«200 متر».. سينما فلسطينية عابرة للحواجز

«200 متر».. سينما فلسطينية عابرة للحواجز«200 متر».. سينما فلسطينية عابرة للحواجز

غير مصنف1-2-2021 | 17:29

دار المعارف فى أحد أفلام المخرج الفلسطيني، إيليا سليمان، تقوم فتاة جميلة بإعداد زانة طويلة، وتستخدمها للقفز بها فوق الجدار العازل، الذى أقامته إسرائيل، لكى يفصل بين الضفة الغربية وإسرائيل. كان خيالا رائعا، ولكنى أرى الآن فى هذا المشهد، إرهاصا بأفلام فلسطينية كثيرة تالية، لم يقم أبطالها بالقفز فوق الجدار العازل فحسب، والذى يزيد عذاب الفلسطينيين، ولكنهم قاموا أيضًا عبر، السينما والأفلام، بالقفز فوق كل الحواجز، وذلك بتقديم السياسى والاقتصادى والاجتماعى على جناح قصة إنسانية عادية مؤثرة، تلمس قلوب البشر، فى كل مكان وزمان. من تلك الأفلام العابرة للحواجز، بالمعنى الذى شرحته، الفيلم الفلسطينى "200 متر" من بطولة على سليمان، ومن كتابة وإخراج أمين نايفة، فالتشتت الاجتماعي، والظروف الاقتصادية التى تعيشها أسرة بطل الفيلم، تقدم هنا عبر حدث إنسانى بسيط، لا يمكن إلا التعاطف معه، والحكاية تقدم من خلال سيناريو محكم وجيد للغاية، ومن خلال رسم متقن للشخصيات والنماذج البشرية، وعبر تفاصيل الحياة اليومية، ولكن المغزى السياسى والاقتصادى حاضر بشكل غير مباشر، إنها أحوال شعب تحت الاحتلال، يعانى على كل المستويات. الفكرة إذن عابرة للأجناس واللغات، لأنها تتعلق برحلة أب فلسطينى لزيارة ابنه، الذى نقل إلى المستشفى، بسبب حادث سيارة، ولكن الفيلم لا يقنع بأفكاره الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإنما يجعل بطله الأب ينجح حرفيا فى تجاوز الجدار العازل. صحيح أن ذلك يتم بعد جهد كبير، ومشقة بالغة، وصحيح أنه يتم بشكل غير شرعى من خلال تهريب البشر، عن طريق الجانبين الفلسطينى والإسرائيلي، ولكن الأب ينجح فى النهاية فى الوصول إلى ابنه، فيتحقق معنى العبور مجازيا وواقعيا، ويؤكد السينمائى الفلسطينى بذلك أن الشعب قادر على الحياة، رغم كل الظروف، وقادر أيضا على أن يتجاوز كل العقبات التى تخلقها إسرائيل، من أجل جعل حياته مستحيلة، ومن أجل تشتيت العائلات، وتحويل حياة الناس إلى جحيم. يمكن تقسيم بناء الفيلم إلى مقدمة، وأحداث أساسية، فى المقدمة نتعرف على مصطفى، الذى يعمل نجارا مسلحا، وزوجته سلوى، وأطفاله الثلاثة، ونعرف  مشكلتهما الصعبة، فالأب يعيش فى الضفة الغربية مع أمه، والأم تعيش مع الأولاد الثلاثة فى إسرائيل، وسبب ذلك أن الأب يرفض أن يستخرج هوية إسرائيلية، تجعله يعيش مع عائلته، ويفضل أن يحصل على تصريح للعمل، لكى ينتقل من الضفة إلى إسرائيل، بينما تكيفت الأم سلوى مع الوضع، تحت ضغط ظروف الحياة، فهى تعمل عملين فى إسرائيل، وترى أنه لا بأس فى أن تلحق ابنها بفريق إسرائيلى لكرة القدم فى حيفا، بينما يرفض مصطفى ذلك بشدة، ويقترح أن يلتحق الابن بفريق للكرة فى طولكرم. تزور سلوى أولادها مصطفى وأمه فى الضفة، ويزورهم فى إسرائيل، وهى مستاءة لأن زوجها ليس بجانبها، المقدمة ترسم لنا صورة ممتازة لمعاناة اجتماعية واقتصادية، وتشتت عائلة، ومشاهد تدافع العمال الفلسطينيين فى هذا الفيلم، من أقوى ما شاهدت، حيث نراهم محشورين ومتكدسين وراء شبك من الحديد، ويبدون كما لو كانون يتدافعون فى ممر