إيهاب الملاح يكتب: جلال أمين.. «عين» الطبقة الوسطى المصرية

إيهاب الملاح يكتب: جلال أمين.. «عين» الطبقة الوسطى المصريةإيهاب الملاح يكتب: جلال أمين.. «عين» الطبقة الوسطى المصرية

فن وثقافة22-10-2020 | 18:12

بالتأكيد؛ كان رحيل الكاتب المعروف والمفكر الاقتصادي المرموق جلال أمين (1935-2018) قبل عامين من الآن، يمثل خسارة فادحة لا تعوض لجمهوره الغفير؛ من القراء والمتابعين الشغوفين بمقالاته وكتبه، وعارفي قدره، وأهمية ما كتب من دراسات ومؤلفات لما يزيد على خمسة وستين عاما متصلة.

(1)

ينتمى المرحوم د. جلال أمين؛ الذى كان أستاذًا بارزًا فى الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، إلى تقاليد موروثة فى الثقافتين المصرية والعربية، أصبحت الآن، مهددة؛ هى تقاليد العلماء الأدباء. وهم جمعوا إلى التخصص الدقيق، فى علم من العلوم المدنية الحديثة، بين الدقة العلمية وجمال الكتابة الأدبية. كان الواحد من هذه السلالة يبرز فى علم من العلوم كالطب أو الكيمياء أو الفيزياء. لكن بروزه فى هذا العلم لا يحول دون معرفته الدقيقة والواسعة باللغة، وشواغلها، وحرصه الدائم على الخروج من دائرة التخصص الضيق إلى رحاب الحياة العامة وما يمور فيها من أفكار وآراء وشواغل. لا أقصد بذلك أولئك العلماء الأدباء من أمثال محمد كامل حسين الطبيب البارز الذى كتب رواية «قرية ظالمة»، ولكن أشير إلى رجال من طراز إسماعيل صبرى عبد الله، الاقتصادى الكبير، صاحب الأسلوب الناصع، ومن قبله الكيميائى المصرى الدكتور أحمد زكى الذى رأس تحرير مجلتين عربيتين شهيرتين هما مجلة (الهلال) المصرية، ومجلة (العربي) الكويتية. هذه سلالة تقل، وتندر، حتى لتكاد تَشفَى على الانقراض، بعد رحيل ما أظنه آخر ممثليها القلائل المرحوم د. أحمد مستجير؛ العميد الأسبق لكلية الزراعة بجامعة القاهرة، والكاتب والمترجم والمثقف الموسوعى بكل معنى الكلمة.

(2)

