« إلفيس ».. المال والشهرة والحظ الحسن

« إلفيس ».. المال والشهرة والحظ الحسنمحمود عبد الشكور

الرأى5-7-2022 | 19:56

ليس فيلما عظيما بأي حال من الأحوال، ولكنه عمل مهم ومثير للاهتمام، بسبب رؤية مخرجه الأسترالي باز لورمان، الذي اشترك أيضا في الكتابة، لمسيرة حياة نجم الروك أند رول إلفيس بريسلي، أحد أشهر المغنين وأكثرهم نجاحا وتوزيعا وتأثيرا.

الفيلم الذي يحمل اسم "إلفيس"، يركز على معاناة المغني الراحل بعد الشهرة والنجاح والمال، وكأنها ضريبة باهظة يجب دفعها، كما أن محوره علاقة إلفيس بريسلي المعقدة والمتقلبة بمدير أعماله، هولندي الأصل، توم باركر، حيث يصفه الفيلم بصراحة بأنه رجل محتال، قام باستغلال إلفيس، وجعله ماكينة تقدم حفلات بلا توقف، وكان إلفيس وسيلة باركر، للتخلص من ديونه بسبب القمار، كما أن باركر مسئول في، رأي الفيلم عن هواجس ووساوس إلفيس من الموت، ومن الاغتيال .

من حيث الشكل، جاءت التجربة ببصمة باز لورمان المميزة، حيث القطعات السريعة، وإعادة بناء الأحداث بطريقة الفوتومونتاج، وقد أدهشني رأي بعض النقاد الأجانب، الذين شاهدوا الفيلم فى مهرجان كان 2022، الذين رأوا أن هذه الطريقة قد أفسدت الفيلم، بينما أعتقد أن طريقة لورمان الاستعراضية، وفهمه للموسيقى وللإيقاع كانا مناسبين تماما للموضوع، فالفيلم ليس عن موسيقى ومسيرة إلفيس الغنائية فقط، ولكنه أيضا عن الشو والاستعراض، وعن فن صناعة النجوم على الطريقة الأمريكية، والفيلم ليس عن إلفيس فحسب، ولكنه أيضا عن توم باركر، الذي يتولى السرد والتعليق، الذي يرى أن وجوده وراء إلفيس كمدير أعمال، كان سببا أساسيا فى نجومية مغني الروك واستمرارها، أي أن إلفيس كان محظوظا بوجود باركر فى حياته.

هذا الفيلم كذلك عن الاستعراض، وربما الاحتيال وشغل "البيضة والحجر" الضروريين للاستمرار، حتى لو كنا أمام موهبة استثنائية تستحق نجاحها مثل إلفيس، وحتى لو كانت شعبية المغني وبصمته، التي جعلته جزءا من ثقافة القرن العشرين، قوية ومعتبرة، المشوار طويل والمنافسة شرسة والبقاء على القمة أهم من الوصول إليها.

لكن أهمية المعالجة تنبع أيضا من تعدد زوايا قراءة الفيلم، هناك أولا خصوصية المجتمع الأمريكي، وخصوصية الفترة، التي صعد فيها نجم إلفيس، من العام 1954، إلى عام 1977 سنة وفاته عن عمر لا يتجاوز ال 42 سنة.

الفيلم يجعل الصراع مرتبطا بالمجتمع نفسه وصراعاته، بالذات فيما يتعلق بالتفرقة العنصرية ضد السود، فقد تأثر إلفيس بالأغنيات الريفية، وبموسيقى الزنوج، بل وتأثر برقصهم فى مدينته ممفيس فى تنيسي، ورفْض إلفيس فى البداية من التيارات المحافظة البيضاء، كان فى ظاهره احتجاجا على حركة رجليه، واهتزازات جسده غير الأخلاقية، التي تحمل إيحاءات جنسية، ولكن فى باطنه كان رفضا لسيطرة ثقافة وأغنيات ورقصات الزنوج الإفريقية، وهذا المعنى يقوله مباشرة أحد أعضاء مجلس الشيوخ، وبسبب لحظة الصراع هذه بين البيض والسود، يقبض على إلفيس؛ لأنه أصر على تقديم طريقته الخاصة الحرة، ويتم إرساله للخدمة العسكرية فى ألمانيا.

