غادة البشاري تكتب: المقال في زمن الاعتقال

غادة البشاري تكتب: المقال في زمن الاعتقالغادة البشاري تكتب: المقال في زمن الاعتقال

*سلايد رئيسى17-6-2020 | 16:32

عندما طلب مني رئيس تحرير بوابة دار المعارف الصديق الكاتب الصحفى عاطف عبد الغنى كتابة سلسلة من المقالات المتنوعة ,بعيدًا عن تخصصي كشاعرة وناقدة أدبية, شعرت أن الأمر غاية في اليسر والسلاسة, فليست هذه المرة الأولى التي أكتب فيها المقال, فقد كتبت عددًا من المقالات الأدبية بمنظور نقديّ أدبيّ بحت, غير أن الأمر يبدو لي مختلف كليًّا هنا... فحين جلست خلف مكتبي, وبدأت أراود الأفكار عن ذاتها, وأهيئ قلمي لمراوغتها – نعم .. قلمي ودفتري ..فأنا ما زلت أتبع الطقوس التقليدية للكتابة – شعرت بثقل غريب في رأسي, وبدأ ينتابني قلق فوضويّ, تواطأت معه نبضات قلبي , بدأت أرتاب.... ما هذا الزّار الحبشيّ الذي بدأ يرشق صلصلته في دماغي؟! صراع وجوديّ .. حصًى صغير يقذف بعضه البعض,...لعلها أجنة الأفكار تتخذ من رأسي حلبة لإظهار فتوتها.. أو ربما تتدافع مذعورة لتنجو من غضب الفكرة السلطانة " الحرب " , وما أدراك ما السلطانة!! ..وحدها تملك كل حقوق الملكية الذهنية الآن, دون منازع. فكيف المناص؟!..كيف النّفاذ من جبروت سَلطنتها ؟! ..الهروب هنا دون شك سيكون انحداريّ المسار, أي أشبه بالعودة إلى الدرجة الأولى من سُلم اليقين. يبدو أنه لا مفر من المواجهة !... لديّ رغبة لحظية هوجاء في التحايل على قول الغيطاني : ( في المدينة اليقين معدوم , والأسباب منفية ).. ليكون : في ليبيا اليقين مقسوم , والأسباب جليّة... نعم .. وللأسف ..الأسباب جليّة. النص جنين شرعي للفكرة الأم, والفكرة الأم عادة وليدة الواقع, ووريثته الشرعية أيضاً, لا يكفيها أنها تحمل جينات أبعاده الرؤيوية, ويكسو وجهها اكتظاظ ملامحه وندبه, ولكنها أيضاً تعيّن نفسها حارسته الأمينة, كي لا تفلته أذهان الكتّاب السائمين, الضّاجرين من فرقعات جلبته, ممن يحاولون التقاط أنفاسهم بعيدًا عنه . فماذا لو تمت المحاولة ؟! ..مجرد سؤال ...أظنها لن تتورع عن قتل جنينها " النص " فور ولادته, بل واعتقال ذهن كاتبه بتهمة الاستعلاء على سيادة الواقع , والكتابة بدمٍ حرٍ جديد. يقول الفيلسوف الفرنسي دوبريه: " الكلمات تفعل فعلتها وتقتل ", وأظنه كان يقصد في قرار نفسه أنها تقتل كاتبها قبل متلقيها .. معلومة متأخرة ! , وعندما قال دونالد بارث :" اللغة ليست أبدًا بريئة " , هل تراه بالغ في إدانة اللغة ؟! ..رغم أنه كان يعرف جيدًا أنها مخلوق مسيّر لا مخيّر, ومجبر على تمثيل عالم من المفاهيم المُقيدة, الذي تتبناه فكرة ما ..السلطانة , تتداعى لها عصبة من الأفكار المؤازرة.. الحاشية , ما تلبث أن تتواطأ مع دواله ومقاصده, بما يكفل لها السيطرة على كل أدوات لغته, وذهنية كاتبه , و مريديه. هل يمكننا التسيلم إذن بأن كتابة نص مقالي في زمن الاعتقال هذا هو صراع عقلي قهريّ في حد ذاته , قبل أن يصبح صراعًا أيديولوجيًا قذرًا؟! .. لا أجد سوى احتمالين : إما أن تكون قيادياً لجيوش من العبارات المتأسدة, فلا يخلو مقالك من ألفاظ الغاب الوحشية, والنابيّة, وأحيانًا التهكمية تجاه الطرف الذي عليك أن تسلم قصراً بأنه "عدو"؛ او أن تكون حاوٍ تراقص أفاعي الكلمات بحرفية فذة, وتتحايل على شرعية انتساب مقالك للفكرة الأم, أو بمعنى آخر تهجين روح الدلالة الحاضرة , وهذا بطبيعة الحال سيكيل لك الضغائن من أولي الفكرة المتسلطة , وقد يسوقون دماغك إلى مصير غير معلوم , بل و سيوقعك لا محالة فريسة للمفارقة المنظورة بين ما يستصرخه الواقع من حولك وما يدبجه يراعك .. لا فكاك من شيزوفرنيا محتومة إذن !. يا إلهي.. أي ورطة تلك يا صديقي ؟! كيف أكتب مقالاً في زمن فيه الفكرة هي سلطانة الموقف والمآل؟! إن تلك الحلقة الضيقة والمختنقة التي ندور جميعاً داخلها , كدراويش تلتف حول محور ذاتها , لا تنصت إلا لجوارحها , و مُنفصمة روحيًا عمّا يدور خارج حدود جسدها, هي ذاتها الحلقة التي تظل لعنتها تلاحقنا منذ فطامنا الأمويّ ذاك …رحلتنا في الحقيقة واحدة, والزمن واحد , تفوح منه رائحة العصور, فلا ضير من تبادل الأدوار إذن !! ..الحكاية أبسط مما نتوقع , لكنها حتماً لم تخطر ببال أحدنا من قبل…ما الفرق أن أكون أنا عليًّا وأنت معاوية , أو يكون العكس ؟! …طالما في النهاية ناتج عملية الطرح – المُراهن عليه- هو الصفر نفسه… ما هذا ؟…هل الوقت للفلسفة الآن ؟! لقد كبرتُ يا صديقي , كبرتُ كثيرًا , كبرتُ إلى الحد الذي أراني فيه أمضغ ماء أحرفي, وتتكسر أسنان عباراتي , وأنا أشبُّ لالتقط طرف الحقيقة الهاربة دائما في منتأى عني... دعك مني الآن ..وتعال نمسك العصا من المنتصف, فربما تتزن الأمور أكثر, بقطع النظر عن الاحتباس الروحي داخل كل منا, دعنا نمعن في إنصات أعمق لجدلية الأصوات من حولنا, وما وراء الأصوات, متخذين من " اللا أين " نقطة انطلاق . حسناً فلنتفق إذن الآن : سأباشر انا في تدوين مقالي للعدد القادم بعيداً عن النزعة الفكرية للحظة القاتمة, وأصحبك في جولة فنتازية رائعة حول الجوانب المضيئة من المشهد, فيما أنت عليك أن تجلس بكامل هدوئك , تحتسي قهوتك المسائية, وتدخن سيجارتك , بينما تُشرع في قراءة المقال , محاولاً أن تكون قارئاً مبدعاً...ووفيًّا. ........................................................... * أديبة وشاعرة وكاتبة ليبية
    أضف تعليق

    وكلاء الخراب

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين
    تسوق مع جوميا

    الاكثر قراءة

    إعلان آراك 2