إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا».. محاولة للفهم!

إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا».. محاولة للفهم!إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا».. محاولة للفهم!

الرأى28-10-2020 | 19:57

قبل أكثر من 30 عامًا كنت فى مهمة عمل فى العاصمة الإيطالية روما.. كان وقتى ضيقا وكنت أريد فى نفس الوقت أن أشاهد أشهر معالم روما.. ولذلك اشتركت فى أحد البرامج السياحية التى توفر للسُيّاح حافلة فاخرة ومرشدة سياحية وذلك من أجل القيام بجولة يطوف خلالها السائح بأشهر معالم المدينة.. جلست إلى جانبى سيدة كان عمرها يقترب من الأربعين.. وكما يحدث فى هذه الجولات السياحية رحنا نتبادل الحديث.. وعرفت منها أنها إنجليزية وعرفت منى أننى مصرى.. وعندما سمعنا صوت المرشدة السياحية تقول إننا الآن نمر أمام قوس النصر.. فوجئت بالسائحة الإنجليزية تهمس بصوت منخفض.. عن أى نصر تتحدث.. ألا يخجل هؤلاء الإيطاليون؟.. ثم راحت تسب الشعب الإيطالى بأقذع الألفاظ!.. كانت إيطاليا قد انهزمت فى الحرب العالمية الثانية وكانت إنجلترا من بين دول الحلفاء التى حققت الانتصار.. وكان ذلك فى عام 1945.. أدهشنى هذه الروح العدائية رغم مرور سنوات طويلة على انتهاء الحرب.. ورغم أن الظروف والسياسات وضعت كل الدول الأوروبية المتحاربة فى خندق واحد.. لكننى فسّرت ذلك بأن الشعوب لا تنسى العداء مهما تغيرت الظروف والمواقف السياسية.. وتأكد لى هذا المعنى عندما سافرت إلى الولايات المتحدة لتغطية الانتخابات الرئاسية فى الثمانينيات.. فى أعقاب إعلان فوز الرئيس بوش الأب على منافسه دوكاكيس.. حضرنا حفلا فى البيت الأبيض.. وفوجئت أنا وزملائى المصريين بثلاثة من الحاضرين يأتون إلىَّ حيث نقف ويقدمون أنفسهم كصحفيين إسرائيليين.. مدوا أيديهم لمصافحتنا لكننا لم نمد أيدينا.. وإنما نظرنا إليهم بمنتهى الاحتقار والإزدراء ومضينا بعيدًا!.. حدث ذلك رغم مرور ما يقرب من 15 عاما أيامها على توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.. وكثيرا ما سألت نفسى: لماذا هذا العداء الذى تشاركنى فيه الأغلبية الساحقة من المصريين تجاه إسرائيل؟.. لماذا كل هذا العداء رغم السلام الذى تحقق والذى وصل على المستوى الرسمى إلى حد تبادل السفراء.. وإلى حد قيام السفارة الإسرائيلية فى القاهرة بالاحتفال بالعيد القومى الإسرائيلى وقيام السفارة المصرية فى تل أبيب بالاحتفال بعيد الثورة؟!.. ولم أجد تفسيرًا إلا فكرة أن الشعوب لا تنسى العداء مهما تغيرت الظروف والمواقف على المستوى الرسمى.. ومن الطبيعى لمن يؤمن بذلك أن يحتار ويندهش ويستغرب بل ويرفض التطبيع مع إسرائيل والذى بدأ ينتشر "كالحصبة" فى العالم العربى!.. لا أتحدث عن المواقف الرسمية فأنا أتفهم جيدًا أن دولة مثل الإمارات يؤمن حكامها بأنهم يخدمون القضية الفلسطينية بدرجة أكبر وأكثر فاعلية بقيامهم بالتطبيع مع إسرائيل.. وأتفهم أن يمضى حكام السودان إلى مرحلة التطبيع لأنهم يريدون أن يرفع اسم بلدهم من قوائم الإرهاب الدولى وأن تنتهى سنوات الحصار الاقتصادى التى قاربت على الثلاثين عاما والتى جعلت السودانيين يعانون من "العيشة الضنك"!.. أتفهم كل ذلك لكن الذى يحيرنى ويدهشنى هو موقف الشعوب من هذا التطبيع.. تابعت برامج فضائية كثيرة حاولت أن ترصد رأى رجل الشارع فى الدول التى قامت بالتطبيع فوجدت الغالبية توافق على التطبيع وتتحدث عنه بإيجابية بل وتبدى حماسا له!.. بالنسبة للشعب السودانى على سبيل المثال.. لاحظت أن ثمانية من بين كل عشرة تقريبا يؤيدون التطبيع ويوافقون عليه