عانت كينيا الأمرَّين مع ارتفاع أعباء إنتاج السكر المحلي وسوء إدارة المصانع المحلية المنتجة له، ما تسبب في تراجع حاد لإنتاج البلاد من تلك السلعة الاستراتيجية على مدار العقدين الماضيين، وفي فتح الأبواب واسعاً أمام المهربين لينهلوا من مكاسب لم تكن في حسبانهم.
وقال تقرير "مركز بحوث الجريمة الوطني" في كينيا، إن السكر شكل ما نسبته 48 في المائة من السلع المهربة إلى داخل البلاد خلال عام 2020.
ويصف كبيرالباحثين في برنامج "مكافحة الجريمة المنظمة في أفريقيا" ENACT، ويليس أوكوما، عمليات تهريب السكر غير المشروعة بأنها "السر الحلو" الذي تشهده نقاط حدودية دولية ل كينيا يسهل اختراقها مع أوغندا (بوسيا، لواخاخا وسيو بورت)، ومع تنزانيا (سيراري ونامانجا)، ومع إثيوبيا (مويالي)، ومع الصومال (مانديرا).
ففي الغرب الكيني، تُدار عمليات تهريب السكر عبر تكتلات تنشط بمحاذاة الحدود الكينية- الأوغندية، وتتآمر فيها عصابات التهريب الكينية مع عمال المصانع الأوغندية الذين يقومون بتهريب السكر، وبيعه للكينيين عبر المناطق الحدودية مع كينيا. وتنساب عبوات وأجولة السكر من مصنعي "كامولي" و"كاكيرا" بصفة مستمرة، لتجد طريقها بسهولة إلى الأراضي الكينية، على حد وصف الباحث أوكوما.
وأوضح الباحث في مكتب نيروبي التابع لـ"مركز الدراسات الأمنية في أفريقيا" ISS، أن كبار المهربين يستخدمون شاحنات كبيرة للمرور بشحنات السكر الضخمة، أما الصغار منهم فيهربون كميات محدودة معتمدين في ذلك على مركبات عادية لنقل عبوات السكر المهربة إلى البلاد عبر نقاط حدودية تغيب عنها الرقابة في ولاية "ماراشي" ومدينة "بوسيا".
وتعتمد كميات السكر وأعداد العبوات المهربة في كل رحلة تهريب على نوعية وسيلة النقل المستخدمة وحجمها، فباستخدام الـ"بودا بودا" العادية- وهي دراجة باللغة الكينية مزودة بمساحة تحميل خلف مقعد السائق- يتمكن سائقوها من تحميل خمسة أجولة من السكر زنة الواحد منها 50 كيلوجراماً، أما استعمال "البودا بودا" البخارية (الموتوسيكل)، فيمكن المهربين من تحميل 10 أجولة بوزن إجمالي يصل إلى نصف طن (500 كيلوجرام) في كل رحلة، ويأتي استخدام السيارة "الفان" لتسع كميات مضاعفة تصل ما بين 22 و35 عبوة من أجولة السكر.
وقال أحد المواطنين، ويدعى تشارلز أولوش، لبرنامج ENACT، الذي يعمل تحت رعاية "معهد الدراسات الأمنية في أفريقيا" ISS وترعاه جهات دولية وإقليمية كالإنتربول والاتحاد الأوروبي، إن هناك مستودعات في بوسيا ومالابا يُعاد فيها تعبئة السكر المهرب من أوغندا تمهيداً لطرحه في الأسواق الكينية.
ولا يحصل السكر المهرب من أوغندا إلى الأسواق المحلية الكينية على أي شهادات من "مكتب المواصفات الكينية" تفيد صلاحيته للاستهلاك الآدمي، أو ربما تضاف إليه مكونات ضارة، على حد قول تقرير الباحث أوكوما.
وفي حديثه لبرنامج "مكافحة الجريمة المنظمة في أفريقيا" ENACT، يفيد نائب مفوض مقاطعة "تيسو الشمالية" على الحدود مع أوغندا، بيتر كارانجا، بأن مسؤولين في الولاية منخرطون في سلسلة التهريب السلعي عبر تقديم تسهيلات لنقل شحنات السكر غير المشروعة على الطرق السريعة في كينيا.