فى كتابه الذى صدر قبل وفاته بثلاثة أعوام تقريبًا «مكتوب على الجبين» (دار الكرمة، 2015، وهو يمثل الجزء الثالث من سيرته الذاتية ذائعة الصيت)، كتب المرحوم جلال أمين: «عندما أستعيد فى ذهنى ما رسخ لديّ من انطباعات عن هذا الشخص أو ذاك فيمن تعرفت عليهم على مرّ السنين يعترينى العجب! وجدت معظم هؤلاء من الألغاز المستعصية على الفهم. لقد أحببتُ كثيرين منهم حبًا جمًا واعترانى نفور شديد من كثيرين غيرهم. ولكننى وجدتهم جميعًا سواء من أحببت أو كرهت ألغازًا بشرية. لا أستطيع أن أفهم كيف اجتمعت فى الواحد منهم هذه الصفات المتعارضة أو كيف يستقيم تصرفه على نحو معين مع شخص ما، مع تصرف مضاد له تمامًا مع شخص آخر، أو حتى مع نفس الشخص فى وقت آخر.. بل أننى لاحظت أننى حتى مع الأشخاص الذين ظللتُ مدة طويلة أعتبرهم واضحين لى تماما ومتسقين تماما مع أنفسهم أفاجأ بعد هذا بتصرفات منهم غير مفهومة فيتحولون فى نظرى فجأة إلى ألغاز، وكأنى لم أعرفهم قط على حقيقتهم..». كانت تستوقفنى هذه العبارة بشدة؛ إنها صادقة حد الجرح! هو بذاته رحمه الله كان لغزا هائلا رغم حضوره العارم وصخبه المعرفى والفكري! جمع بين أمور يصعب بالفعل الجمع بينها ولا يتأتى ذلك إلا بفضل تركيبة إنسانية واجتماعية وثقافية خاصة ومختلفة! آل أحمد أمين كلهم كذلك! فيهم التأسيس الثقافى المذهل، وفيهم غرابة أطوار لافتة، وفيهم القدرة على الإنتاج والمشاركة فى المجال العام بصورة مبهرة، وكلهم متفوقون ومتميزون فى مجالات تخصصهم المتباينة! فى الباب الذى عقده تحت عنوان (مشاهير وعظماء)، ستقرأ عن عشر شخصيات صرّح باسم بعضها وأخفى «عمدا» اسم بعضها الآخر، وإن كان لا يصعب على القارئ الحصيف أن يستنتج بسهولة الشخصية التى يتحدث عنها من الوصف العام الذى يقدمه، أو من إشارات إلى الأدوار التى ساهمت بها فى الحركة الثقافية المصرية. هذا الباب فى تقديرى واحد من أجمل وأمتع أجزاء سيرته الذاتية وأشدها دلالة على «تركيبة» جلال أمين و«خلطته» الإنسانية، النفسية والعصبية والمزاجية، فى علاقاته مع البشر والناس، خصوصًا ممن شهروا فى عالمنا العربى من رجالات الفكر والثقافة والأدب والسياسة. ستجد القياس الدقيق والتأويل المسرف، الرصد المستقصى للمعلومات والبيانات والإهمال غير المبرر لبعض البديهيات ومما يجب أن يعلم بالضرورة! ستجد العرض الواضح والشرح المقنع وستجد فجواتٍ وثغراتٍ لا تغيب على من هو مثله علما وثقافة وخبرة!

(3)