سيتواصل خط الصراع العنصري والعنف داخل أمريكا فى السيتينيات مع اغتيال مارتن لوثر كينج، وسيحزن إلفيس على اغتياله، ولكن تقديمه "كظاهرة أمريكية "حاضر طوال الفيلم، إنه التعبير عن أمريكا مختلفة ومتمردة على الجيل السابق، وباركر يقول لإلفيس إن ذهابه إلى ألمانيا سيجعله يعود أمريكيا خالصا، قاصد بذلك أنه سيرضي بذلك المحافظين، ولكن إلفيس سيعود أمريكيا من نوع جديد، حيث سيصعد صوت التمرد، وستكون حركة جسده العنيفة تعبيرا عن ذلك، وإن كان الفيلم يقدم التحية أيضا للقيم الأمريكية العامة مثل فكرة تحقيق الحلم، وفكرة الأسرة، حيث يقدس إلفيس والدته ويساهم فى تغيير أحوال أسرته ماديا.

وينتبه باركر ، من ناحيته إلى دور الأسرة، فيجعل من والد إلفيس مديرا شكليا لأعماله، ويتحدث طوال الوقت عن "مؤسسة بريسلي"، أي عائلته الصغيرة، وعندما تموت أم بريسلي، يقدم باركر نفسه كأب بديل، وكأم بديلة أيضا، هي الأسرة إذن من جديد كأيقونة أمريكية، حتى لو كان إلفيس عنوانا على أمريكا جديدة، أكثر تمردا و أمريكا أكثر اعترافا بدور السود الثقافى والفني.

على مستوى آخر، يمكن قراءة العلاقة بين إلفيس وباركر باعتبارها صراعا بين المثالية والروح البراجماتية، إلفيس مفتون بقصص مارفيل وأبطالها الخارقين، ويحب الغناء، ويجد فيه سعادة قصوى، ويبدو كما لو كان لا يريد سوى رفاهية أسرته، وابتعادها عن الفقر، ويتمرد على تعليمات باركر، لأنه لا يحب أن يقلد غيره، أو أن يرضخ لآراء المنتجين، شخص بهذه النظرة المثالية المحبة للجمهور، كان لابد أن يصطدم مع مهاجر محتال، لم يوفق أوضاعه الشرعية رغم هجرته إلى أمريكا، باركر لم يكن يحمل أيضا جنسية محددة، وهو يعبر عن منطق تجاري بحت، فى استغلال نجاح إلفيس المدوي، كما أنه لا يرى عيبا فى هذا الاستغلال، ويقول لإلفيس بوضوح أنه أفاده مقابل ما أخذه منه.

إنها أمريكا البراجماتية، فى مواجهة أمريكا المتمردة والمختلفة، ورغم وصف باركر الصريح فى الفيلم بالاحتيال، إلا أن الفيلم يقول إن له دورا أساسيا فى نجاح إلفيس، فكأننا أمام تزاوج بين أمريكا الحالمة، و أمريكا البراجماتية.

الأمر معقد للغاية، والموهبة وحدها لا تكفي، وعقد بريسلي المستمر لعدة سنوات مع فندق انترناشيونال فى لاس فيجاس، أضاف المزيد من النجاح والمال لبريسلي، وخدم باركر فى التخلص من ديونه فى نفس الوقت، وغناء إلفيس الحالم فى قلب مدينة المال والقمار، دليل جديد على هذا التزاوج.