يشتري المهربون الكينيون السكر في أوغندا بـ41 دولاراً للجوال زنة 50 كيلوجراماً، ليعيدوا بيعه إلى تجار كينيين بـ50 دولاراً للجوال. ورغم أن تجار التجزئة الكينيين بوسعهم شراء عبوة السكر زنة 50 كيلوجراما بسعر 45 دولاراً من المُصنعين المحليين، لكن الإنتاج المحلي منه لم يعد متاحاً في الأسواق نظراً لشح المعروض منه جراء انهيار مصانع السكر المحلية.
كانت صناعة السكر شهدت انتعاشاً كبيراً حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، إذ بلغ إجمالي إنتاج البلاد منه 296 ألف طن في عام 1976، ووصل الاستهلاك المحلي في العام نفسه إلى 253 ألف طن، بفائض قابل للتصدير بلغ 43 ألف طن. غير أن الإنتاج المحلي من السكر شرع في التراجع منذ ثمانينيات القرن الماضي ما تسبب في حدوث فجوة كبيرة بين الإنتاج والطلب عليه في الأسواق.
ويشير الباحث إلى أنه من المتوقع أن يصل إنتاج السكر الكيني خلال العام الجاري 2021 إلى 650 ألف طن، بينما يتوقع أن يقفز الاستهلاك المحلي منه إلى مليون طن، ويعزى هذا الانهيار في صناعة السكر الكينية إلى أسباب عدة، حسبما يؤكد الباحث، من بينها ارتفاع تكاليف الإنتاج والمخرجات، وسوء الإدارة، وتراكم الديون على كاهل مصانع السكر المحلية. وللبرهنة على الأمر، يؤكد الباحث "أن تكلفة إنتاج السكر في كينيا، على سبيل المثال، يقال إنها أعلى بنسبة 60% عن مثيلتها في أوغندا".
ويسوق الباحث مسببات أخرى للانهيار، مبرزاً انحسار السعة الإنتاجية لصناعة السكر المحلية في كينيا، وعجز السياسات الحكومية على إنعاش الصناعة، وارتفاع الطلب الاستهلاكي على السلعة في البلاد، وهو أمر "خلق بيئة مثالية تزدهر فيها شبكات تهريب السكر في البلاد"، على حد وصف الباحث، الذي أكد أن النتيجة المنطقية أن تكبدت الحكومة خسائر كبيرة في إيراداتها، ولاسيما في العديد من مصانع السكر المملوكة للدولة.
ورغم جهود ملاحقة بعض المهربين على الحدود بين كينيا وأوغندا ومحاكمتهم ومصادرة الشحنات المهربة من السكر، فإن تلك التدابير القانونية والجهود لم تردع عصابات التهريب المنظمة. ويقول الباحث إن القضية بحاجة إلى استجابة شاملة من هيئات وكيانات عديدة لوقف تهريب السكر داخل كينيا، لذا يتعين تشكيل فرق تقصي وتحقيق تتمتع بصلاحيات قانونية تتألف من مسؤولين من هيئة الإيرادات الكينية، وجهاز الاستخبارات الوطني، وهيئة التحقيقات الجنائية، والشرطة للعمل معاً لتفكيك الشبكات الإجرامية المنخرطة في تلك الجرائم.
علاوة على ذلك، اقترح الباحث إمكان لجوء الحكومة إلى خفض الضرائب وتقديم حوافز لتمكين مصانع السكر المحلية على تقليص كلفة إنتاجها، بما يخفض من سعر بيعه في أسواق التجزئة وليتاح للمستهلكين المحليين بكلفة مواتية.
وأكد أنه لحماية كينيا من "طوفان السكر" القادم عبر قنوات التهريب غير المشروعة، يتعين على الحكومة الالتفات إلى الحالة الراهنة للحدود الكينية وافتقارها لمعايير الرقابة والسيطرة، وإلى ضرورة إيجاد السبل الكفيلة لحرمان مهربي السكر من مكافآته "الحلوة"، وتحويلها إلى "مرارة" يصعب نسيانها.