محمد أمين يكتب الفهود المصرية وصناعة الدواء

عقب ثورة 1952 أولت الدولة المصرية اهتمامًا بقطاع الدواء وصولًا إلى الاكتفاء الذاتي، حيث كانت صناعة الدواء الوطنية تغطي %10 فقط ويتم استيراد 90% لتغطية احتياجات البلاد من الدواء؛ وفي عام 1956 تشكلت لجنة للنهوض ب صناعة الدواء والتي نتج عن أعمالها إنشاء الهيئة العليا للأدوية عام 1957 وذلك لدراسة إنتاج خامات الأدوية، وفي عام 1961 تقرر قصر استيراد الأدوية على الهيئة العامة للأدوية ومع تأميم صناعة الدواء 1961 وإنشاء المؤسسة المصرية العامة للأدوية عام 1962 تم إنشاء شركات القاهرة والإسكندرية والنيل والعربية للأدوية، وتختص جميعها بإنتاج مستحضرات الدواء، حيث ارتفع الناتج المحلي من الدواء ليغطي 28.9% من احتياجات الدولة المصرية.

وخلال الفترة من 1962 وحتى عام 1975 ارتفع حجم تغطية المنتج محليًا من الدواء لاحتياجات السوق المصرية إلى 82% عام 1970 وإلى 84% عام 1975 بعد إضافة شركة النصر للكيماويات الدوائية وشركتين لتجارة الأدوية (الجمهورية والمصرية) ثم شركة العبوات الدوائية.

ثم انخفضت حجم تغطية المنتج المحلى لاحتياجات السوق المصرى من الدواء عام 1978 لتصل إلى 80.3% ثم ترتفع عام 1980 لتصل إلى 81.4% ثم تنخفض عامى 82 و1983 لتصل إلى 80% ؛ ويعود ذلك الانخفاض إلى ضعف دور الدولة فى توجيه شؤون الدواء. ثم ارتفع حجم الناتج المحلى من الدواء خلال الفترة من 1985 وحتى 1995 ليصل إلى 92.5% من احتياجات السوق وذلك بعد دخول القطاع الخاص وإنشاء هيئة القطاع العام للأدوية وسيطرة القطاع العام على 50% من الإنتاج المحلى والقطاع المشترك (العام والخاص) على 20% والقطاع الخاص على 30% .. إلا أن هذه الطفرة لم تكن مبنية على إنتاج الخامات المستخدمة لإنتاج الدواء، بل كانت مبنية على المنتج النهائى للمستهلك وظلت عملية استيراد المواد الخام من أوربا والولايات المتحدة والذى بلغ 80 إلى 85% من حجم المنتج المحلي. وظلت صناعة الدواء فى حالة تذبذب خاصة مع دخول الشركات العالمية من خلال إنشاء أفرع لها فى مصر وسيطرت خمس أو ست شركات على السوق فى الوقت الذى تقلصت فيه إنتاجية الشركات الوطنية التى كانت بمثابة صمام الأمان الاستراتيجى فى الأزمات.

ما سبق كان لا بد لنا من الحديث عنه قبل الحديث عن ذلك الإنجاز الذى شهدناه جميعًا يوم الخميس الماضى بافتتاح “مدينة الدواء المصرية”، ليصبح هناك نقطة فارقة فى تاريخ صناعة الدواء المصري، فى ظل أزمة طاحنة ضربت بالقطاع خلال الفترة من 2010 وحتى 2016، بعد خروج عدد من الشركات الأجنبية محدثة أزمة فى سوق الدواء المصرى عام 2016 حيث شهدت عجزًا فى إنتاج الأنسولين وبعض أدوية الأمراض المزمنة وانخفض حجم الاستيراد بعد تحرير سعر الصرف. كما شهد عام 2017 أزمة نقص البنج وفى 2018 عادت أزمة الأنسولين مرة أخرى حتى استطاعت الدولة السيطرة على الموقف وتوفير احتياجات السوق من الدواء.