فى النهاية، ورغم تخصصه الدقيق فى الاقتصاد ومنهجيته الصارمة التى تحلى بها فى دراساته العلمية؛ فإن جلال أمين كان ممن يتركون العنان لانطباعاتهم وأذواقهم فى الحكم على الناس (والأعمال الفنية والأدبية أيضًا) حتى وإن شطت قليلا أو كثيرا أو جنحت بعيدًا فى أحكام قاسية هنا أو هناك. صحيح لا تخلو قراءته فى النهاية من نقدات نافذة تظهر بجلاء حينا وتتوارى أحيانا أو لمحات تحليلية بارقة، لكن انطباعيته النقدية المحافظة، البعيدة كل البعد عن تقبل الذوائق الحديثة والمعاصرة، بكل ما يتوفر لها من صدق وحرارة وصراحة واقتناع، قد تجبرك فى النهاية على احترامها والتسليم الكامل بأنها قناعة كاتبها ولا شيء آخر حتى وإن اختلفت معه فى رأى أو حكم أو فى كل قراءاته النقدية! لا أحد ينكر أن جلال أمين كان واحدًا من أصحاب الأساليب المميزة فى الكتابة المعاصرة، وقليلون هم الآن الذين يمتلكون أساليبهم، وما كان لجلال أمين أن يصل إلى قلوب الناس وعقولهم بغير أسلوبٍ واضح ناصع، بقدر ما يحمل من بساطة وسهولة قد تغرى الكثيرين بتقليدها، دون أن يجدوا ذلك سهلا ميسورا، بقدر ما كان يعالج أدق الخلجات الشعورية، والأفكار المنطقية، والنظريات الفلسفية والعلمية، بذات اليسر والوضوح. هنا أنت إزاء رجل صقلته الحكمة والمعرفة والتجربة، وأنضجته على نارٍ هادئة ثقافةٌ واسعةٌ وروافد متعددة؛ اختلط فيها العربى الموروث بالغربى الوافد، وبالتأكيد لعبت عوامل الوراثة دورها فى ترسيخ ذلك وبروزه على نحو ما ظهر فى أعماله كلها.. وعلى الرغم من جفاف لغة الاقتصاديين، وولعهم باستخدام الأرقام والنسب والجداول، على أساس أن الاقتصاد خطابٌ من دون ذات، فإن قارئ جلال أمين سرعان ما يلمس، بلا جهد، تجاور الخطاب الكاشف عن الذات مع الخطاب الاقتصادي، ذلك أن لغة جلال أمين تُفلت من وطأة الخطاب الوضعى للاقتصادى المتخصص، لا لتكشف عن هواجس الكاتب المواطن فقط، ولكن لتشير إلى سماتٍ أدبية واضحة. ولا يعنى هذا أن خطاب أمين، كما قد يتبادر إلى الذهن، مولع بالتفاصح، أو طلاقة اللسان، بل إنه، على النقيض من ذلك يناقضهما. فالأدبية فى هذا السياق تعني، فضلًا عن الدقة والوضوح القدرة على ما يدعوه نقاد الأدب بتكثيف الدالات، وجمال العبارة، والجمع بين الاكتناز المعرفى ومتعة التلقي. وقد يكون سهلًا أن نرد هذه السمات إلى كونه ابنًا لواحدٍ من كبار دارسى الأدب واللغة والتراث؛ الشيخ المستنير أحمد أمين، وهو أمر لا شك فى تأثيره، لكن بالتأكيد أن وراء لغته الدقيقة والجميلة فى آن ما يجاوز ذلك على الرغم من صحته. فالشيخ أمين مع أهمية إنتاجه كمؤرخ وعالم باللغة والتراث والثقافة الشعبية ظلّ مشدودا إلى منظور تقليدى فى البحث والدرس، فيما تكشف صفحات كتاب ابنه الأصغر جلال أمين «ماذا حدث للمصريين؟» عن اشتباك مع هموم سياسية وثقافية من خلال نظرة رحبة، متسائلة، وقلق معرفى على رغم من التجاء صاحبه دائمًا، ببعض ما يظنه ثابتًا وجوهريًا، فى الهوية الثقافية العربية.

(4)

وسأتوقف قليلًا عند هذا الكتاب الذى حاز شهرة عظيمة، وأكسب جلال أمين جمهورًا غفيرا ظلّ مهتما ومتابعا لكل ما يكتب حتى وفاته رحمه الله. كتاب «ماذا حدث للمصريين؟» صدر فى طبعات عدة خلال الـ 25 عاما الماضية، وهو كتاب فى الاقتصاد والسياسة والمجتمع بعيون كاتب واقتصادى ومثقف بالمعنى الواسع للكلمة، لكنه فضلًا عن هذا ينأى عن عُسر الخطاب المتخصص، بلغته التى تكتفى بوظيفة التوصيل، ويقترب من الكتابة بوصفها إنشاءً وتأملًا، ومتعة. كتب جلال أمين قبل هذا الكتاب كتبًا عدة بالعربية والإنجليزية عن الاشتراكية والماركسية، والاقتصاد القومي، والتبعية الاقتصادية والسياسية، وعن هجرة العمالة المصرية واقترح مفهوم «الدولة الرخوة» لتفسير نمط بنية الدولة المصرية فى سنوات الانفتاح السبعيناتى وتداعياته فى الثمانينيات والتسعينيات. وشدد على دور المؤثرات الخارجية فى تغيير النظام الاقتصادى العربي، وعلاقات الهيمنة التى مارسها الغرب بدءًا من محمد علي. وفى كتابه هذا «ماذا حدث للمصريين؟» نتحرك مع مؤلفه بين الملاحظة العلمية، والتقصى التاريخي، وبين الخبرة الشخصية، والملاحظات التى كونتها المعرفة العميقة بالواقع اليومى فى مستوياته المتعددة فى المجتمع المصرى على مدى يقرب من نصف قرن. ومنذ العنوان الذى يتصدر الكتاب، يشعر القارئ بهذه السمة الأدبية؛ ذلك أن عبارة «ماذا حدث للمصريين؟» يسهل تأويلها لتدل على التغير الذى حدث فى المجتمع المصري، لكنها يمكن تأويلها أيضا على أنها سؤال استنكارى يكشف عن موقف المتكلم وهلعه، والسؤال الاستنكار لا يهدف إلى الحصول على إجابة، بل يقدم ضمنًا، إجابة مرفوضة.