على مستوى الموهبة الفردية، فإن الفيلم يمنح الفرد والروح الفردية إطراء عاليا ومستحقا، ليس فقط بسبب تمسك إلفيس باختيار الموسيقى والشكل الذي يريد، ولكن أيضا فى حضور شخصيته وصفاته الفردية، حتى فى لحظات ضعفه، وشعوره العارم بالوحدة، لقد كان تعبيرا عن شعور الفرد الأمريكي بذاته وبموهبته.

ليست مصادفة أن يكون مثله الأعلى جيمس دين، الممثل الذي لمع كالشهاب، الذي عبر عن روح الفرد الأمريكي التمرد والمختلف، كان إلفيس يريد أن يكون ممثلا لامعا مثل دين، ولكن المغني الشهير لم ينجح كممثل، وإن حقق فى رأيي فردية دين وشخصيته المتمردة فى مجال الغناء، لقد كان إلفيس حلم دوما أن يطير إلى صخرة الأبدية، مثل بطل قصص مارفيل، وحقق ذلك برحيله فى ذورة النجاح والمجد، وحققه كذلك بشعبيته المستمرة والعابرة للأجيال رغم موته.

نحن إذن أمام موهبة غيرت تاريخ الموسيقى، واستهلكت تجاريا حتى الموت، أو كما يقول باركر فإن إلفيس مثل الطائر الذي لا يمتلك ساقين، فيظل يطير إلى الأبد، ينام فى الهواء، فإذا نزل إلى الأرض مات، وهذا هو ثمن النجاح والخلود، وهي فكرة متكررة فى كثير من أفلام مشاهير الفن والغناء والتمثيل.

ربما كان من الممكن ضغط تفصيلات كثيرة، بالذات فى فترة ما بعد اغتيال مارتن لوثر كينج، وربما لم تأخذ المواقف الدرامية المؤثرة حقها، رغم وجود نماذج جيدة لها، وربما لم يشفع اجتهاد أوستن باتلر فى دور إلفيس فى تعويض حضور وكاريزما إلفيس المعروفة، ولكن توم هانكس فى دور توم باركر كان رائعا، لقد تغير وجهه وجسده تماما بالماكياج وبالمؤثرات البصرية، وطريقته المصطنعة فى نطق الكلمات هي مفتاح شخصيته المريبة والمصطنعة، إنه يعبر طوال الوقت عن ثقة مستعارة، ويبدو أحيانا مثل أراجوز، ولكنه يحب إلفيس ويؤمن جدا بموهبته، هو أيضا يريد أن يضع قدما فى أمريكا، ويعرف قانون الشو والاستعراض، ويدرك لعبة المرايا والميديا، ومشهد لقائه مع ألفيس فى بيت المرايا، من أهم مشاهد الفيلم، ومن أفضلها أيضا.

باز لورمان يقدم عالم الموسيقى والاستعراض من وجهة نظره، والمونتاج واللقطات القصيرة وسيلتا تحقيق تلك الرؤية، إنه يقدم ما يشبه الأوبرا المصورة للحكايات، وفيلم "إلفيس" ليس مجرد سرد يمكن أن تعرفه من الكتب ودوائر المعارف، ولكنها حكاية إلفيس وقد صارت عرضا موسيقيا، وتجربة بصرية صاخبة تمثل صخب حياة بطلها، بهرجة ملابسه وحركته الزائدة تحولت هنا الى قطعات سريعة، وألوان وزخرفة بصرية وشكلية فى كل عناصر الفيلم، بما فى ذلك فى الأفيش.

"إلفيس" شو كبير عن أشهر مغني، وشو كبير عن المجتمع الأمريكي، الذي جمع بين موهبة شاب وسيم، واحتيال مهاجر عجوز، بل إن إلفيس نفسه يترجم تناقضات وطنه: وجه رقيق أنثوي، بماكياج واضح، وصوت غليظ وخشن، وجسد يتلوى تمردا، وينقل نشوته إلى الفتيات، فكأنهن ممسوسات بكهرباء خارقة.

أضف تعليق

حكايات لم تنشر من سيناء (2)

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2