الجغرافيا باعتبارها أحد أهم محددات السياسة الخارجية

الجغرافيا باعتبارها أحد أهم محددات السياسة الخارجيةالجغرافيا باعتبارها أحد أهم محددات السياسة الخارجية

*سلايد رئيسى27-7-2017 | 17:40

تقرير: د. نهال سعيد

يرى"نابليون بونابرت" أن السياسة الخارجية لأي دولة تكمن في موقعها الجغرافي, وفيما يرى المتخصصون في مجال العلاقات الدولية أن هناك علاقة وثيقة ومترابطة بين الجغرافيا والسياسة, وهو ما أدى إلى إطلاق مصطلح "الجيوبوليتكس" على هذه العلاقة.

لعل السيطرة على موقع ما, سواء بشكل مباشر أو غير مباشر, لا يهدف إلى مجرد بسط هيمنتها, أو أن تحول الدولة غيرها من الدول في السيطرة على هذا الموقع, وإنما يوجد عدد من الأبعاد التي تحرك صانعي القرار لإنتهاج تلك الإستراتيجية, وهناك أمثلة عدة تعكس هذا النمط من السياسة كالتالي:

أولاـ التوسعات الخليجية الأفريقية:

1ـ جيبوتى

لعل توقيع المملكة العربية السعودية و جيبوتى, القريبة من الحدود اليمنية, اتفاقية تعاون عسكرى فى الـ 26 من إبريل الماضى, كذلك اتفاق الرياض على إنشاء قاعدة عسكرية لها في جيبوتى؛ بمثابة نموذج حى, فيما يتعلق بأثر الجغرافيا فى تحديد سياسات الدول.

فقد كان إقدام الرياض على هذه الخطوة يهدف بالأساس إلى توسيع دائرة حصار النفوذ الإيرانى, لتشمل بذلك مناطق تقع خارج النطاق الجغرافى للمنطقة العربية, ولمعرفة الأبعاد بشكل أكثر وضوحا, لابد من توضيح الموقع الجغرافى لجيبوتى.

تقع جيبوتى على الشاطئ الشرقي لإفريقيا, ويفصلها عن شبه الجزيرة العربية مضيق باب المندب, ومنذ انطلاق عمليات "التحالف العربى" فى اليمن مارس عام 2015 , أعلنت جيبوتى مساندتها لها, وهو ما وفر للتحالف منصة إضافية لمراقبة السواحل اليمنية الممتدة من منطقة ميدى فى حجة شمال غرب البلاد, إلى المخا فى تعز بالجنوب الغربى, وتجدر الإشارة إلى أن الرياض قدمت لجيبوتى زوارق بحرية في أعقاب إعلان التحالف استعادة سيطرته على مضيق باب المندب .

من هنا؛ نجد وجود تشابك فى المصالح بين الجانبيين, وهو ما دفع الرياض إلى توسيع علاقتها الإفريقية, ولعل التعاون العسكري السعودي مع جيبوتى كان أبرز نماذج العالقات السعودية الإفريقية؛ فالتخوف من تفاقم الأزمة اليمنية, وزيادة التدخلات الإيرانية, ومحاولات منع طهران من استغلال الضائقة المالية التي تمر بها جيبوتى ومعظم الدول الإفريقية, لحساب مصالح إيرانية ترتكز بالأساس على ممارسات إرهابية, كلها عوامل تقف وراء التوجه السعودي لجيبوتى.

2ـ الجابون

تأتى أهمية الغابون دوليا, كونها أحد أهم الدول المطلة على خليج غينيا, والذي يعتبر من أهم مناطق التنافس الدولى, حيث يتركز 70% من مخزون إفريقيا النفطي فى الساحل الإفريقى الغربى, ويتوقع أن يتخطى الناتج النفطى العام لدول غرب إفريقيا المطلة على خليج غينيا ومنها الجابون الناتج النفطى لدول الخليج العربى عام 2020, بمعدل 25% مقابل 22% لدول الخليج العربى, وهذا ما يدعم أن تتحول دول غرب إفريقيا الى مورد أساسى للاقتصاد العالمى.