لكن لم تنظر الدولة المصرية إلى صناعة الدواء من خلال حل الأزمات التى شهدها السوق المحلي، بل كان الأمر له رؤية أعمق وهدف استراتيجى واضح واستشراف للمستقبل والوصول بتلك الصناعة الوطنية إلى المكانة اللائقة. لم يقتصر الأمر على دراسة مشهد عابر بحثًا عن حل لأزمة، بل بناء صناعة وطنية تكون أحد دعائم الحفاظ على صحة الإنسان المصرى واكتمال ركائز المنظومة الصحية. رؤية متكاملة وحلم تم وضع أسسه وثوابته وفق رؤية علمية وبأيدى خبراء مصريين، وهذا ما أشار إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال افتتاح مدينة الدواء موجهًا التحية والتقدير للواء دكتور صلاح الشاذلي، الذى كان له دور كبير فى إنشاء مدينة الدواء حتى وافته المنية. فمنذ عام 2014 بدأ التحرك نحو الحلم لإنشاء مدينة دواء مصرية تكون بمثابة صمام أمان للسوق المصرى وأحد دعائم مشروع التأمين الصحى الشامل الذى جرى الإعداد له فى ذلك الحين. لم يكن الطريق سهلًا فى ظل تسارع عالمى فى سوق الدواء وسيطرة الشركات متعددة الجنسيات، وضعف الشركات المملوكة للدولة فى ذلك القطاع مع سيطرة الشركات الأجنبية على 85% من حجم المادة الخام.

من هنا كان المنطلق والتوجيه بضرورة الاستفادة من الكفاءات العلمية والقدرات المصرية فى ذلك القطاع، خاصة وأن حجم النباتات الطبية المصرية المصدَّرة إلى الخارج ليس بالقليل. وفى ظل تطورات صناعة الدواء وإنشاء تحالفات بين كبرى الشركات لإنتاج الأدوية الحيوية، كان توجيه الرئيس: “مش مسموح تحدث أى أزمة فى صناعة الدواء”، وهو ما ذكره د. تامر عصام رئيس هيئة الدواء المصرية (تأسست الهيئة طبقاً للقانون رقم 151 لسنة 2019، وتم تفعيلها باللائحة التنفيذية فى مارس 2020). كان الهدف من إنشاء الهيئة تطوير القطاع بالكامل فى ظل قيام الدولة بإنشاء أكبر مخازن استراتيجية للأدوية فى الشرق الأوسط توفر احتياجات السوق المصري، وتضمن نجاح المنظومة الصحية وتطورها والارتقاء بها للحفاظ على صحة الإنسان المصري.

بالتزامن مع ذلك، كان العمل يجرى لاكتمال أكبر مشروع لمشتقات الدم فى الشرق الأوسط، وهو ما يعد أضخم المشروعات الطبية. كما كان التوجيه من جانب رئيس الجمهورية عند لقائه بالمسؤولين عن تطوير القطاع: “اللى يشتغل معايا يبقى زى الفهد”. هنا تحركت “الفهود المصرية” بذكاء شديد واحترافية وعلم ودقة فى تنفيذ الاستراتيجية للوصول إلى الهدف وتحقيق الحلم (تطوير صناعة الدواء) للحفاظ على الأمن القومى المصري. وخلال السنوات الثلاث الماضية تم تداول 20 دواءً مبتكرًا فى مصر فى الوقت الذى كان يتم تداولها فى كل من أمريكا وأوروبا، وتمت السيطرة على أزمات نقص بعض الأدوية فتم توفير الأنسولين وبنج الأسنان وعدد من أدوية الأمراض المزمنة.

