أحيانا ما يصاب الكاتب بما يسمى "بالارتباك الذهنى"، حيث يجد نفسه مندفعا للتعليق على بعض الأحداث الجارية أو على تصريحات صحفية مخالفة لمنطق الأمور! ولكن الخبرة وبلوغه سن الرشد المهنى يحدا من هذا الاندفاع، فالكاتب يجب أن يختلف عن المواطن العادى الذى ينتظر منه التحليل المتعمق والمدعوم بالمعلومات والأرقام، والرأى المحدد المبنى على وقائع واضحة ومنطق سليم.
ولكن "مشكلة" أغلبنا.. أن المعلومات المطلوبة قد يصعب توافرها، كما أن بعض التصريحات الصحفية كثيرا ما تأخذ من سياقها الطبيعى فى الحوار، ويتم تجزأة الكلام والتركيز على تعبير محدد قد يكون قائله يستهدف به هدف غير معلن!
وهنا يحدث وما وصفته "بالارتباك الذهنى" فلا يجوز للكاتب أن "يتفرج" على ما يحدث حوله، وإنما يجب عليه أن "يشتبك" مع الأحداث الجارية بالتحليل والرأى الموضوعى.
أقول ذلك لسبيين، أولهما تصريح وزير الخارجية الصادم للرأى العام حول سد النهضة الإثيوبى، والثانى موقف الرأى العام المصرى حول ما يحدث فى غزة و فلسطين عموما.
وأعتقد أن وزير الخارجية السفير سامح شكرى يتمتع بخبرة وحكمة لا تغيب على أحد، فالرجل تنقل بين مواقع مهمة فى مسيرته المهنية، ويباشر مهام منصبه الحالى لأكثر من خمس سنوات متصلة، وعلى علم تام بما يدور ويحدث فى كواليس السياسية والدبلوماسية الدولية والإقليمية، ومن ثم لا يمكن أن يكون تصريحه "بأن الملء الثانى لسد النهضة لا يمثل لمصر أية مشكلة"، مجرد كلام عفوى أوردا على سؤال استفزازى! فهل هى "لعبة السياسة" أو الخداع الدبلوماسى؟ أتمنى ذلك وإلا ما معنى اتفاق 2015، وتلك المفاوضات الغير مجدية طوال السنوات العشر الماضية؟!
أما الموضوع الثانى فهو موقف الرأى العام المصرى حول ما يحدث فى فلسطين والعدوان الإسرائيلى الشرس على غزة والذى بلغ من شراسته أن أكثر من 52 طائرة إسرائيلية مقاتلة قامت بأكثر من 120 غارة على البشر والحجر وقتلت وأصابت ودمرت، فهل ينحاز الكاتب إلى اتجاه واضح فى الرأى العام المصرى عبّر عن نفسه من خلال وسائل التواصل الاجتماعى بأن غزة هى موطن ومقر الحمساويين الذين هاجموا السجون المصرية 2011، وقتلوا أبنائنا وهم يستعدون لإفطار رمضان فى شمال سيناء، خلاف الإنفاق وما يحدث فيها من تهريب سلاح وأشخاص ومخدرات ؟ والمعنى هل ندير ظهرنا لأهل غزة و فلسطين عموما، ونتركهم ومصيرهم فى تلك المواجهة الغير متكافئة مع الإسرائيليين؟
بالطبع لا يمكن أن نلوم أصحاب هذا الموقف الذى يطالب بالابتعاد عن الشأن الفلسطينى، فقد يكون مبنيا على أسباب شخصية مثل فقد عزيز أو تضرر مادى بسبب التهجير أو استمرار المواجهة مع الإرهاب على أرض سيناء، وقد يكون لأسباب سياسية حزبية ترى من الأفضل الانكفاء على أنفسنا والاهتمام بالداخل.. وكفى ما قدمناه!
وأنا أسأل هؤلاء: هل يمكن لمصر أن تنفصل عن محيطها وتتخلى عن عروبتها وتبتعد عن أشقائها؟ ثم إذا كنتم تلومون بعض الفلسطينيون (وبالأخص حماس) على ما فعلوه ضد مصر والمصريون، ألم يحدث أن رفع فريق من المصريين السلاح على إخوانهم لمجرد خلاف سياسى داخلى؟! بل أنهم مستمرون فى ذلك ويستعدون الغير على وطنهم وأهلهم من المصريين؟!
والمعنى أن "الخلاف" بين الأشقاء وارد وأسبابه كثيرة قد تكون موضوعية وقد تكون مصطنعة أو حتى ممولة، فبعض النفوس ضعيفة وأمّارة بالسوء! ولن أقول أكثر من ذلك..
ولكن هناك حقائق تتعلق بالأمن القومى المصرى وبانتمائنا العربى وبمحيطنا الإقليمى لا يمكن تجاهلها ولا يمكن الابتعاد عنها وعدم الاشتباك معها، فقد يعلم بعضا من الأجيال الجديدة أن "فلسطين" هى قضية العرب الأولى والدائمة، وأن جميع الحروب التى خاضتها مصر فى السنوات الماضية كانت بسببها، فهل ننتظر إلى أن يدخل الأعداء بيوتنا، أم نفعل كما فعل محاربينا القدماء مثل قطز وبيبرس والسلطان الغورى وصلاح الدين وغيرهم عندما اختاروا مكان وتوقيت المواجهة، نعم.. الظروف تتغير وتتغير معها أشكال المواجهات، وهذا ما تفعله مصر حاليا من خلال المساعدة المادية للأشقاء، وإعادة إعمار ما هدمه العدو، وعلاج المصابين، والدفاع عن القضية فى كافة المحافل الدولية.. وليس هذا جديدا على مصر.. فقد كانت هكذا فى عهد الفراعنة، ثم فى عهد المماليك العظام، ثم فى عهد محمد على، وأخيرًا فى العهد الناصرى الذى أحيا شعار القومية العربية والعروبة بعد أن دفنت فى رمال الصحراء..
مرة أخرى.. فلسطين هى قضية العرب وسوف تظل كذلك حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
حفظ الله مصر.. وألهم أهلها الرشد والصواب
عنوان:
مصر لن تتخلى عن دورها العربى والإقليمى وستظل الأخ الأكبر