ويتحمسون له.. فى نفس الوقت لاحظت أن المظاهرات الرافضة للتطبيع كانت محدودة جدا.. ماذا حدث لكى تغير الشعوب مسارها بهذا الشكل المفاجئ؟.. أين ذهب العداء الذى يكنه العرب لدولة الاحتلال إسرائيل؟.. الحقيقة أن قاعدة أن الشعوب لا تنسى العداء.. وإن كانت صحيحة لكنها منقوصة.. فالشعوب فعلا لا تنسى العداء.. لكن هذا العداء يتناقص بفعل الزمن.. نحن لا نستطيع أن نتجاهل أن جيل أكتوبر الذى تجرع مرارة الهزيمة فى 67 وذاق حلاوة النصر فى 73.. لا يمكن أن نتجاهل أنه "رضع" الكراهية للعدو الإسرائيلى وعاش فى أجواء ومناخ يؤجج هذه الكراهية.. الأمر بالنسبة للأبناء اختلف فعلى المستوى الرسمى تحقق السلام وبدأت الأجواء وبدأ المناخ الذى يؤجج الكراهية يتلاشى.. ومن المنطقى بعد ذلك أن تتلاشى مشاعر الكراهية وتتبدد إلى أقصى درجة فى نفوس الأحفاد.. ولعل ذلك هو ما يُفسِّر حماس وموافقة الشُبّان السودانيين صغيرى السن لمسألة التطبيع مع إسرائيل.. فهم لم يرضعوا الكراهية التى رضعها أجدادهم.. ولم يعيشوا بقايا أجواء الكراهية التى عاشها آبائهم.. ومع ذلك كله فقد كان من الممكن أن تحتفظ كل الأجيال بحد أدنى من العداء والكراهية.. حد لا يسمح بالتطبيع بسبب ممارسات الإسرائيليين فى الأراضى المحتلة وتعاملها بوحشية مع القضية الفلسطينية.. لكن لسوء الحظ فقد أصاب الفلسطينيون أنفسهم القضية الفلسطينية بأضرار لا تقل عن الأضرار التى أصابت القضية الفلسطينية على يد الإسرائيليين.. يكفى أنها أفقدت الكثير من الأجيال العربية تعاطفها مع القضية.. ضيّع الفلسطينيون فرصة ذهبية لاستعادة أراضيهم المحتلة بعد 67.. برفضهم الانضمام لمصر فى عملية السلام أيام الرئيس الراحل أنور السادات.. كان من الممكن أن يستعيد الفلسطينيون أراضيهم ويقيمون فوقها دولتهم ويحتفظون بالقدس عاصمة عربية.. لكنهم بتعنتهم وعنادهم وحرصهم على الاحتفاظ بالمعونات التى يحصلون عليها من الدول العربية الرافضة للسلام المصرى الإسرائيلى.. ضيّعوا هذه الفرصة. الحقيقة أيضا أن ممارسات الفلسطينيين من حيث التدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية.. والذى وصل إلى حد الخيانة أحيانا.. كان سببا رئيسيا فى فقدان التعاطف مع القضية الفلسطينية.. حدث ذلك فى الأردن عندما حاول الفلسطينيون الموجودون على الأراضى الأردنية أن يفرضوا كلمتهم على الحكومة الأردنية.. وحدث ذلك فى مصر عندما قامت حماس باقتحام الحدود والسجون.. وحدث ما هو أكثر من ذلك فى الكويت أيام الغزو العراقى.. عندما باع الفلسطينيون أبناء الكويت للعراقيين وانضموا لقوات الغزو العراقى.. الحقيقة أيضا أن الفلسطينيون أنفسهم خانوا أنفسهم.. حدث ذلك عندما اغتالت إسرائيل الشيخ ياسين زعيم حماس.. كان الشيخ القعيد جالسا على كرسيه المتحرك عندما أصابه صاروخ إسرئيلى انطلق من طائرة.. فحقق هدفه بدقة عالية.. ولو لم يكن هناك خائن قام بلصق جهاز صغير فى كرسى الشيخ المتحرك ومهمته إرسال إشارات إلكترونية لإرشاد الصاروخ الإسرائيلى.. لو لم يكن هناك هذا الخائن ما تمكنت إسرائيل من اغتيال الشيخ!.. أضف لذلك كله الانقسام الفلسطينى الذى تسبب فى تمزيق القضية الفلسطينية.. وليس خافيا أيضا أن مسألة المقاومة الفلسطينية تحولت فى بعض الأحيان إلى تجارة يكسب أصحابها الملايين!.. هل يمكن أن نلوم بعد ذلك الشُبّان الذين يوافقون على التطبيع ويتحمسون له؟!.. ولم يكن ذلك كله إلا محاولة للفهم!..
    أضف تعليق

    طحن العظام وتدمير الأوطان

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين
    تسوق مع جوميا

    الاكثر قراءة

    إعلان آراك 2