توجهت معظم دول الخليج الى الاستثمار فى الغابون , حيث وقعت الإمارات أغسطس 2015, اتفاقية الأجواء المفتوحة مع الغابون, وبناء على ذلك ستكون لشركات طيران كلا الطرفين الحق فى أداء الخدمات الجوية المنتظمة بين البلدين, أما السعودية فقد أبرمت معها سبتمبر 2015, اتفاقية تجنب الازدواج ومنع التهرب الضريبى, فيما ترتبط الكويت بمعاهدة للتعاون الاقتصادي مع الغابون منذ 1975, وقدم الصندوق الكويتى للتنمية قرضا بقيمة (7.5)مليون دينار كويتى لتحسين المطارات المحلية, وتحسين الطرق بالغابون.

ثانياـ طهران والأزمة السورية:

تتصدر الأوضاع السورية قائمة الأزمات الدولية؛ لما لها من تداعيات خطيرة لم تؤثر على الدول المجاورة فحسب, وإنما على العالم بأسره, ولعل ملف اللاجئين خير شاهد على ذلك, وقد كانت طهران أبرز المشاركين على طاولة مفاوضات أستانة الأخيرة, وكما نعلم فان هذا الحضور الإيرانى ليس لحل الأزمة, وإنما رغبة منها فى زيادة تعقيدها من أجل تحقيق مصالح إيرانية بحتة.

تمتلك طهران مشروعا كبيرا, يتمحور حول تمكين نظام "الأسد" من السيطرة على المنطقة الممتدة من اللاذقية وطرطوس وأجزاء من حماة في الشمال الغربي, مرورا بحمص وريفها الجنوبي والغربى إلى القلمون على الحدود اللبنانية, وصولا إلى دمشق وامتداد إلى القنيطرة, وأجزاء من درعا على الحدود الجنوبية مع الأردن.

تدرك إيران جيدا صعوبة سيطرة نظام "الأسد" على كامل سوريا, خاصة في ظل تفاقم الأوضاع بالداخل, إضافة إلى تدخل قوى دولية كبرى بأجندات خاصة تحول دون إعادة سيطرة "الأسد" على كامل التراب السورى مرة أخرى؛ وهو ما دفع طهران إلى صياغة مشروع يهدف إلى تحقيق مصالح إيرانية إستراتيجية تستند بالأساس على بعد جغرافى.

يقوم المشروع الايرانى على تأمين منطقة ما يسمى بـ "الهلال الشيعى", بداية من طهران, مرورا بالأراضى العراقية, ثم السورية عبر معبر الربيعة, ومناطق عفرين الواقعة تحت سيطرة الأكراد اتجاها نحو حلب وادلب ثم حمص, وتلك هى المناطق التى يُضمن سيطرة النظام عليها, فيما تتجسد أهداف المشروع الإيرانى فى التالى:

تأمين طريق وممر إيرانى للوصول إلى البحر المتوسط والانفتاح على ما ورائه.

الحفاظ على الإمدادات لكلا من نظام "الأسد"و "حزب الله" فى لبنان.

محاولة تغيير التركيبة الديموغرافية لهذه المنطقة, عن طريق تهجير السنة وزيادة النفوذ العلوى الشيعى.

وخير مثال على ذلك, ما قامت به قوات النظام فى داريا والمناطق السنية المحيطة بدمشق أواخر عام 2016, إضافة إلى ما جرى ابريل الماضي في اتفاق المدن الأربعة, والذى تدور أهم بنوده حول إفراج النظام عن 1500 معتقل من سجونه, إضافة إلى وقف إطلاق النار وإخراج أو بمعنى أكثر دقة تهجير المحاصرين من مخيم اليرموك فى دمشق, والتفاوض على تسليم السلاح الثقيل وخرائط الألغام من قبل المعارضة.