أحد السجون. لا تستغرق هذه المقدمة وقتا طويلا، حيث تستأثر رحلة  مصطفى لاختراق السور العازل بمعظم أحداث الفيلم، فقد أبلغلته سلوى بأن ابنهما مجد قد نقل للمستشفى بعد حادث سيارة، تصريحه الخاص لدخول إسرائيل مهترئ، وليس هناك وقت لاستخراج تصريح جديد، فلا مفر من اللجوء إلى التهريب، وهنا نصبح أمام فيلم محكم من أفلام الطريق، حيث نتعرف أيضا على نماذج مختلفة فى السيارة التى ستهرب مصطفى بعيدا عن الجدار العازل، مثل الفتاة الألمانية التى تصور فيلما عن تهريب الأشخاص بين الضفة وإسرائيل، وزميلها الفلسطينى الذى يريد حضور حفل زفاف أحد أقاربه فى إسرائيل، والشاب الذى يعشق محمد صلاح، ويريد أى عمل فى إسرائيل. ومن خلال تفاصيل متقنة، وشخصيات نكتشف عنها الكثير كلما اقتربنا من النهاية، ينجح مصطفى فى النهاية فى الوصول إلى ابنه فى المستشفى، ويؤكد مشهد النهاية البديع، أنه سيواصل حياته بالتواصل عبر إطفاء الأنوار وإشعالها مع أولاده، متجاوزا 200 متر فقط تفصلهما عن بعضهما البعض، كما سيواصل الحياة مع أمه، التى تسرد عليه حكاياتهما اليومية، وكأن أزمة العبور لم تكن سوى حدث عابر فى حياتهما المستمرة، وكأن الفلسطينى لن يموت، ولن يعدم وسيلة فى التواصل، وفى الاستمرار فى الحياة، رغم الحواجز والاحتلال. فى الفيلم وعى سياسى حقيقي، وذكاء بتقديم معلومات هامة مثل وجود 200 مستوطنة فى الضفة، ووجود نصف مليون فلسطينى مستعدون لابتلاع كل شيء، مع الإشارة إلى علاقات نتنياهو بترامب، ومحاولة فرض ما يسمى بـ "صفقة القرن"، وهناك أيضا ذكاء فى تقديم نماذج فلسطينية مختلفة مثل الأب والأم وسائق السيارة، ومثل شخصية المخرجة الألمانية التى تخفى سرا هاما، ومثل شخصية مرافق المخرجة الذى ينزل الأعلام الإسرائيلية وهما فى الطريق. لا يوجد إذن تنميط من أى نوع، وحتى الأب مصطفى، يتفهم سر المخرجة الألمانية رغم خطورته، ويعترف بأنها هى التى ساعدتهم على المرور من الحاجز بجواز سفرها الألماني، ولا ننسى ذكاء التفاصيل مثل بصمة إصبع مصطفى الجافة، والتى تمنعه من العبور، ولا ينقذه إلا تصريح العمل، وكأن البصمة ترفض اللعبة كلها، وكأنها تتمرد على إذلال الفلسطينيين العاملين فى إسرائيل من خلال المعابر المتكدسة بالبشر. فلسطين حاضرة فى كل شيء: فى تمسك مصطفى بهويته، وفى رفضه للهوية الإسرائيلية، فى الأغنية التى اختارها رنة لهاتفه، وفى الغناء داخل السيارة، والرقص مع رفقاء العمل، بل هى حاضرة فى أم مصطفى الحنون، التى تدير الحياة اليومية بكل بساطة، والتى تعنى بأحفادها الثلاثة، وتعوضهم عن البهدلة بين الضفة وإسرائيل. يتعاطف الفيلم مع الجميع، حتى مع السائق الفلسطيني، الذى يرتزق من عمليات التهريب، هو أيضا مغامر، ويريد أن يعيش، ويقدر تماما ظروف مصطفى، كأب ملهوف، يريد الوصول إلى ابنه المصاب فى المستشفى. ليس مطلوبا أن يقدم الفيلم حلا، يكفيه أنه رسم حالة، ومرر أفكاره عن مأساة العائشين تحت الاحتلال، ويكفيه أنه أتقن ترجمة فكرته، وعبر عنها بشكل مؤثر. ويكفيه تقديم التحية للقابضين على الوطن والهوية والحياة، وكأنهم يقبضون على الجمر.
    أضف تعليق

    مَن صنع بُعبع الثانوية العامة ؟!

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين
    تسوق مع جوميا

    الاكثر قراءة

    إعلان آراك 2