كما تم إنشاء مصنع لأدوية الأورام ومثبطات المناعة وترخيص وتشغيل المستحضرات البيولوجية ومشتقات البلازما؛ وثمة أربعة مشروعات عملاقة فى هذا المجال لتوطين تلك الصناعة، بالإضافة إلى أربعة مصانع للأنسولين والمضادات الحيوية وخطوط إنتاج بنج الأسنان وفق أحدث النظم العالمية. وبالنسبة للعلاج الهرموني، يتم إنتاج 74.5 % من احتياجات السوق المصري، وقريبًا سيتحقق الاكتفاء الذاتى والتصدير. كما استطاعت هيئة الدواء المصرية أن تجعل الدولة المصرية من الدول التى استطاعت تصنيع أدوية فيروس كورونا محليًا فقامت بتوفير مستحضرى “ريمديسفير وفافيبرافير” وتصنيعهم محليًا بسعر يصل إلى 10 و20% من سعرها العالمي. كما تم بناء معمل مرجعي، ومنذ افتتاحه تم تدشين أربعة معامل تخصصية من أغسطس 2020 وحتى تاريخه، ما أسهم فى استقبال عدد من الدراسات فى التخصصات المختلفة وإنجاز أكثر من 80% من تلك الدراسات. عملت “هيئة الدواء” من خلال منهجية علمية سريعة ومنظمة وفق محورين أساسيين متمثلين فى التوسع الرأسي، ما أسهم فى تكوين مخزون استراتيجى من المواد الخام ومستلزمات التشغيل يكفى من 6 إلى 9 شهور وذلك بهدف منع حدوث أى نقص فى الدواء، أما المحور الثانى فيتمثل فى التوسع الأفقى من خلال زيادة عدد مصانع الأدوية وخطوط الإنتاج.

بدأ التفكير فى “مدينة الدواء” منذ عامين ونصف تقريبًا، لتكون إحدى أذرع قوة الدولة، وإحدى أدوات نجاح مشروع التأمين الصحى الشامل، والمبادرات الرئاسية فى القطاع الصحي، وتستهدف مصر من إقامة مدينة الدواء أن تصبح مركزًا إقليميًا وعالميًا لصناعة الدواء. تعد “مدينة الدواء” من أكبر المدن على مستوى الشرق الأوسط، حيث تُقام على مساحة 180 ألف متر مربع على مرحلتين، الأولى بمساحة 120 ألف متر، وهى عبارة عن جزأين، الأول يضم مصانع إنتاج الأدوية العقيمة على 33 ألف متر مربع، وتتكون من 10 خطوط إنتاج، فى حين يضم الجزء الثانى خمسة خطوط إنتاج، فضلًا عن مخازن آمنة تشغل مساحة 7 آلاف متر بارتفاع 15 مترًا.

أما المرحلة الثانية من المشروع، فتقع على مساحة 60 ألف متر، وهى مخصصة لمصانع إنتاج الأدوية غير العقيمة والمعقدة مثل الأورام والهرمونات، وتصل الطاقة الإنتاجية إلى 150 مليون عبوة سنويًا، توفر ما تحتاجه الدولة من أدوية وفوارات وكافة أشكال الأدوية، وتتمثل أولوية التصنيع فى الوقت الحالى للأمراض المزمنة مثل الضغط والسكر وأمراض الكلى والمخ والأعصاب والقلب، بالإضافة للمضادات الحيوية، ما سيساعد فى ضبط أسعار الأدوية. تعتمد المدينة على الماكينات الحديثة من الماركات العالمية، وجُهِّزت بأحدث النظم العالمية، وتعمل كافة الماكينات آليًا، وسيتم طرح منتجات المدينة بعد عمليات الاختبار. تتمثل أهداف مدينة الدواء فى توفير دواء آمن وفعال للمواطن المصري، باعتبارها إحدى أذرع الدولة لمواجهة نقص الأدوية، بالإضافة لخطة تجعلها مركزًا إقليميًا للتعاون مع الشركات الأجنبية العالمية، بل والاتجاه للتصدير. كما يتم تطبيق أعلى معايير الجودة، وذلك عبر فلسفة تتمثل فى بناء الجودة بدلًا من مراقبتها، بالإضافة لتطبيق نظام حوكمة إلكتروني، يساعد فى متابعة كافة أشكال العمل إلكترونيًا. يعد افتتاح “مدينة الدواء” بمثابة نقطة انطلاق ل صناعة الدواء المصرية إلى المستوى العالمي وتأكيد على أن القيادة المصرية تدير ملفات الدولة باحترافية شديدة ورؤية تستشرف المستقبل وتواكبه.

أضف تعليق