ولا زالت الساحة السورية تشهد حالات من الكر والفر بين النظام والمعارضة, والتى من المفترض أن تستمر فترة طويلة, خاصة فى ظل تدخل أطراف عدة ذوى مصالح متباينة ومشاريع مستقبلية متصادمة؛ وهو ما من شأنه أن يؤدى إلى استمرارية الصراع لفترة طويلة.

ثالثاـ جغرافيا الانتشار النووي:

تعد الولايات المتحدة أولى الدول امتلاكا للسلاح النووي؛ وقد سعت جاهدة إلى احتكاره, بل وحالت دون انتشاره, وبدعوى الحد من تزايد السعي للحصول على الأسلحة النووية, تم التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية عام 1968, والتي دخلت حيز التنفيذ فى مارس 1970, حيث نصت الاتفاقية على تعهد الدول الحائزة للأسلحة النووية بعدم نقلها إلى أى مكان, أو القيام بمساعدة أو تحفيز أى دولة غير حائزة للأسلحة النووية على صنعها, فيما تتعهد الدول الغير حائزة للأسلحة النووية بعدم قبول أو حيازة مثل تلك الأسلحة وعدم الخوض فى صنعها, وقد حددت الاتفاقية خمس دول فقط يحق لها امتلاك الأسلحة النووية, بحكم حيازتهم لها قبل إبرام الاتفاقية, وهى (الولايات المتحدة, روسيا, الصين, بريطانيا, فرنسا, الصين).

ومع ذلك نجد أن هناك دولا تمتلك أسلحة نووية غير تلك الدول الخمس, وهنا يلعب العامل الجغرافى دوراً بارزاً, حيث تمتلك بعض الدول السلاح النووى بحكم انضمامها إلى تحالفات نووية, وهو ما نجده فى ألمانيا , وهولندا, وتركيا, وبلجيكا, حيث تمتلك تلك الدول رؤوسا نووية على أرضها بحكم عضويتها فى حلف الأطلسى, فيما كشف معهد "هيرتاج فاونديشن" للحرية الاقتصادية, أدلة تثبت امتلاك الولايات المتحدة 480 رأسا نوويا فى أوروبا, حيث تحتفظ تركيا بنحو 90 رأسا نوويا أمريكيا فى ثلاثة قواعد ومخزنيين نووين.

ومما سبق نصل الى حقيقة مفادها أن الجغرافيا السياسية لا تقتصر على مجرد تأثير الجغرافيا على السياسة فحسب, وإنما قائمة بالأساس على علاقة تأثير وتأثر, فهناك الكثير من القرارات السياسية التى غيرت الوجه الجغرافى لمناطق كثيرة بالعالم, لعل أبرزها قرار مناطق النفوذ الآمنة التى تم تفعيله بسوريا مؤخرا, والذى ساهم بشكل و بآخر فى تقسيم نفوذ الدول الكبرى بالداخل السورى, حيث قسم هذا القرار خريطة سوريا سياسيا, بمنح أمريكا المناطق التى تهم أمن حلفاؤها؛ وهى الأراضى المتاخمة للأردن والأكرد واسرائيل, وأعطيت موسكو مناطق محاذية للبنان وأخرى تقطنها الأقليات وفيها قواعدها العسكرية, أما تركيا, فقد أوكلت بالمنطقة المتاخمة لها؛ ما يعنى ضرورة استيعاب أن البعد الجغرافى يمثل محددا رئيسيا من محددات السياسات الخارجية للدول, وهو ما أكد عليه "روبرت كابلان" أحد أشهر متخصصى الجغرافيا السياسية فى العالم, حينما قال : " ان خرائط لجغرافيا ثابتة الى حد كبير, بينما تبقى المواقف والتصريحات السياسية متغيرة, وتخضع كثيرا للموائمات".

أضف تعليق