يكتسب فيلم «عدّاد الكروت» أهميته بالأساس من اسم الفنان المشارك في إنتاجه، المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي، ومن اسم كاتب الفيلم ومخرجه بول شريدر، فالأخير هو كاتب سيناريوهات بعض أهم افلام سكورسيزي مثل «سائق التاكسي» و«الثور الهائج» و«الإغواء الأخير للمسيح»، وشريدر أيضا له أفلام هامة سابقة كمخرج مثل فيلم «ميشيما»، عن الكاتب الياباني الشهير الذي انتحر، احتجاجا على سيطرة أمريكا على بلاده.
ولكن موضوع الفيلم، رغم بعض الثغرات والملاحظات، هام أيضا بالنظر إلى فكرة تحول الحلم الأمريكي إلى كابوس، إننا، بشكل أو بآخر، أمام مأساة جديدة تثقل الضمير الأمريكي، تعادل إلى حد ما عقدة فيتنام، وتؤثر على فكرة العدالة وحقوق الإنسان، وتجعل بطل الفيلم أسير ذنب لا يمكن تبريره، يقوده إلى نوع مع العنف يذكرنا، باختلاف في التفاصيل، بانفجار بطل فيلم «سائق التاكسي»، بعد طول صمت، وبعد محاولة لم تنجح للانخراط في المجتمع، والعودة إلى الحياة.
فيلم «عداد الكروت» ايضا، وقد جعل بطله بيل تيل ( أوسكار إيزاك) يمتهن لعبة القمار، ويحاول أن يعيش من خلالها، يكاد يحول الحلم الأمريكي إلى مزيج من الحظ والحرفة غير المنتجة والعمل لصالح الكبار، الشخصية كما رسمها الفيلم بلا طموح حتى داخل مهنتها، وتقول إنها تريد تمضية الوقت ليس إلا، وحتى عندما يوافق بيل أخيرا على العمل مع لا ليندا (تيفاني هاديش)، الفتاة السمراء التي تشغّل محترفي القمار، بدعم ورعاية شخصيات غامضة تمنحهم الأموال للمقامرة، وتقتسم الأرباح معهم، حتى عندما يعمل بيل لصالح الآخرين، فإنه لا يريد ثراء ولا استقلالا، لأنه بطل مهزوم، إنه يريد أموالا لصديقه الشاب كيرك، الذي يبحث عن الانتقام ممن دمروا حياة أبيه.
نحن إذن أمام ثلاثة أجيال تهدم فكرة مثالية الحلم والنجاح والأسرة، مجموعة من الأبطال الضد بامتياز: جيل يمثله بيل ولا ليندا، بيل العسكري المتورط فى التعذيب فى سجن أبو غريب العراق، والذي قضى ثماني سنوات ونصف فى معسكر للتأديب، جراء الصور المنشورة له وهو يعذب العراقيين، يتحول بيل من رجل عسكري إلى مقامر، ونراه ينتقل من مدينة أمريكية إلى أخرى، يرضى بالأرباح البسيطة، رغم قدراته فى عد أوراق اللعب، بينما يكسب دائما شاب يرتدي العلم الأمريكي، ومعه اثنان يهتفان له باسم الولايات المتحدة فى سخرية واضحة من فكرة الوطن، الذي صار تميمة للفوز فى صالات القمار، بعد أن كان منذورا للمجد، ولرسالة الحرية.
ولا ليندا أيضا وجدت نفسها فى عالم القمار، بعد أن أحبت أحد الرجال، وهي شخصية عملية، ولا يمكن اعتبارها مسيطرة تماما على مصيرها، حيث تعمل لحساب أباطرة الدعم المالي للمقامرين، هؤلاء هم الذين يحصلون على نصيب الأسد، ويقول بيل فى حوار مع لا ليندا إن لاعبي القمار المهرة نصفهم عليهم ديون لهؤلاء الأباطرة، فاللاعب ملزم برد الأموال مستقبلا إذا خسر بأموال هؤلاء الأباطرة، هذا كابوس حقيقى للجيل، ينسف معنى الحلم، وسيأخذ بيل من السجن إلى السجن من جديد.
الجيل الثاني يمثله جون (ويليام دافو)، كما يمثله والد الشاب كيرك، جون الذي نراه بعد حرب العراق قد تحول إلى خبير ومحاضر أمني، كان أصلا جزءا من مشروع فى جوانتانامو يدرب العساكر الأمريكيين على الصمود أمام التعذيب، وعدم إفشاء الأسرار، فلما عمل جون فى العراق، تورط فى تعذيب العراقيين بشراسة، بل قام بتعليم والد كيرك، وكذلك بيل، أصول التعذيب، فلما تفجرت فضيحة سجن ابو غريب، سجنوا من ظهروا فى الصور مثل بيل، ولم يقتربوا من روسائهم مثل جون، هنا ضرب لفكرة العدالة والمساواة الأمريكية، وبسبب ال ذنب والتجربة العنيفة، يقوم والد كيرك بضربه بعنف، وتهرب أم كيرك، ثم ينتحر الأب، أي يتم تدمير عائلة بآثار عنف أبو غريب، مما يشوه فكرة العائلة الأمريكية المثالية، فيقرر كيرك أن ينتقم من جون، الهارب من مسؤوليته، ويلجأ كيرك إلى بيل، المدان والذي دفع الثمن فى السجن، لكي يشاركه الإنتقام من جون.