(5)

خلف الذكريات، وعبارات المواطن المثقف وأيديولوجياته؛ السياسية والثقافية والأدبية وأخلاقيته، يظل هناك ما يلمّ شتات الشخصى والذاتي؛ أعنى الرؤية الاقتصادية التى تهيمن أحيانًا حتى لتبدو هى الحاكمة، وكأن الخطاب فى النهاية، وإن احتفل بالعوامل الأخرى، الشخصية والنفسية والثقافية، فى تفسير الظواهر، يراها محض عوامل عرضية لا ترقى فعاليتها إلى فعالية العامل الاقتصادي. ففى حديثه، مثلا، عن ظاهرة الإسلام السياسي، وما ارتبط بها أو تزامن معها من الهوس الديني، والتفسير اللا عقلانى للدين يركز على فعالية العامل الاقتصادي، ويكاد يحصرها فى الطبقة الوسطى. فقد كان عقد السبعينيات هو عقد «العائد بلا جُهد»، ومن ثم نجحت شركات توظيف الأموال فى خداع الناس الذى أصيبوا بلوثة الرغبة فى الإثراء السريع من دون جهد فصدقوا شعارها. ومن المؤكد أن هذا التفسير صحيح، لكنه يغفل فعالية عوامل أخرى. ذلك أن الرغبة فى الثراء ضاربة الجذور فى الثقافة الشعبية، كما يبرز من قراءة الحكايات الشعبية والأغانى والأمثال. ففى أوقات العجز التاريخى واليأس من التغيير، تبرز أيديولوجيا «الجرة الذهبية» حيث يتشبع الفرد بفكرة وهمية؛ هى حدوث معجزة تجعله يحصل على «لقيّة» تنقله من العوز والسغب إلى الشبع والثراء. ولم تفعل شركات توظيف الأموال سوى إعادة إنتاج هذا الوهم تحت لافتة دينية. ولم يكن ذلك ممكنًا إلا بعد سقوط الأيديولوجيا الناصرية العلمانية، التى كانت تتبنى مقولات مغايرة معادية لمثل هذه الشركات. ولقد قادت هزائم النظام آنذاك وخواء شعاراته، وفشله فى تحقيق العدالة التى سعى إليها مخلصا، وتحرير فلسطين ونشر العقلانية إلى عودةٍ عنيفة إلى «طوباويات» (أى أحلام مثالية متوهمة؛ غير قابلة للتحقق على الأرض) تلوح بتحقيق هذه الوعود وغيرها بتوظيف رأس المال الرمزى لهذه الجماهير. ورغم ذلك، فالتفسير الاقتصادى سرعان ما يتراجع فى قضايا أخرى، أو على الأقل يظل جزئيًا. ذلك أنه لا يضع المجتمع المصرى فى موقعه من اللحظة الراهنة فى العالم، ومن ثم لا يركز على دور العوامل الخارجية فى صياغة المجتمع والرأى العام. الهوس الدينى فى مصر، مثلًا، لا يمكن تفسيره على نحو مرضٍ الا اذا رأيناه كتجلٍ من تجليات النزوع الراهن نحو الدين، عقيدةً وطقوسًا، وهو النزوع الذى لا يمكن إنكاره فى مجتمعات تختلف فى درجة نموها الاقتصادى والسياسى عن مجتمعاتنا العربية.
    أضف تعليق

    رسائل الرئيس للمصريين

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين
    تسوق مع جوميا

    الاكثر قراءة

    إعلان آراك 2