الصعيد الإبستمولوجي غدت الصحة ومشكلاتها لأول مرة في تاريخها موضوعاً للعدد واسع من العلوم الاجتماعية والإنسانية ولم تعد حكرا على العلوم الطبية كما كانت في الماضي. وهكذا بدأ الأمر وكأننا بإزاء اكتشاف جديد للكائن الإنساني وحياته وصحته بوصفه كائنا جديرا بالحياة الصحية الطيبة كحق من حقوقه الاساسية المنصوص عليها في الاعلان العالمي لحقوق الإنسان. والسؤال هو : كيف يمكن فهم وتفسير هذا التحول الثوري في خطاب الصحة العامة ؟ وما هي الأسس الثقافية التي مهدت السبيل لنموه وتبلوره وازدهاره في الحضارة الحديثة والمعاصرة ؟ وما معايير قياس صحة الفرد والمجتمع ؟ وكيف هي صحة مجتمعاتنا العربية الإسلامية اليوم ؟ هذه الاسئلة سوف نوليها عنايتنا في بحث ( الأسس الثقافية لخطاب الصحة الاجتماعية) الذي ربما ينضوي على أهمية مزدوجة ( معرفية وعملية ) إذ هو محاولة لفتح نافذة رؤية جديدة في مقاربة المشكل الصحي من منظور فلسفي ثقافي نقدي ومن جهة اخرى يجعلنا نتعرف على حقيقة تلك الشروط والعوامل التي كمنت وراء ازدهار خطاب الصحة والمجتمع في المجتمعات التي حققت نجاحات وانجازات صحية قابلة للقياس والمقارنة وما توفره هذه الطريقة من تغذية راجعة تجعلنا نتعرف على حقيقة وضعنا ، إذ إن نقطة انطلاق الإتقان النقدي المحكم هي وعي الذات لما هي عليه حقاً ، بالمقارنة مع الآخر الشبيه، فالآخر مرآة الذات. واضح أن فيروس كورونا توفيد١٩ قد اطاح بك هذه الأوهام والآمال والتوقعات وأظهر هشاشة هشاشة الإنسان والمجتمعات والدول الحديثة وجاهزيتها الصحية. ورغم ذلك فلم يذهب التقدم العلمي في المجال الطبي هبأ منثورا كما قد يعتقد البعض بل أنه ساعد إلى حد كبير على التقليل من انتشار العدوى وعدد الضحايا وذلك يعود إلى توقع العلماء أن التقدم المضطرد في شبكات النقل العالمية وصيرورة العالم قرية كونية قد يشكل بيئة مناسبة لسرعة انتشار الأوبئة إذ يمكن لأي فيروس أن يشق طريقه من الصين إلى اليابان أو استراليا أو البرازيل أو واشنطن في أقل من أربع وعشرين ساعة، لكن ما حدث هو العكس تمامًا، فقد انخفض معدل هجمات الأوبئة بشكلٍ ملحوظ، وأصبح ضحاياها أقل بكثير مما كان عليه الوضع في أي وقتٍ سابق. هذا لأن أفضل وسيلة دفاع انتهجها البشر ضد الأوبئة لم تكن العُزلة والانكفاء على الذات وإغلاق الحدود، وإنما البحث العلمي وتبادل المعلومات حول مسببات الأمراض ووسائل مكافحتها. لم يكن الناس من قبل يتخيلون أن قطرة مياه واحدة قد تحتوي على أسطول كامل من الفيروسات المفترسة المُرعبة، لذا كانت وسيلتهم الوحيدة في الماضي هي إقامة الصلوات الجماعية التي قتلت المزيد والمزيد منهم، لكن العلم اليوم بإمكانه التجسس على حصون الفيروسات وكشف طفراتها، ففي غضون أسبوعين فقط من هجمة كورونا، تمكن العلماء من تحديد التسلسل الجيني للفيروس وتطوير اختبار موثوق به لتحديد الأشخاص المصابين. ماذا نتعلم من ذلك؟( ينظر، صلاح عثمان، كورونا والعوالمة العاربة). من المؤكد أن الأزمة الراهنة سوف يكون لها اثارا كبيرة لم تكن بحساب أحد ومنها: اولا: تغيير قواعد اللعبة الاستراتيجية بين القوى الهيمنة العالمية فلم يعد التنافس في سبيل الاستثارة بعناصر القوة العسكرية فعالا مع كورونا وبعدها. إذا تبين أن السلط القائمة في الغرب عاجزة على التحكم في المأساة التي بدأت قبل أسابيع، فإن كل نظام السلطة، وكل الأسس الإيديولوجية التي قامت عليها ستخضع للمراجعة، لكي يتم استبدالها بنموذج جديد مؤسس على سلطة أخرى، وسيكون للثقة منظومة قيم أخرى، بعد مرحلة مظلمة. ثانيا: - فشل الولايات المتحدة والغرب بشكل عام في قيادة العالم وتحول الدفة إلى الصين ودول جنوب شرق آسيا . ثالثا: النظام العالمي وتوازن القوى سيتغيران بشكل كبير. رابعًا: نهاية أسطورة الصدام بين الحضارات التي قال بها هينتجتن واستبدالها بالتعاون الفعال إذ أن الدرس المهم الكورونا هو أن نتعلم أن أية دولة لن تتمكن من حماية شعبها بإغلاق الحدود بشكلٍ دائم، حتى وإن بالغت في ذلك، وإنما بالتضامن العالمي وتبادل المعلومات العلمية الموثوقة. رابعا: فيروس كورونا حمل رسالة إنسانية على درجة كبيرة من الأهمية فحوها، أن البشر سوى ولا فرق بينهم أبدًا فكلما اخوة تجاه التهديد بالعدوى ولا تمييز بين بني الإنسان بالعرق أو الدين أو اللغة أو السياسة. خامسا: اسقط كورونا جميع الرهانات التقليدية التي كانت تقدم بوصفها ضمانات حياة أمنة للناس لاسيما تلك اللاهوتية منها إذ أظهرت كل المؤسسات الدينية في العالم عجزها في موجهة المرض. سادسا: أخذ يتشكل رأيًا عامًا في كل مكان بجدوى العلم والبحث العلمي وبجدوى الطب الحديث وقدرته على التصدي لهذا الفيروس وتجاوز محنته الرهيبة وغدا الأطباء والممرضين هو فراس الميدان العالم هنا والآن. سابعا: هناك مخاوف جدية من أن الحجر الصحي الذي أفضى إلى تعطيل الفعالية الاقتصادية في العالم أجمع قد يؤدي إلى نشوب أزمة اقتصادية أخطر من أزمة كورونا ذاتها. وقد يتقاتل الناس من أجل الخبر إذا طال الحجر. ثامنا: خياران لا ثالث لهما مع كورونا وبعدها، الخيار الأولى هو بحسب الفيلسوف نعوم تشومسكي "إما أن تنبثق دولٌ وحشية شديدة الاستبداد وهذا سوف يفضي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة أو ينتفض الناس في العالم أجمع من أجل إعادة بناء جذرية للمجتمع، ونحت مصطلحات أكثر إنسانية، مُستلهمةً تاريخ كفاحها الطويل في التعاون والتضامن الإنساني. …………………………….. * أكاديمى وشاعر وأديب يمنى
أضف تعليق

تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2