كيرك إذن هو الجيل الثالث الضائع، جيل الوسط الذي حطمت عائلته، وسيفقد كيرك حياته، إذ يقتله جون فعليا فى مواجهة بينهما، بعد أن دمر جون عائلة وحياة كيرك مجازيا، وهنا فقط سيتحرك بيل للإنتقام من جون، رئيسه السابق فى العراق، وهكذا تدمر الأجيال المهزومة بعضها البعض حرفيا، بل ولا يتم قضاء بيل على جون إلا بعد مباراة فى التعذيب المتبادل، وكأن ما فعلاه فى العراقيين، قد انتقل إليهما والى الأمريكيين، ونحن نشاهد حجرات بيل فى الفنادق طوال الوقت وقد غطت مقاعدها وأسرتها ملاءات بيضاء، ربطها بيل بنفسه فى قطع الأثاث، وكأنه يحاكي عملية تغمية وجوه العراقيين أثناء تعذيبهم فى سجن أبو غريب، وكأن الملاءات عنوان الكابوس، الذي لم يتخلص منه بيل، رغم ثماني سنوات ونصف قضاها فى معسكر التأديب، وهو معسكر أقرب إلى الإستراحة، فهناك تعلم بيل عد كروت اللعب، وأجاد لعبة البلاك جاك، فخرج مقامرا بعد أن كان جنديا محترفا، وهذه من جديد سخرة لامعة من بول شريدر لما وصل إليه رسل العدالة ونقل الديمقراطية إلى العراق، حيث تحولوا من جنود إلى رجال تعذيب إلى مساجين وصولا إلى تعلم القمار وألعاب الورق مثل البوكر والبلاك جاك، وبعد أن كانوا يحاربون الإرهاب والديكتاتورية، كما زعموا، فى العراق، صار بيل يطوف أمريكا فى مباريات قمار متواصلة ، ومعه صديقته السمراء لا ليندا.
هذا مجاز مخيف للكابوس وللسقوط، وللوجة القبيح والعنيف لأمريكا، وللدمار الذي يورثه التعذيب للقائمين به وعائلاتهم، ولا يخدش هذا المجاز سوى ثغرات واضحة، مثل عدم مساندة بيل لرغبة كيرك فى الانتقام مباشرة من جون، حيث يكتفي بيل فقط بلعب القمار، وجمع المال، لكي يسدد كيرك ديونه، وديون أمه، بينما عاني بيل مباشرة من الظلم، بسبب التعذيب الذي تعلمه من جون، ولن يتحرك بيل فى الإنتقام نهائيا من جون، إلا بعد مقتل كيرك.
المدهش أيضا أن بيل يكتب عن تجربة أبو غريب لنفسه، بدلا من أن يفضح جون علانية مثلا، والأكثر إدهاشا أن يحضر بيل محاضرة يتكلم فيها جون عن وسائل الأمن الحديثة، ووسط عدد قليل من الجمهور فى فندق، دون أن يتعرف عليه جون، مع أنه كان رئيسه المباشر، كما شاهدنا فى أحد مشاهد الفلاش باك.
هناك مشكلة عموما فى الفيلم هي الكثير من التركيز والتطويل فى مشاهد مباريات القمار، بحيث بدا أن الحكاية ليست عن كابوس حرب العراق، بقدر ما هي عن لعبة القمار فى أمريكا، ورغم محاولة شريدر الربط بين فوضى القمار، ومأساة مقامرة أمريكا فى العراق، ورغم السخرية من مصير مقاتل سابق فى العراق هو بيل، إلا ان اكتساح مشاهد القمار جعلت مغزى الحكاية الأصلى عن كابوس و ذنب العراق يتوارى أحيانا، وخصوصا أن بيل يركز تماما على مهنته الجديدة، ويؤديها باحتراف كامل.
وبينما أجاد شريدر اختيار ممثليه عموما ، وإسناد الأدوار المناسبة لهم، خصوصا أوسكار إيزاك فى دور بيل، ويليام دافو فى مشاهده القليلة فى دور جون، مع إجادة أقل لتيفاني هاديش فى دور لا ليندا، وتاي شيريدان فى دور كيرك، إلا أن شريدر كمخرج لجأ إلى كليشيهات بصرية ساذجة مثل استخدام العدسة المنفرجة التي تشوه الأجساد فى مشاهد سجن أبو غريب، وكان يمكن أن يحذف بعض المشاهد، لأنها جعلت إيقاع السرد بطيئا، بالذات فى صالات القمار المتكررة.
عودة بيل للسجن بعد قتل جون لا يغلق القوس، لأن لا ليندا ستكون الشخصية التي تعيد بيل إلى مفهوم الوطن بعد أن فقده، وكنا نسمع طوال الوقت أغنية تعبر عن ضياع بيل تقول إنه لم يعد يهتم بما لا يعنيه.
نهاية متفائلة تحاول استرداد روح الوطن، والإيحاء ببذرة أسرة تخلق إنسانا بلمسة إصبع كما فى لوحة مايكل أنجلو، محاولة للتكفير عن ذنب يشين الوطن نفسه، رغم أن بيل ليس بريئا أو ضحية، وهو ليس أقل سوءا فى العنف من جون، ولكنه لا يرد أن يدفع الثمن بمفرده، ولا يريد أن يحمل الملاءات البيضاء، لتغطية أثاث الفنادق، يريد تطبيق عدالته الفردية مثل كيرك، بعد أن فشلت العدالة الأمريكة، وياله من معنى خطير وصادم !